• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

القرآن الكريم والكمال البشري

القرآن الكريم والكمال البشري
◄قال تعالى: (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (هود/ 105-108). وقال: (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (المائدة/ 119). وقال: (لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة/ 88-89). للكمال البشري مفهوم واحد واضح لا يختلف فيه اثنان، كما لا يختلف الناس في فهم معنى الوجود والنور. وإنما الإختلاف كلّ الإختلاف في مصاديق الكمال. فقد يرى البعض شيئاً مصداقاً للكمال، ولا يراه الآخر مصداقاً لذلك. إنّ لكل إنسان مثلاً أعلى في الحياة يسعى حثيثاً للوصول إليه، فهو يستهدفه في حياته، ويكون جامعاً لآماله، ويكون هو الدافع العميق والأصيل في وجوده في كلّ تصرّفاته وطموحاته. فالكمال هو القمّة التي يتحرّك باتجاهها الإنسان في حياته. ولا نكاد نجد إنساناً ليس له طموح في الحياة، أوله طموح لأمر مجهول في قرارة نفسه. إنّ كلّ إنسان مفطور على حبّ ذاته، فهو يحب أن يكون سعيداً وفائزاً في كل شؤون الحياة. ولهذا يصحّ أن نقول إنّ كلّ إنسان – مهما كانت رؤيته نحو الكون والحياة – يريد الفوز والفلاح في الحياة. إذاً الفوز والسعادة والفلاح كلمات تعبّر عن مفهوم مشترك يقصده كل إنسان حينما يبدأ حياته الشعورية، ويبدأ سعيه الحثيث نحو الكمال (نحو ما يراه كمالاً له وسعادةً وفلاحاً). إنّ الكمال مطلوب لكل إنسان، ولا يمكن أن نتصوّر من يغفل عن ذلك أن يتنازل عنه. إنّ الناس بالرغم من اختلاف درجات ثقافتهم واتجاهاتهم، وعقائدهم في الحياة، فإنّهم لا يختلفون في امتلاك هذا الطموح نحو الكمال. إنّ الطموح نحو الكمال مع المثل الأعلى الذي يختاره الإنسان في حياته هو الذي يفسّر لنا كل عمر يصدر من الإنسان باختياره، ويكون هو الداعي القريب أو البعيد لإيجاده. وقد أوضح لنا القرآن الكريم موقفه من هذا المبدأ من خلال: 1-    تعليله لضرورة اكتساب الإيمان بالله تعالى، والعمل الصالح في الحياة الدنيا بأنّهما معاً ينتجان الفوز والفلاح الأبديين، وتعليله لضرورة اجتناب الكفر والشرك والنفاق والفسق بأنها توجب الخيبة والخسران والشقاء الأبدي. 2-    وهكذا تعليله لوجوب الصوم بأنّه يحقق للمؤمن مَلَكة التقوى، ثمّ تعليله للزوم تحصيل التقوى بأنّه يؤدّي إلى الفلاح. بينما لم يعلّل القرآن ضرورة تحصيل الفلاح أو ضرورة التخلّص من الشقاء. إنّ تعليل الأحكام الإلهية وتعليل السلوك البشري وتوجيهه وجهة تؤدي إلى الفوز والفلاح وتبعده عن الخسران والشقاء... إلى جانب السكوت عن تعليل لزوم تحصيل السعادة... كلّ هذا يفيدنا ما يلي: 1-    إنّ مطلوبية السعادة والفوز والفلاح التي هي تعبير آخر عن الكمال المنشود لكل إنسان لا تحتاج إلى تعليل لأنها مطلوبية ذاتية. فإن كل إنسان ذي شعور وعقل وإرادة إنما يكدح في الحياة لأجل تحصيل الكمال الذي يتجسّد في السعادة والفوز والفلاح. والكدح لغير هذا يكون لغواً وعبثاً. وإن اختلف الناس في تصوّرهم لمصداق السعادة والفلاح. 2-    والقرآن الكريم باعتباره كتاب هداية وإرشاد، فمن الطبيعي أن يرشد الإنسان إلى ما يكون فلاحاً له، ويُعدّ فوزاً حقيقياً وسعادة واقعية له، ما دامت الرؤى حول واقع السعادة وحقيقة الفلاح والفوز غير متقاربة ولا متّحدة. 3-    إنّ سلوك الإنسان يحتاج إلى توجيه وترشيد وتعليل. وإنّ الداعي الجدير بالتركيز عليه هو حبّ السعادة والفلاح وكراهة الشقاء والخسران، وهذان الداعيان أصيلان وفطريان ويستمدان فاعليتهما من عمق وجود الإنسان. 4-    إنّ الإنسان قد لا يكتشف ما هو كماله اللائق به بسهولة وبسرعة في بداية الشوط من حياته، وإن اكتشف ذلك فقد لا يقتنع به ولا يؤمن به إيماناً كاملاً. ومن هنا فالعقبة التي تقف عادة أمام وصول الإنسان إلى كماله اللائق به تتلخص في أحد أمرين: أ‌-     الجهل بالكمال اللائق بالإنسان، أو عدم الإيمان به باعتباره كمالاً لائقاً به. ب‌- الجهل بما يؤدّي إلى الوصول إلى هذا الكمال اللائق، أو عدم الإيمان به. ومن هنا يتصدّى القرآن بشكل حثيث ليوضح للإنسان مصداق كماله اللائق به. يحاول – بشتّى الأساليب – أن يصوّره له بنحوٍ ينتج الإيمان به. كما إنّه يتصدّى لتوجيه سلوكه الاختباري توجيهاً منبعثاً من حبّه للكمال والسعادة، أو بغضه وخوفه من الشقاء والخسران، وبهذا لا يتحكّم في السلوك الاختباري للإنسان بلسان القانون الجاف، بل يحاول إيجاد الداعي المؤثّر، ويهيّئ الظروف الكافية لتحصل للإنسان المفكّر والواعي القناعة الكافية بلزوم اختيار هذا النوع من السلوك الذي يراه القرآن الكريم محقّقاً للسعادة الواقعية ومبعداً عن الشقاء الحقيقي. ولأجل أن نستلهم رؤية القرآن في هذا المجال يجدر بنا أن ندقّق في الآيات التي أشرنا إليها في بداية الموضوع، وهي نموذج واحد من مجموعة النماذج التي قدّمها القرآن الكريم، وأكّدها بشتّى أنواع التأكيد، ليحصل الإنسان على الأهداف المرسومة له بملء إرادته وكامل اختياره. لاحظ قوله تعالى في سورة هود: (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ... * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ...). فلكل إنسان مصيره ونهايته (التي يحققها له عمله الاختياري وسلوكه الإرادي) كما صرّح بذلك القرآن الكريم بقوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى) (النجم/ 39)، وقوله: (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (التحريم/ 7)، وقوله: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (المدثر/ 38)، وقوله: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) (الإسراء/ 7). والشقاء الحقيقي يتجسّد في استحقاق النار (فما خيرٌ بخيرٍ بعده النار) والسعادة الحقيقية تتجسّد في استحقاق الجنّة (وما شرّ بشرٍّ بعده الجنّة). أمّا كيف يحقّق سلوك الإنسان للإنسان مصيره النهائي؟ فلنلاحظ قوله تعالى في سورة المائدة: (هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (المائدة/ 119). وقوله تعالى حكاية وتقريراً لكلام إبراهيم الخليل (ع): (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء/ 87-89). وقوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) (الأعلى/ 14-15)، وقوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) (الشمس/ 9). إنّ التعبير عن السعادة العظمى بالفلاح وبالفوز العظيم يستحق الإنتباه. وقد جمع القرآن الكريم بين الفلاح والفوز العظيم في قوله تعالى في سورة التوبة: (لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة/ 88-89). هذا هو موقف القرآن الكريم من طموح الإنسان نحو الكمال، ومن الكمال اللائق بالإنسان ليطمح إليه بكل قواه ووجوده. والمصطلحات التي ترشدنا هنا لموقف القرآن الكريم من هذا المبدأ هي: 1-    السعادة والشقاء ومشتقاتهما وما يفي مفادهما. 2-    الفوز ومشتقاته وما يقابله. 3-    الفلاح ومشتقاته وما يقابله. 4-    الآخرة. 5-    المنتهى. 6-    المصير. 7-    الجزاء. 8-    الربح والخسران والخزي. 9-    كل الآيات التي تكفّلت تطبيق المصير أو السعادة أو الفوز على المصاديق التي يرتضيها خالق الإنسان للإنسان. 10-                        كل الآيات التي علّلت أنواع سلوك الإنسان، وأبرزت نتائج كل صنف بلام التعليل أو لعلّ المفيدة للترجّي... مثل قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (الرعد/ 2)، و(لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) (النحل/ 81). إذن تشخيص الكمال اللائق بالإنسان وتعيين مصداقه الواضح بحيث لا يبقى للإنسان إبهام عند تصوّره هو من أهمّ ما تكرّم به القرآن الكريم في عطائه للإنسان الذي أراد له الهداية والوصول إلى كماله المنشود.►   المصدر: مجلة (رسالة الثقلين/ العدد 6 لسنة 1993م)

ارسال التعليق

Top