• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

كلّ شيء يسبّح لله

كلّ شيء يسبّح لله

(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (الحديد/ 1-6).

(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) في ما يوحي به التسبيح من إعلان المخلوقات الكونية المتنوعة في طبائعها وخصوصياتها وأشكالها، عن تفاعلها بعظمة الله، وبما أودع في تكوينها من عناصر التعبير الذي قد ينطلق بالصوت، وبالإشارة، وبالإيمان، وبالإيحاء، وبغير ذلك مما لا يدركه الإنسان الذي يتحرك في المعرفة بشكل محدود في نطاق تجربته الخاصة التي لا تمتد إلى أبعد مما تدركه الحواس، ويستنتجه العقل، وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (الإسراء/ 44).

ولعلّ هذا التأكيد الدائم على التسبيح الكوني لكل مخلوقات الله في السماء والأرض، يمثل الأسلوب التربوي للعقيدة الإسلامية بالله، في ما يريد للإنسان أن يتمثله في حياته الخاصة، وفي وعيه لحركة الوجود كله، وعظمة الله في ما حوله، وفيمن حوله، فيجد الله في كل شيءٍ.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فهو المنيع الذي لا يمكن أن يخترق ساحته أحد في أي موقعٍ من مواقع الصراع والغلبة، وهو الذي يتحرك فعله في إتقان كلّ شيءٍ في خلقه وفي تدبيره، الأمر الذي يجعل الإنسان يحس بالطمأنينة والثقة بأنّه – في حركة الكون من حوله – تحت رعاية إلهٍ قوي قادرٍ لا يغلب، حكيم لا يخطئ في تقديره وفي تدبيره.

(لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) فهو الحاكم من موقع أنّه المالك المهيمن على الأمر كله، (يُحْيِي وَيُمِيتُ) خالق الحياة في ما ركب فيها من العناصر المتنوعة، هو خالق الموت في ما يحركه في داخله من أسباب الموت، (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا حد لقدرته في كل مواقع خلقه، مما يجعل حاجاتهم منفتحةً عليه في كلّ أمورهم، لأنّه الذي يملك القدرة كلها في كلّ شيء، فيشعرون بالقوة من خلال ارتباطهم بقوته، وبالثقة من خلال إحساسهم بعظمة القدرة وشموليتها في قدرته.

(هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ) فإن كلّ الموجودات مخلوقةٌ له، فلا يسبقه شيء منها في الوجود، وكلّ الوجود خاضعٌ له، متحركٌ بتدبيره، فلا يتصور بقاؤه من بعده، في الفرضية المحالية للبعدية، فلابدّ من أن يكون هو الآخر بعد كلّ شيءٍ، (والظَّاهِرُ) لأنّه الذي يمنح الأشياء كلّ ما يمنحها الظهور، فكيف يمكن أن يكون هناك شيء أظهر منه (وَالبَاطِنُ) الذي يسيطر على عمق الأشياء في كل عناصرها الداخلية الخفية، وليس هناك ما ينفذ إلى مواقع السر العظيم في ذاته وفي صفاته وأفعاله.

(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فلا يخفى عليه شيء من خلقه مهما كان دقيقاً أو خفياً، لأنّه هو الذي ركب في كل شيء سره، وأعطى كلّ موجود خلقه، وبث في كلّ مواقع الوجود خفايا عناصرها، فكيف يجهل ما فيها من خفايا وأسرار؟!

 

الله المطلق في كلّ شيء:

وإذا كانت الكلمات القرآنية تتحدث عن صفات الله في أوليته وآخريته وظهوره وبطونه، فإنّ الحديث لا ينطلق من مواقع الزمان والمكان، ولا من حدود الأشياء التي تجعل للأوّل حداً وللآخر حداً، وللظهور والبطون مواقع في طبيعة الأشياء، فإنّ الله هو المطلق في كلّ شيء يتصف به، بينما تعيش المخلوقات الأخرى، من حيةٍ وناميةٍ وجامدةٍ، حدودها الخاضعة للفواصل في حدود الزمان والمكان.

 

الله مدبر الخلق:

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) وقد تقدم الحديث عنها في الآيات المماثلة لها، (ثُمَّ استَوَى عَلَى العَرْشِ) في تعبيرٍ كنائي عن التدبير الإلهي الذي يمثل السيطرة المطلقة التي تشرف على الوجود كله، في ما يمثله الاستواء على العرش الذي هو رمز السلطة، من هيمنةٍ وإشراف فعلي من موقع السلطة على إدارة الحكم في مواقعه.

(يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا) لأنّه هو الذي يخلق ويدبر الأشياء التي تدخل في أعماق الأرض من مصادر النعم، كالماء الذي ينزل من السماء، والبذور التي تكمن في الأرض، ومن الموجودات الحية وغيرها، كما يخلق الأشياء التي تخرج منها، كأنواع النبات والحيوان والماء، (وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ) من الأمطار والأشعة والملائكة (وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا) من مخلوقاته أو من القضايا التي لا تعلم طبيعتها.

(وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) لأنّه محيطٌ بكل وجودكم، فلا تغيبون عنه مقدار لحظة (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فلا يخفى عليه شيءٌ من دقائق أعمالكم وأسرارها وخفاياها، الأمر الذي يفرض عليكم الاستغراق في إيحاءات ذلك، في ما يثيره في داخلكم من المشاعر التي تفتح العقل والحس والوجدان على الرقابة الداخلية التي ترصد كل شيء في القول والفعل، ليكون ذلك كله في مواقع رضا الله في ساحات أوامره ونواهيه (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) فليس لأيّة قوةٍ أخرى علاقة بالخلق في دائرة المبدأ، فلا يكون لها أي دخل في دائرة المعاد (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ)، فهو الذي يفصل بين عباده، وهو الذي يحدد لهم مصيرهم، فليس لأحدٍ أن يتوجه إلى غيره أو يراقبه، أو يتطلب رضاه بعيداً عن رضا الله، لأنّ الله هو وحده الذي يرجع الأمر كله إليه.

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) في ما يعبر عنه اختلاف الليل والنهار من تداخل المسافات الزمنية، عندما يطول الليل فيمتد إلى الساعات التي كانت نهاراً في هذا الفصل، أو يطول النهار فيمتد إلى الساعات التي كانت ليلاً في ذلك الفصل، من خلال التدبير الكوني المتقن المبدع، (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) في ما يخفيه الناس من أفكارهم وأسرارهم التي تختفي في صدرهم التي تحتوي قلوبهم في تعبيرٍ كنائيٍّ عن المنطقة السرِّية الخفيَّة في داخل الذات وعن إحاطة الله بعمق الإنسان في داخل كيانه، كما هي إحاطته في خارجه.

 

المصدر: كتاب من وحي القرآن/ ج22

ارسال التعليق

Top