• ٢٤ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التوبة والفطرة في القرآن الكريم

التوبة والفطرة في القرآن الكريم

التوبة فرع عن وجود الذنب، لأنّها طلب للصفح عنه، ولا يخلو الإنسان من ذنب ما كبيراً كان أو صغيراً إلا من عصم الله، وقد نسب إلى الرسول الأعظم (ص) قوله:

إن تغفر اللهم تغفر جماً *** وأي عبد لك ما ألمَّا

وقد أوجب سبحانه التوبة على من أذنب، تماماً كما أوجب الصوم والصلاة، ومن الآيات الدالة على وجوبها هذه الآية: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ) (النساء/ 17)، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) (التحريم/ 8)، وقوله: (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات/ 11).

والحقيقة أن وجوب التوبة لا يحتاج إلى دليل، لأنّه من القضايا التي تحمل دليلها معها، فكل إنسان يدرك بفطرته أن على المسيء أن يعتذر عن إساءته، ويطلب الصفح عمن أساء إليه.

وقد جرى على ذلك عرف الدول والشعوب، حتى ولوحصل التعدي خطأ، ومن غير قصد، فإذا اخترقت طائرة دولة أجواء دولة أخرى، أو تجاوز زورق من زوارقها المياه الإقليمية، دون إذن سابق وجب أن تعلن اعتذارها، وإلا أدانها العرف والقانون.

إذن، كلّ آية أو رواية دلت على وجوب التوبة، فهي تقرير وتعبير عن حكم الفطرة، وليست تأسيساً، وتشريعاً جديداً لوجوب التوبة.

وعلى هذا فمن أذنب، ولم يتب فقد أساء مرتين: مرة على فعل الذنب، ومرة على ترك التوبة، وأسوأ حالاً ممن ترك التوبة من فسخها، وعاد إلى الذنب بعد أن عاهد الله على الوفاء بالطاعة والإمتثال، قال تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) (المائدة/ 95)، وفي الحديث: "المقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ، الله يستهزئ بهم، ويمدهم في طغيانهم يعمهون".

ويتحقق الذنب بترك ما أمر الله به، أو فعل ما نهى عنه عن قصد وتصميم، وبديهة أن أحكام العقل هي أحكام الله بالذات، لأنّه جلّ وعز يبلغ أحكامه بوسيلتين: العقل، ولسان رسله وأنبيائه. والنتيجة الحتمية لهذا المبدأ أنّه لا ذنب ولا عقاب بلا بيان، على حد تعبير الفقهاء المسلمين، أو بلا نص على حد تعبير أهل القوانين الوضعية.

إذا تمهد هذا تبين معنا أنّ الإنسان إنما يكون مذنباً وعاصياً إذا فعل ما نهى الله عنه، أو ترك ما أمر الله به عن تعمد وعلم، فإذا فعل أو ترك ناسياً، أو مكرهاً أو جاهلاً من غير تقصير وإهمال، فلا يعد مذنباً وينتفي السبب الموجب للتوبة. قال: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ) (المائدة/ 39)، أي بعد ذنبه، لأن كلّ من أقدم على الذنب فقد ظلم نفسه وبتعريضها للحساب والعقاب.

أما تحديد التوبة، فهي أن يندم المذنب على ما كان منه، ويطلب من الله العفو والمغفرة، ولا يعود إلى الذنب ثانية، فإن عاد بطلت توبته، واحتاج إلى استئنافها بعد أحكم، وقلب أسلم، قال الإمام زين العابدين (ع): "اللّهمّ إن يكن الندم توبة إليك فأنا أوّل التائبين، وإن يكن الترك لمعصيتك إنابة فأنا أوّل المنيبين، وإن يكن الإستغفار حطة للذنب فإني لك من المستغفرين".

والمراد بالإستغفار الإستغفار بالفعل، لا بالقول، فيبدأ قبل كلّ شيء بتأدية حقوق الناس، ورد ظلامتهم، فإذا كان قد اغتصب درهماً من إنسان أعاده إليه وإن كان قد أساء إليه بقول أو فعل طلب منه السماحة، ثمّ يقضي ما فاته من الفرائض، كالحج والصوم والصلاة، سمع أمير المؤمنين عليّ (ع) رجلاً يقول بحضرته: أستغفر الله.

فقال الإمام: "ثكلتك أمك أتدري ما الإستغفار؟ الإستغفار درجة العليين وهو اسم واقع على ستة معان..." وذكرها الإمام منها الندم على ما مضى؛ والثاني العزم على ترك العود إليه أبداً، والثالث أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم. وقضاء الفرائض، ومتى توافرت هذه العناصر للتائب كان من الذين عناهم الله بقوله: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) (طه/ 82)، أي استمر على الهداية، وهي الإيمان والعمل الصالح، وفي الحديث: من تاب من الذنب كمن لا ذنب له، بل يصبح من المحسنين.

قال تعالى: (تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا) (هود/ 3)، وقال: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) (البقرة/ 222)، وقال الرسول الأعظم (ص): "من رأى أنّه مسيء فهو محسن".

أمّا السر لإحسان التائب، وعظيم منزلته عند الله سبحانه فهو معرفته بنفسه، ومحاسبتها على كلّ عيب ونقص، وجهادها على الكمال والطاعة، هذا الجهاد الذي عبر عنه رسول الله (ص) بالجهاد الأكبر، وقديماً قال الأنبياء الحكماء: "إعرف نفسك"، ومرادهم أن يعرف الإنسان ما في نفسه من عيوب، ويعمل عل تطهيرها من كلّ شائبة.

وقد يقول قائل: إنّ الإنسان نتيجة لعوامل كثيرة منها: أبواه، ومدرسته، ومجتمعه، ومناخه، وما إلى ذلك مما يؤثر في تكوين شخصيته، ولا حول معه ولا طول، وعليه فلا يتصف الإنسان بأذنب وأساء، لأنّ الذنب ذنب المجتمع والظروف، ومتى انتفى الذنب انتفى موضوع التوبة من الأساس.

الجواب: صحيح أن محيط الإنسان وظروفه تؤثر به.. ولكن الصحيح أيضاً أن ذات الإنسان وإرادته تؤثر في ظروفه وبيئته، كما يتأثر هو بها، لأنّ لكل من الإنسان وظروفه واقعاً ملموساً، وكلّ شيء له واقع ملموس لابدّ أن يكون له أثر كذلك، وإلا لم يكن شيئاً. وعلى هذا يستطيع أن يؤثر في ظروفه، بل يستطيع أن يقلبها رأساً على عقب، إذا كان عبقرياً، والشاهد الحس والوجدان.

إن شأن الظروف التي يعيشها الإنسان أن تبعث في نفسه الميل والرغبة في ثمار الظروف ونتائجها، وعلى الإنسان أن ينظر ويراقب هذه الثمار وتلك الرغبة، فإن كانت متجهة إلى الحسن من الثمار اندفع مع رغبته، وأوقفها وكبح جماحها، وليس هذا بالأمر العسير، ولو لم يكن للإنسان مع ظروفه حول وطول لما اتصف بأنّه محسن، وبأنّه مسيء، ولبطل العقاب والثواب، وسقط المدح والذم، ولما كان لوجود الأديان والأخلاق والشرائع والقوانين وجه ومبرر.

سؤال ثانٍ: قلت: إنّ التوبة فرع الذنب، مع العلم بأنّ الأنبياء والأئمة كانوا يتوبون إلى الله، وهم مبرأون عن العيوب والذنوب.

الجواب: إنّ الأنبياء والأئمة مطهرون من الدنس والمعاصي، ما في ذلك ريب. ولكنهم كانوا لمعرفتهم بالله وشدة خوفهم منه، يتصورون أنفسهم مذنبين، فيتوبون من ذنب وهمي لا وجود له، وهذا مظهر من آثار عصمتهم وعلو مكانتهم، لأنّ العظيم من لا يرى نفسه عظيماً، بل لا يراها شيئاً مذكوراً في جنب الله، ويتهمها دائماً بالتقصير في طاعته وعبادته، ومن أجل هذا يسأله العفو، ويستعين به على حسن العاقبة، على العكس من (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (الكهف/ 104).

 

المصدر: كتاب دروس من القرآن

ارسال التعليق

Top