• ١٦ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٧ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الصورة الإنسانية للرسول (ص) في القرآن

الصورة الإنسانية للرسول (ص) في القرآن

(مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ) (الفتح/ 29)، (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة/ 128)، (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم/ 4).

هكذا كانت صورته في القرآن؛ كانت الصورة التي تعبّر عن عمق إنسانيته في كلّ إنسان دعاه إلى الله وعاش معه، وفي كلِّ إنسانٍ أعطاه وحاوره. كان الإنسان الذي تتفايض إنسانيته من عقله، فيتحرّك عقله بكلّ الفكر الإنساني المنفتح على الحقّ كلّه، وكانت إنسانيته تتفايض من قلبه، فكان قلبه القلب اللّين الرقيق الطيِّب، الذي ينفتح على أعدائه ليحبّ لهم الهداية، كما ينفتح على أوليائه ليحبّ لهم الاستزادة من الإيمان والتقوى.

كانت إنسانيته (ص) تتفايض في كلِّ حركته، فكانت تتفايض في يديه بالعطاء، وفي رجليه عندما يسير بهما إلى أن يُغيث ملهوفاً، وإلى أن يُنقذ بائساً، وإلى أن يزور مريضاً، وإلى أن يتحرَّك في كلّ ما يرتفع بالإنسان في أعلى الدرجات.

ونحن عندما نتذكَّر رسول الله (ص) في ذكرى مولده، فإنّنا مهما تحدَّثنا عنه، ممّا تحدَّث الناس عنه في صفاته في نفسه، فإنّنا لن نستطيع أن نبلغ ما تحدَّث به الله سبحانه عنه.

لذلك، نحن هنا من أجل أن نعيش مع رسول الله أخلاقه وإسلامه وإيمانه وجهاده وشريعته، لأنّ رسول الله (ص) ليس مجرّد إنسان عاش في التاريخ، ولكنّه أيضاً نبيٌّ بقي في عقولنا عقلاً، وفي قلوبنا قلباً، وفي حركتنا دعوةً وجهاداً وعطاءً، لذلك، نحن نولد دائماً برسول الله عندما يعيش رسول الله فينا.

وهكذا، ينبغي أن يكون فينا شيءٌ من رسول الله ومن إيمانه وروحانيته وخلُقه وكلّ سيرته، وقد قال لنا الله سبحانه وتعالى، إنّ عليكم أن تضعوا رسول الله نصب أعينكم في كلماته وسيرته وفي كلِّ ما عاشه وفكَّر فيه، عندما تعيشون مشاكل الحياة، وعندما تفقدون الطريق المستقيم، وعندما تكثر عليكم الضغوط، وعندما يتحدّاكم الكافرون والمستكبرون.

وربّما يضعف بعضكم، ويسقط بعضكم، ويخاف بعضكم أن يتحدَّث عنه الناس بسوءٍ، أو يتّهمه الناس بغير الحقيقة. اقتدوا برسول الله، فلقد قالوا عنه إنّه ساحر وكاهن وكاذب وشاعر، (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (الفرقان/ 5)، ولكنّ رسول الله (ص) ـ وهو يستمع إلى ذلك ـ رفع عينيه إلى السماء، ولم يسمع كلَّ هذه الكلمات، ولم يواجه كلَّ هؤلاء، بل قال لربِّه في ابتهالٍ خاشع: "إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي".

الرسول القدوة

وتركها رسول الله لكلِّ داعية ومصلح ومجاهد من بعده، عندما ينطلق الذين يسبّون ويشتمون ويتَّهمون، ليقول لربّه ـ وهو في زحمة كلِّ ذلك ـ "إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي"، وهذا هو التوحيد الذي يدخل في العقل، ليجعل العقل ثابتاً في الله، ويدخل في القلب ليجعله نابضاً بالله، ويدخل في كلِّ حركة الحياة ليجعلها متحركة باسم الله. علينا أن نواجه الحياة كلَّها باسم الله، لأنّ الله وحده هو الذي يرعى مسيرتنا، وقد قالها رسول الله (ص) ومعه صاحبه في ليلة الهجرة، والقوم يقتربون منه خطوةً خطوة، وليست هناك إلّا بضع خطوات بينه وبينهم، وكان صاحبه يهتزّ ويرتعد ويخاف ويعيش الحزن، وكان رسول الله الإنسان الذي عاش السكينة الروحية في قلبه والطمأنينة الإيمانية في عقله، كان يشعر بالفرح والقوم يتحاورون: هل ندخل؟ كان الهادئ، (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا) (التوبة/ 40).

الرحمة الإلهيّة

هذا هو الخطّ عندما نواجه المستكبرين والظالمين والكافرين وكلّ المنحرفين، (إِنَّ اللهَ مَعَنَا) في عقولنا يشرق فيها ليسدِّد عقولنا، معنا في قلوبنا ينبض فيها ليوازن عواطفنا في قلوبنا، معنا في كلِّ الطريق: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا) (الأحزاب/ 21).

لتكن أقواله هي المنهج في كلِّ أقوالكم، لتكن أعماله المنهج في كلِّ ما تعملون، وعلينا أن نعيش معه: (مُحمَّدٌ رَّسُول اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ـ الذين آمنوا به، والذين جاهدوا وهاجروا معه، فعاشوا عقله وروحه، واقتدوا به ـ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ـ ليست شدّة القسوة والعقدة، ولكنّها صلابة الموقف أمام كفر الكافرين الذين يضلِّلون الإنسان في الحياة كلّها ـ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (الفتح/ 29)، قد يختلفون في عوائلهم وفي مصالحهم التجارية ـ وهم كانوا المختلفين في كثير من أوضاعهم وأفكارهم ـ ولكنّهم جمَّدوا ذلك، أو أنّهم أعطوه جرعةً من الإيمان، فكانوا يختلفون في العائلية وفي ماليّاتهم، ولكنهم كانوا يعملون على أن يكون الإيمان هو الحكم.

فقد كانوا يسمعون قول الله عندما يختلفون ـ واسمعوها جيِّداً ـ (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء/ 65).. (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب/ 36). وهكذا، كانت الرحمة الإلهيّة المتحرّكة في الرحمة الإسلامية في السيرة النبويّة، المنهج الذي سيطروا فيه على عصبيّاتهم وخلافاتهم، إيماناً وحُكماً وشرعاً ومنهجاً للحياة، ونحن إذا سرنا على هذا المنهج، فسنكون معه.

ثمّ (تَرَاهُمْ ـ وهم يخشعون أمام الله ويعيشون الوعي لمقام ربهم ـ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) (الفتح/ 29)، وهكذا نعيش مع رسول الله (ص) كلَّ أخلاقه وكلَّ القيم الكبيرة، "ألا أدلّكم على خير أخلاق الدنيا والآخرة؟ ـ وهي صعبة جدّاً، ولكنّ ثمنها كبير عند الله ـ تصل مَن قطعك، وتعطي مَن حرمك، وتعفو عمّن ظلمك"، أن تكون الإنسان الذي يعيش روح العطاء، حتى لو حرمه الآخرون، ويعيش روح المواصلة، حتى لو قطعه الآخرون، ويعيش روح العفو، حتى لو ظلمه الآخرون؛ إنّها الروح التي تتسامى عن ردّ الفعل، لأنّ الإسلام يريد للإنسان المؤمن أن يعيش الفعل في كلِّ حياته.

طبيعة الحرب في الإسلام

وهكذا نواجه الحياة كما واجهها، فقد أراد للدعوة أن تكون سلماً لا حرباً، وأراد لها أن تكون عقلاً لا غريزةً، وأراد لها أن تكون محبّة لا عداوة، ولكنّ القوم زرعوا الألغام في طريقه، ونصبوا له الحواجز، فاضطرّ إلى أن يُحارب في سبيل المستضعفين، وأن يقاتل الذين قاتلوه، فالحرب في الإسلام لم تكن عدوانية، بل كانت حرباً وقائية ودفاعية، كان يحبّ للناس أن يأتوا إليه ليحاورهم ويحاوروه، وينفتح عليهم وينفتحوا عليه، كما كانت حياته قبل الهجرة أذىً وشتماً وسباباً وإغراءً، وكان هو هو.. كان (ص) ـ عندما يقدِّم الناس له الإغراء ـ يقول لعمّه أبي طالب (رض): "والله يا عمّ، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه".

أين نحن من رسول الله (ص)؟

هذا رسول الله في كلّ سيرته، فأين نحن الآن؟ لقد مضى رسول الله إلى ربّه، وقال الله لنا: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران/ 144)، فهل ننقلب على أعقابنا، فنسير يميناً وشمالاً، ونلعن ونقاتل ونسبّ بعضنا بعضاً؟ وهل ننقلب على أعقابنا لنتنازع فنفشل وتذهب ريحنا، والله تعالى يقول: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا) (آل عمران / 103)؟!

إنّ الإسلام أمانة الله وأمانة رسوله في أعناقنا، فعلينا أن نحميه بما نحمي أنفسنا، وعلينا أن ندعو أولادنا وأهالينا وكلَّ الناس من حولنا، إلى أن يكون كلّ واحدٍ منّا ـ كلٌّ بحجم ثقافته وإمكاناته ـ داعيةً لله وللإسلام في كلِّ مجال، وأن ننطلق لنجاهد في سبيل الله كما جاهد، وأن نعيش الإسلام كلَّه في كلِّ حياتنا، كما أرادنا الإمام زين العابدين (ع): "ووفّقنا في يومنا هذا وليلتنا هذه، وفي جميع أيّامنا، لاستعمال الخير، وهجران الشرّ، وشكر النِّعم، واتّباع السُّنن، ومجانبة البدع، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وحياطة الإسلام، وانتقاص الباطل وإذلاله، ونصرة الحقّ وإعزازه، وإرشاد الضالّ، ومعاونة الضعيف، وإدراك اللّهيف".

إنّ العالم المستكبر المتحالف مع العالم الكافر، يعمل بكلِّ ما عنده في سبيل أن يُسقط الإسلام في عقيدته وشريعته، وفي قيمه وفي أرضه وأهله وأُمّته، لذلك، علينا أن نقف مع الإسلام في كلِّ قيمه وأهله، "مَن لم يهتمّ بأُمور المسلمين فليس بمسلم"، لنقول لرسول الله (ص): يا رسول الله، إنّنا إذا لم نبلغ زمنك، فإنّنا سنكون من أصحابك وأتباعك، سنكون الأشدّاء على الكفّار الرحماء بيننا، سنكون المعتصمين بحبل الله، وسنستجيب لقول الله: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) (آل عمران / 104).

يا رسول الله، إنّنا معك عقلاً في عقلك، وقلباً في قلبك، وحركةً في جهادك، اُدعُ الله أن يسدّد لنا خطواتنا، وأن يجمعنا على الخير والتقوى، وأن يجمعنا على الإسلام كلّه، وأن يوحِّد قلوبنا، وأن يُسدِّدنا بالقول والعمل.

ارسال التعليق

Top