• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المفهوم القرآني للعقيدة

المفهوم القرآني للعقيدة

◄يوجِّه القرآن الكريم نظر الإنسان وفكره إلى كلّ ما يحيط به وإلى ذاته ونفسه، حتى إذا ما كان النظر والفكر سليماً فإنّه سوف يصل حتماً إلى العقيدة الصحيحة وهي التوحيد. وهذا التوجيه القرآني الكريم أبسط وأبلغ وأعمق وأنفذ من كلّ دلائل الفلاسفة والمتكلِّمين. يقول تعالى:

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (يس/ 37-39).

(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) (النحل/ 3-5).

ويطرح القرآن الكريم مجموعة من التساؤلات أمام عقل الإنسان ليس لها سوى إجابة واحدة سليمة، ومثال هذا:

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (الطور/ 35).

(أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (الواقعة/ 63-64).

(أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ) (الواقعة/ 71-72).

هذه التساؤلات وغيرها ليس لها سوى إجابة واحدة وهي (الله)، ذلك أنها تثير قضية الخلق ولا خالق إلا الله سبحانه. ومن الواضح أنّ الله سبحانه وهو يخاطب عقل الإنسان ينتقل به من المحسوس إلى الغيبيات، ومع أنّ الإيمان بالغيب شرط أوّل للإيمان، إلا أنّ القرآن مع هذا يقدم مختلف صور الإقناع والتدليل البليغ على وجود الله استناداً إلى طبيعة تفكير البشر. ويمكن إيجاز أهم أركان العقيدة الإسلامية في قوله تعالى:

(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (بقرة/ 285).

وإذا كانت العقيدة هي الجانب النظري الذي يطلب الإيمان به إيماناً يقينياً، فإنّ الشريعة هي النظم التي شرعها الله سبحانه أو شرع أصولها ليأخذ الإنسان بها نفسه من علاقته بربه، و(سبيلها أداء الواجبات الدينية كالصلاة والزكاة والصوم...)، وعلاقته بأخيه المسلم (سبيلها تبادل المحبة والتناصر والأحكام الخاصة بتكوين الأسرة والميراث...)، وعلاقته بأخيه الإنسان (وسبيلها التعاون من تقدم الحياة العامة والسلم العام)، وعلاقته بالكون (وسبيلها حرية البحث والنظر في الكائنات التي سخرها الله سبحانه للإنسان واستخدام آثارها في رقيه)، وعلاقته بالحياة (وسبيلها التمتع بلذائذ الحياة الحلال أي ما أحله الله دون إسراف أو تقشف شديد).

ويدرك الباحث في كتاب الله الكريم أنّ القرآن قد عبّر عن العقيدة "بالإيمان" وعن الشريعة "بالعمل الصالح"، ومثال هذا:

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا) (الكهف/ 107-108). (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل/ 97). وقال تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (سورة العصر). وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأحقاف/ 13).

ولهذا فإنّ الإسلام لا ينطوي على عقيدة فقط، تنظم علاقة الإنسان بربه فحسب، وإنما ينطوي كذلك على شريعة توجه الإنسان إلى نواحي الخير في الحياة، وتقيم مجتمعاً يحقق القوة والتعاون والتكامل والتكافل. فالإسلام دين عقيدة وشريعة يستغرق ويوجه حياة الإنسان الذاتية والاجتماعية من المهد إلى اللحد، يقول تعالى:

(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ...) (الأنعام/ 162-164).►

 

*عميد كلية الدراسات الإنسانية سابقاً وأستاذ الاجتماع بجامعة الأزهر

 

المصدر: كتاب البناء الاجتماعي للمجتمع الإسلامي

ارسال التعليق

Top