• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المسؤولية في القرآن الكريم

المسؤولية في القرآن الكريم
   قال تعالى: (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) (الرّعد/ 18).

 

المفتاح:

أنتَ مسؤولٌ عن نَفْسِك، وعمن تتولّى أمرَهُ، فتحمَّلْ مسؤوليتك التي لا مفرَّ منها، تنجو وتفز.

(لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى)، الذين يستجيبون لأوامر الله تعالى، ويطبقون شريعته المقدسة، وينتهون عن النواهي التي نهى عنها. والحسنى: كلُّ عطاءٍ يعطيه الله تعالى، ومنه الجنة، فالذين يستجيبون لله تعالى لهم الحسنى في يوم القيامة ومنها الجنة، لأنّهم تحملوا المسؤولية والأمانة بشكل صحيح.

(وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ)، أي الذين لم يستجيبوا لشريعة الله المقدسة ولم يطبقوها، ولم يمتنعوا عن النواهي التي نهى الله تعالى عنها، فعصوا وكفروا بالله جلّ وعلا، وأخَلُّوا بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم. هؤلاء (لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا) فملكوا ما على الأرض، من سهول وجبال ومعادن ونباتات وأرزاق وأنعام وإمكانات وقوة، (وَمِثْلَهُ مَعَهُ) أي بمثل ما هو موجود على هذه الأرض مضاعفاً، (لافْتَدَوْا بِهِ) وبذلوه يوم القيامة ليتخلصوا من عذاب الجحيم والنهاية الأليمة، فهم حاضرون لأي مقايضة ليتخلصوا من العذاب الأليم! وهم جاهزون لأي فدية مهما بلغت! ولكنهم وصلوا إلى يوم الحساب، حيث لا عمل ولا مقايضة ولا فدية ولا فرصة جديدة ولا مهلة لتعديل سجل الأعمال، فالقرار حاسم، وقد تم اتخاذه، (أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ). وفي مكانهم الأبدي في النار، (وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ)، الذي سيكون مكان إقامتهم ونومهم، (وَبِئْسَ الْمِهَادُ) والذي لا استقرار فيه ولا راحة ولا خلاص.

 

1- المسؤولية الشخصية:

كلُّ إنسانٍ مسؤولٌ في هذه الحياة الدنيا، ولا يستطيع أن يتهرب من مسؤوليته، وعليه أن يحسم خياره واتجاهه أوّلاً، هل هو مؤمنٌ أم لا؟ هل هو ملتزمٌ بدين الله تعالى أم لا؟ هل هو مستعدٌ لعبادة الله تعالى أم لا؟.

لقد أتاح الله تعالى له ليختار أحد الطريقين، (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان/ 3)، فلا إمكانية إلّا أن يكون شاكراً أو كفوراً، مؤمناً أو كافراً، وسيتحمل مسؤولية خياره أمام الله تعالى ويحاسب عليه في يوم القيامة.

خلَقَ الله الإنسان في أحسن تقويم مصحوباً بالمسؤولية، قال تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة/ 30)، والخلافةُ مسؤوليةٌ وليست تكريماً، وهي مقدمةٌ للسؤال في يوم القيامة، الذي يشمل جميع البشر من دون استثناء، قال تعالى: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (الأعراف/ 6)، سيسأل الله تعالى يوم القيامة الأقوام الذين أرسل الله تعالى إليهم الأنبياء، ويسأل الأنبياء والرسل الذين أرسلهم إلى الناس، وماذا فعلوا؟ هل استقاموا على هدي شريعة الله تعالى المقدسة؟ وهل أحسنوا الخلافة؟ وهل أدوا واجباتهم؟ فالأسئلة موجّهة للرسل والأنبياء وجميع الناس.

كلُّ إنسان مسؤولٌ عن نفسه، فلا يتحمل أحدٌ معه أو عنه هذه المسؤولية، قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ) (فصّلت/ 46). تسجَّل الصالحات في صحيفة أعماله، وتسجّل السيئات أيضاً في صحيفة أعماله، فهو يتحمل مسؤولية أعماله، ولا عمل من دون مسؤولية، ولا نشاط من دون مسؤولية. إذا قال فهو مسؤول، وإذا سمعَ فهو مسؤول، وإذا ربّى فهو مسؤول، وإذا أكل فهو مسؤول، وإذا قام بأي حركة أو تصرف في العلاقة مع الآخرين فهو مسؤول، فليسعَ ليقوم بهذه المسؤولية. أنت مسؤولٌ من خلال جوارحك، قال تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) (الإسراء/ 36)، هذه الجوارح تلتقط المعطيات وتُدخلها إلى الدماغ الذي يتخذ القرار للعمل، ترى فتعمل، وتسمعُ فتعمل، وتفكرُ فتعمل، فالجوارح باب مسؤوليتك عن الأعمال التي تقوم بها.

 

2- المسؤولية عمَّن تتولاهم:

تشمل مسؤوليةُ الإنسان من يتحمل مسؤوليتهم، ويكون له سلطة عليهم، فالسلطةُ مسؤولية، والقرارُ مسؤولية، والعملُ الذي يقوم به الآخرون بناء لأوامر صاحب السلطة يتحمل مسؤوليتها، إضافة إلى ما يترتب على العامل نفسه.

مثال على ذلك: الأب هو السبب المباشر لولادة الأولاد، وهو مسؤولٌ عن تربيتهم، فلا يستطيع أن يتهرب من هذه المسؤولية يوم القيامة، بحجة أنّه مسؤول عن نفسه وعمله فقط! فهو مسؤولٌ عن تربيتهم وتهيئتهم ليكونوا مسؤولين عن خياراتهم في طاعة الله تعالى، ففي الفترة التي يكونون فيها تحت سلطته وقراره يتحمل المسؤولية عن نفسه وعنهم، وبعد أن يصبحوا مكلفين يتحملون مسؤولية أعمالهم.

لو افترضنا أنّك مسؤولٌ في معمل، أو مدرسة، أو حي، أو بلدة، أو منطقة، أو رئيسٌ في دولة... أي سواء أكانت المسؤولية صغيرة ومحدودة بعدد قليل من الأفراد، أم كبيرة وتشمل عدداً كبيراً منهم، فأنتَ تحملُ هذه المسؤولية وعليك تَبِعاتها، وأن تقوم بها بشكل صحيح، بأن تعدِلَ بينهم، ولا تظلمهم في طريقة التعاطي معهم، وتعطيهم حقوقهم، وتتعامل معهم كبشر لهم حقوق وعليهم واجبات، وتأخذ بأيديهم للاستقامة في هذه الحياة... لأنّك صاحبُ القرار، وقد سلَّمك هؤلاء أمرهم، إما قهراً بالظروف التي جعلتك مسؤولاً عنهم، وإمّا طوعاً بالاختيار والانتخاب.

لا يتحمل الفرد المسؤولية عن نفسه فقط، بل يتعداها إلى المسؤولية عمن يديرهم ويرعى شؤونهم وله الآمرية عليهم، فعن رسول الله (ص): "ألا كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم"، فعلى كلّ إنسان أن يرعى الوظيفة التي يتحمل مسؤوليتها، وأن يقوم بواجبه تجاهها.

ينشأ أغلب الأولاد الصالحين في مجتمعنا بسبب التربية في منازلهم، وأغلب الأولاد الفاسدين بعلة التربية الفاسدة في بيوتهم، فالبيت هو المهد الأوّل الذي يُنشئ تربية صالحة أو فاسدة. الأب صاحب الإدارة والأُم شريك فيها، ويتأثر الأولاد بأهلهم، كما تتأثر المجموعة بقائدها، والناس بأميرهم، فإذا تصرف المسؤول بأخلاقية قلدوه بتصرفهم الأخلاقي مع الناس، وإذا تصرف معهم بعصبية ولؤم تصرفوا مثله بعصبية مع الآخرين. فالمسؤولية عن نفسك بالدرجة الأولى، ومسؤول عمن ترعاهم وتتحمل مسؤوليتهم بالدرجة الثانية، في أن تُصلح أحوالهم وتأخذ بأيديهم نحو الاستقامة.

يدعونا الرسول (ص) أن نراقب أعمالنا وأن نقوم بمسؤولياتنا: "حاسبوا أنفسكم قبلَ أنْ تُحاسَبوا، وزِنُوها قبلَ أنْ تُوزنوا، وتجهَّزوا للعَرضِ الأكبر". تجهزوا ليوم الحساب، فأنتم مسؤولون عن أنفسكم، ومسؤولون عن أهلكم وأولادكم وأمتكم، فالتفتوا إلى مسؤوليتكم.

لماذا يرتكبُ الإنسانُ الحرام؟ وأنا أسأل مرتكب الحرام: كم تدومُ اللذة التي تحصل عليها؟ لحظة، دقيقة، دقيقتان؟! ثمّ تذهبُ اللذة وتبقى تبعاتها. فلو وقفت في مواجهة اللذة (المحرَّمة) للحظةٍ، بقوةٍ ورفضٍ وامتناع، فستعاني قليلاً ثمّ ترتاح بعدها، حامداً لله تعالى الذي أنجاك من هذه المعصية. تعامَلْ مع المعصية كما تتعامل مع الشرطة، فلو سار شخص بسيارته ليلاً، وصادف إشارة المرور الحمراء، فإنّه يلتفت يميناً وشمالاً فلا يجد أحداً في الشارع، فيتجاوز الإشارة لعدم وجود أحدٍ يراقبه، أمّا لو كان يعلم بأنّ الشرطي موجود، أو رآه أمامه، فلن يتجاوز الإشارة الحمراء ولو كان وحده في الشارع، لأنّه يخاف من أن يضبطه مخالفاً، فيتوقف بانتظار الإشارة الخضراء. أتخاف من أن يضبطه مخالفاً، فيتوقف بانتظار الإشارة الخضراء. أتخاف من شرطي المرور، ولا تخاف من رقيبين على كتفيك، يسجلان كلّ لحظة وكلّ حركة، ثمّ تكون أعمالك حاضرة في كتابٍ جامعٍ يوم الحساب؟! (لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (الكهف/ 49). مسكينٌ أيها الإنسان، كيف تُجري حساباتك؟.

الأمر المهم هو أن نفهم طبيعة المسؤولية التي نتحملها أمام الله تعالى، يقول النبي (ص): "كلُّ نعيمٍ مسؤولٌ عنه يوم القيامة، إلا ما كان في سبيل الله تعالى". كلّ شيء يتحمل الإنسان مسؤوليته يوم القيامة إلّا إذا كان في سبيل الله تعالى. فالمجاهد لا يُسأل عن جهاده لأنّه في سبيل الله تعالى، ومن يُحسن تربية أولاده لا يُسأل عن فعله ولا يُحاسب عليه، فما كان في سبيل الله من قولٍ صالح، وعملٍ صالح، وجهادٍ في سبيل الله تعالى، يُسجَّل لمصلحة صاحبه، ولكن يحاسِب الله على النِّعَم التي فرَّط بها الإنسان ولم يؤدها بشكل صحيح.

 

المصدر: كتاب مفاتيح السعادة

ارسال التعليق

Top