• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

عناصر المجتمع في القرآن الكريم/ ج (7)

عناصر المجتمع في القرآن الكريم/ ج (7)
خرجنا مما سبق بنظرية تحليلية قرآنية كاملة لعناصر المجتمع ولأدوار هذه العناصر وللعلاقة القائمة بين الخطين المزدوجين في العلاقة الاجتماعية، خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، وخط علاقات الإنسان مع الطبيعة، وانتهينا على ضوء هذه النظرية القرآنية الشاملة إلى انّ هذين الخطين أحدهما مستقل عن الآخر استقلالاً نسبياً ولكن كل واحد منهما له نحو تأثير في الآخر على الرغم من ذلك الاستقلال النسبي، وهذه النظرية القرآنية في تحليل عناصر المجتمع وفهم المجتمع فهماً موضوعياً تشكل أساساً للاتجاه العام في التشريع الإسلامي، فإنّ التشريع الإسلامي في اتجاهاته العامة وخطوطه يتأثر وينبثق ويتفاعل مع وجهة النظر القرآنية والإسلامية إلى المجتمع وعناصره وادوار هذه العناصر والعلاقات المتبادلة بين الخطين، هذه النظريات التي قرأناها والتي انتهينا إليها على ضوء المجموعة المذكورة سابقاً من النصوص القرآنية، هذه النظريات هي في الحقيقة الأساس النظري للإتجاه العام للتشريع الإسلامي، فإنّ الاستقلال النسبي بين الخطين، خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان وخط علاقات الإنسان مع الطبيعة، هذا الاستقلال النسبي يشكل القاعدة لعنصر الثبات في الشريعة الإسلامية والأساس لتلك المنطقة الثابتة من التشريع التي تحتوي على الأحكام العامة المنصوصة ذات الطابع الدائم المستمر في التشريع الإسلامي، بينما منطقة التفاعل بين الخطين، بين خط علاقات الإنسان مع الطبيعة وخط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، منطقة التفاعل والمرونة تشكل في الحقيقة الأساس لما أسميناه في كتاب "اقتصادنا" بمنطقة الفراغ، تشكل الأساس للعناصر المرنة والمتحركة في التشريع الإسلامي، هذه العناصر المرنة والمتحركة في التشريع هي انعكاس تشريعي لواقع تلك المرونة وذلك التفاعل بين الخطين، والعناصر الأولى الثابتة والصامدة في التشريع الإسلامي هي انعكاس تشريعي لواقع تلك المرونة وذلك التفاعل بين الخطين، والعناصر الأولى الثابتة والصامدة في التشريع الإسلامي هي انعكاس تشريعي لذلك الاستقلال النسبي الموجود بين الخطين، بين خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان وخط علاقات الإنسان مع الطبيعة، ومن هنا نؤمن بأنّ الصورة التشريعية الإسلامية الكاملة لمجتمع هي في الحقيقة تحتوي على جانبين، تحتوي على عناصر ثابتة، وتحتوي على عناصر متحركة ومرنة، وهذه العناصر المتحركة والمرنة التي ترك للحاكم الشرعي ان يملأها فرضت أمام مؤشرات إسلامية عامة أيضاً لكي يملأ هذه العناصر المتحركة وفقاً لتلك المؤشرات الإسلامية العامة، وهذا بحث يحتاج إلى كلام أكثر من هذا، تفصيلاً وإطناباً، من المفروض أن نستوعب هذا البحث إن شاء الله تعالى لكي نربط الجانب التشريعي من الإسلام بالجانب النظري التحليلي من القرآن الكريم لعناصرالمجتمع، وبعد ذلك يبقى علينا بحث آخر في نظرية الإسلام عن ادوار التاريخ، عن ادوار الإنسان على الأرض، فإنّ القرآن الكريم يقسم حياة الإنسان على الأرض إلى ثلاثة أدوار، دور الحضانة، ودور الوحدة، ودور التشتت والاختلاف. وهذه أدوار ثلاثة تحدث عنها القرآن الكريم، بين كل دور الحالات والخصائص والمميزات التي يتميز بها ذلك الدور، هذا أيضاً بحث سوف نخرج منه بنظرية شاملة كاملة لهذا الجانب من تاريخ الإنسان، كل ذلك لا يمكن أن يسعه يوم واحد، وبحث واحد اذن فمن الأفضل أن نؤجل ذلك، وننصرف الآن من منطقة الفكر إلى منطقة القلب، من منطقة العقل إلى منطقة الوجدان، أريد أن نعيش معاً لحظات بقلوبنا لا بعقولنا فقط، بوجداننا، بقلوبنا، نريد أن نعرض هذه القلوب على القرآن الكريم بدلاً عن ان نعرض أفكارنا وعقولنا، نعرض صدورنا، لمن ولاؤها؟ ما هو ذاك الحب الذي يسودها ويمحورها ويستقطبها؟ إنّ الله سبحانه وتعالى لا يجمع في قلب واحد ولاءين، لا يجمع حبين مستقطبين. امّا حب الله وأما حب الدنيا، اما حب الله وحب الدنيا معاً فلا يجتمعان في قلب واحد، فلنمتحن قلوبنا، فلنرجع إلى قلوبنا لنمتحنها، هل تعيش حب الله سبحانه وتعالى، أو تعيش حب الدنيا، فإن كانت تعيش حب الله زدنا ذلك تعميقاً وترسيخاً، وان كانت "نعوذ بالله" تعيش حب الدنيا، حاولنا أن نتخلص من هذا الداء الوبيل، من هذا المرض المهلك، إنّ كلّ حبّ يستقطب قلب الإنسان يتخذ إحدى صيغتين واحدى درجتين. الدرجة الأولى ان يشكل هذا الحب محوراً وقاعدة لمشاعر وعواطف وآمال وطموحات هذا الإنسان، قد ينصرف عنه في قضاء حاجة في حدود خاصة ولكن يعود، سرعان ما يعود إلى القاعدة لأنّها هي المركز، وهي المحور، قد ينشغل بحديث، قد يتشغل بكلام، قد ينشغل بعمل، بطعام، بشراب، بمواجهة، بعلاقات ثانوية، بصداقات، لكن يبقى ذاك الحب هو الحور، هذه هي الدرجة الأولى، والدرجة الثانية من الحب المحور ان يستقطب هذا الحب كل وجدان الإنسان، بحيث لا يشغله شيء عنه على الاطلاق، ومعنى انّه لا يشغله شيء عنه انّه سوف يرى محبوبه وقبلته وكعبته اينما توجه، اينما توجه سوف يرى ذلك المحبوب، هذه هي الدرجة الثانية من الحب المحور هذا التقسيم الثنائي ينطبق على حب الله وينطبق على حب الدنيا، حب الله سبحانه وتعالى، الحب الشريف لله المحور يتخذ هاتين الدرجتين، الدرجة الأولى يتخذها في نفوس المؤمنين الصالحين الطاهرين الذي نظفوا نفوسهم من أوساخ هذه الدنيا الدنية هؤلاء يجعلون من حب الله ومحوراً لكل عواطفهم ومشاعرهم وطموحاتهم وآمالهم، قد ينشغلون بوجبة طعام، بمتعة من المتع المباحة، بلقاء مع صديق، بتنزه في شارع، ولكن يبقى هذا هو المحور الذي يرجعون إليه بمجرد أن ينتهي هذا الانشغال الطارئ. وأمّا بالدرجة الثانية فهي الدرجة التي يصل إليها أولياء الله من الأنبياء والأئمة – عليهم أفضل الصلاة والسلام – "عليّ بن أبي طالب" الذي نحظى بشرف مجاورة قبره، هذا الرجل العظيم كلكم تعرفون ماذا قال، هو الذي قال "بأني ما رأيت شيئاً إلّا ورأيت الله معه وقبله وبعده وفيه" لأنّ حب الله في هذا القلب العظيم استقطب وجدانه إلى الدرجة التي منعه من أن يرى شيئاً آخر غير الله حتى حينما كان يرى الناس، كان يرى فيهم عبيد الله، حتى حينما كان يرى النعمة الموفورة كان يرى فيها الله سبحانه وتعالى دائماً هذا المعنى الحرفي، هذا الربط بالله دائماً وأبداً يتجسد أمام عينه لأن محبوبه الأوحد، ومعشوقه الأكمل، قبلة آماله وطموحاته، لم يسمح له بشريك في النظر، فلم يكن يرى إلّا الله سبحانه وتعالى. هذه هي الدرجة الثانية، نفس التقسيم الثنائي يأتي في حب الدنيا، الذي هو رأس كل خطيئة على حد تعبير رسول الله (ص)، حب الدنيا يتخذ درجتين: الدرجة الأولى أن يكون حب الدنيا محوراً للإنسان، قاعدة للإنسان في تصرفاته وسلوكه يتحرك حينما تكون المصلحة الشخصية في أن يتحرك، ويسكن حينما تكون المصلحة الشخصية في أن يسكن، يتعبد حينما تكون المصلحة الشخصية في أن يتعبد وهكذا، الدنيا تكون هي القاعدة، لكن أحياناً أيضاً يمكن أن يفلت من الدنيا، يشتغل أشغالاً أخرى نظيفة، طاهرة، قد يصلي لله سبحانه وتعالى، قد يصوم لله سبحانه وتعالى، لكن سرعان ما يرجع مرّة أخرى إلى ذلك المحور وينشد إليه، فلتات يخرج بها من إطار ذلك الشيطان ثمّ يرجع إلى الشيطان مرّة أخرى، هذه درجة أولى من هذا المرض الوبيل، مرض حب الدنيا، وأمّا الدرجة الثانية من هذا المرض الوبيل فهي الدرجة المهلكة، حينما يعمي حب الدنيا هذا الإنسان، يسد عليه كل منافذ الرؤية، يكون بالنسبة إلى الدنيا كما كان سيد الموحدين وأمير المؤمنين بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى، انّه لم يكن يرى شيئاً إلّا وكان يرى الله معه وقبله وبعده حب الدنيا في الدرجة الثانية يصل إلى مستوى بحيث انّ الإنسان لا يرى شيئاً إلّا ويرى الدنيا فيها وقبلها وبعدها ومعها، حتى الأعمال الصالحة تتحوّل عنده وبمنظاره إلى دنيا، تتحوّل عنده إلى متعة، إلى مصلحة شخصية، حتى الصلاة، حتى الصيام، حتى البحث، حتى الدرس، هذه الألوان كلها تتحول إلى دنيا لا يمكنه ان يرى شيئاً إلّا من خلال الدنيا، إلّا من خلال مقدار ما يمكن لهذا العمل أن يعطيه، يعطيه من حفنة مال أو من كومة جاه لا يمكن أن يستمر معه إلّا بضعة أيّام معدودة، هذه هي الدرجة الثانية، وكل من الدرجتين مهلكة والدرجة الثانية أشد هلكة من الدرجة الأولى ولهذا قال رسول الله (ص): "حب الدنيا رأي كل خطيئة"، قال الإمام الصادق (ع): "الدنيا كماء البحر من ازداد شرباً منه ازداد عطشاً". لا تقل فلآخذ هذه الحفنة من الدنيا ثمّ أنصرف عنها، فلأحصل على هذه المرتبة من جاه الدنيا ثمّ انصرف إلى الله، ليس الأمر كذلك فإن أي مقدار تحصل عليه من مال الدنيا، من مقامات هذه الدنيا الزائلة، سوف يزداد بك العطش والنهم إلى المرتبة الأخرى، "الدنيا كماء البحر"، "الدنيا رأس كل خطيئة"، الرسول (ص) يقول: "من أصبح وأكبر همه الدنيا فليس له من الله شيء". هذا الكلام يعني قطع الصلة مع الله، يعني ان ولاءين لا يجتمعان في قلب واحد من كان ولاؤه للدنيا، فليس له من الله شيء، ليس له صلة مع الله سبحانه وتعالى لأن ولاءين لا يجتمعان في قلب واحد، "حب الدنيا رأس كل خطيئة" لأن حب الدنيا هو الذي يفرغ الصلاة من معناها، ويفرغ الصيام من معناه، ويفرغ كل عبادة من معناها، ماذا يبقى من معنى لهذه العبادات، إذا استولى حب الدنيا على قلب الإنسان، أنا وأنتم نعرف أن اولئك الذين نؤاخذهم على ما عملوا مع أمير المؤمنين، أولئك لم يتركوا صلاة، ولم يتركوا صياماً، ولم يشربوا خمراً، على الأقل عدد كبير منهم لم يقوموا بشيء من هذا القبيل، لكنهم مع هذا ما هي قيمة هذه الصلاة، وما هي قيمة هذا الصيام، وما هي قيمة العفة عن شرب الخمر إذا كان حب الدنيا هو الذي يملأ القلب.   المصدر: كتاب المدرسة القرآنية

ارسال التعليق

Top