هذان قولان لشخصين مختلفين، أحدهما لعلي بن أبي طالب (ع) وثانيهما للوليد بن المغيرة. والأوّل قطب من أقطاب المدرسة الربانية والثاني قطب من أقطاب الجاهلية ألا أنّهما قد اتفقا على أمر واحد وهو الإشارة إلى خطورة القرآن وأهميته البالغة.
في كلمة عليّ (ع) نرى وضوحاً في التأكيد على أنّ القرآن العظيم هو كتاب الماضي والمستقبل والحاضر. اما انّه كتاب الماضي فلأنّه يذكر لنا بأمانة وصدق قصص الأُمم الماضية وسيرها في الحياة وطبيعة العلاقة بينهما وبين أنبيائها لنعتبر ونتعلم الدروس ونستخلص القوانين وأما انّه كتاب المستقبل فلأننا بعد أن نعرف قصص الماضين نعرف ما ستؤول إليه مصائر الأُمم القائمة ومستقبلها.
وأمّا انّ القرآن كتاب الحاضر فلأنّه معجزة خاتم الأديان والآية من القرآن باقية كالشمس تجري على آخرنا كما جرت على أوّلنا كما هو مضمون الحديث الوارد عن الإمام الصادق (ع) وإذا كانت الآيات قد نزلت بمناسبات معيّنة فهو لا يعني انحصارها واقتصارها على مناسبة النزول فإنّ المورد لا يخصص الوارد.
ولسنا في معرض الإسهاب في البرهنة على صحة قول عليّ (ع)، ولكننا نذكر مثالاً واحداً على ذلك، فالقرآن العظيم يقول: (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) (البقرة/ 217)، فيقرر ويثبت أنّ أعداء المؤمنين يقاتلون معسكر الإيمان لإيمانه وتمسكه بمنهج الله الحقّ ويقرر أنّ هذا القتال مستمر متواصل لا يتوقف وانما يتخذ له أشكالاً وأساليب مختلفة ويقرّر أيضاً انّ الغاية من هذه الحرب المعلنة هو تركيع الجماعة المؤمنة الملتزمة.
وهذا الذي يقرره القرآن صادق على الماضي والحاضر والمستقبل على حد سواء فما دامت هناك جماعة مؤمنة مجاهدة ملتزمة فإنّ الحرب عليها قائمة (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (البروج/ 8).
انّ قيمة القرآن العظيم تكمن في هذا. انّه كتاب لا يتحدد بالزمان أو الطبقة أو القومية. إنّه كتاب كلّ زمان وكلّ مكان وكلّ النّاس بدون تخصيص. إنّ هذا الكتاب العظيم المبارك المعجز كان ظرف نزوله هو هذا الشهر المبارك شهر رمضان (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (البقرة/ 185)، وكانت الليلة التي نزل فيها بالتحديد هي ليلة القدر (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر/ 1)، وكان النزول في هذه الليلة المباركة من الشهر المبارك جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا وعلى قلب رسول الله (ص) على شكل خطوط عريضة لإعداد القائد ليقوم بمهمّة الإنقاذ والتغيير الشاقة للإنسانية جمعاء وتشير إلى هذا النزول الدفعي كلمة (أنزلناه)، وأما النزول الثاني الذي كان يستهدف تربية الأُمّة فكان عندما بعث رسول الله (ص) بالنبوّة وكان هذا النزول العام للأُمّة تدريجياً منجماً على حسب المناسبات وتشير إليه كلمة (نزّلنا) في قوله تعالى: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلا) (الإسراء/ 106)، إنّ هذا الكتاب المبارك الكريم نزل نزول الغيث على الأرض الجدباء.
لقد كان نعمة كبرى على البشرية فقد تمكنت القيادة العظيمة أن تحقق الهدف الذي أنزل من أجله القرآن هدف إخراج النّاس من الظلمات إلى النور، لقد تحققت المعجزة على يد الكتاب المعجز والقيادة القرآنية التي تربت عليه واستحالت إلى قرآن يمشي على الأرض بين النّاس. فقد قالت زوج رسول الله عائشة عندما سئلت عنه: "كان خلقه القرآن".
أجل لقد تحوّلت القبائل المتناحرة بفضل الرسالة الصالحة والقيادة الصالحة إلى كتلة متراصة متآخية متحدة وارتفعت الهموم وصاروا يفكرون بنشر نور الإسلام في كلّ العالم بعد أن كانوا يعيشون الهموم الصغيرة اليومية لقد أصبحوا أصحاب قضية وأصحاب رسالة وهذا هو معنى قوله تعالى: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (القدر/ 3)، فإنّ يوماً يوماً واحداً تعيشه أُمّة في ظل رسالة صالحة ومبدأ قويم أفضل من العيش دهوراً وآماداً متطاولة بدون ذلك، وإذا كان القرآن بهذه المثابة من الأهمية والخطورة استطعنا أن نقف على السر الذي يؤكد فيه الرسول الأعظم باستمرار وأئمتنا الأطهار على الدوام على الانشداد إلى القرآن تلاوة وتدبراً وعملاً ففي الحديث عن رسول الله (ص): "أفضل عبادة أُمتي قراءة القرآن". وفي حديث أيضاً: "أشراف أُمّتي حملة القرآن وأصحاب الليل"، وفي آخر: "لقد تجلى الله لخلقه في كلامه ولكنهم لا يبصرون".
إنّ الانشداد إلى عهد الله وثقله الأكبر واحد شقي الأمانة التي خلفها فينا رسول الله (ص) أمر مطلوب في كلّ وقت من الأوقات.
إنّ الاهتمام بالقرآن اهتمام بسعادتنا وكرامتنا وقوتنا وسيادتنا في الحاضر والمستقبل ويتأكد هذا الاهتمام بهذا الكتاب الكريم في شهر الله رمضان لأنّه ربيع القرآن، يقول الرحمة المهداة (ص): "ومن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر مَن ختم القرآن في غيره من الشهور"، وعندما ضُرب أمير المؤمنين على يد أشقى الأوّلين والآخرين لم ينس القرآن بالوصية قبل أن يغادر هذه الحياة الفانية فيقول وهو على فراش الموت معصوب الرأس والجبهة: "الله الله في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم".
وعندما التزم المسلمون الأوّلون بتعاليم القرآن العظيم وكانوا يتلقون آياته (للتنفيذ) و(العمل) و(التطبيق) لا (للتثقيف) و(العلم) فقط.
عندما كان المسلمون يتخذون من قرآنهم دليلاً لصراعهم مع أعداء الله والإنسان استطاع هذه الكتاب أن ينقلهم النقلة الكبرى ويصعد بهم إلى القمّة السامقة ويبؤاهمم مقعد الأستاذية للبشرية جمعاء، واليوم فإنّ القرآن يتمكن أن يفعل ما فعله بالأمس بشرط أن نتهيأ لذلك ونتلقاه للعمل والجهاد والحركة والدعوة إلى الله.
إنّ طبيعة الإسلام تختلف عن طبيعة الفلسفات الجامدة. انّ المدرسة الإسلامية مدرسة العلم والعمل والقول والفعل. انّ المدرسة الإسلامية ترفض رفضاً باتاً حالة الانفصام بين العلم والعمل وعندما يعود الوضع إلى حالته الطبيعية ويقرن العلم بالعمل فإنّ المعجزة التي تحققت بالأمس سوف تتحقق اليوم لا محالة فالقرآن كما وصفه أحد أقطاب أعداءه الوليد بن المغيرة: ".. انّ له لحلاوة وانّ عليه لطلاوة، وانّ أعلاه لمثمر وانّ أسفله لمغدق، وانّه ليعلو ولا يعلى عليه...".
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق