يقول تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك/ 15). إنّ مفهوم العمل في الإسلام يعني الإعمار، يعني النفع، يعني الإنتاج والإثمار، فالآية تنصّ على أنّ الأرض وما فيها من خيرات وُضعت للأنام، للناس وللأحياء جميعاً، وإنّ الله سبحانه قد أودع في هذه الأرض ما يحتاجه الناس والأحياء من: (الغذاء، والخيرات، والمعادن، والمياه.. إلخ).
اهتم الإسلام بالعمل والحثِّ عليه، يقول الإمام الباقر (عليه السلام): «مَن طلب الدنيا استعفافاً عن الناس، وسعياً على أهله، وتعطّفاً على جاره، لَقِي الله عزّوجلّ يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر». والإسلام عندما دعا الناس للعمل كقيمة وكضرورة، حَدَّد حزمة من الأخلاق الضرورية الخاصّة بالعمل والاسترزاق. ففي قصّة النبيّ موسى مع شعيب (عليهما السلام)، عندما أعان النبيّ موسى (عليه السلام) ابنتي شعيب على سقي غنمهما من دون أن يطلب أجراً، تلمّست فيه إحدى الابنتين أهمّ الصفات أصالةً لعامل يمكن أن يعمل عندهم، لذا تقترح على أبيها: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ) (القصص/ 26). وفي قصّة النبيّ يوسف (عليه السلام)، عندما دعاه عزيز مصر: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف/ 55).
وهذان أهمّ شرطين من شروط النجاح يجب أن تتوفّرا في العامل: أوّلاً، القوّة (الجسدية أو المعرفية)، واستثمار هذه القوّة يظلّ موضع شكّ إن لم تقترن بالأمانة، وهي الشرط الثاني الأساس للنجاح. فغياب الأمانة قد يدفع بالعامل إلى استثمار كفاءاته خارج مصلحة العمل: يرتشي، يغشّ، يسرق، يكذب، يهدر المال والوقت، وربّما أدوات العمل وأسراره. إنّ الأمانة هي رأس أخلاقيات العمل في الإسلام، هي أهمّ من الكفاءة، بل إنّ الأمانة هي التي تدفع بصاحبها ليطوِّر قدراته وليقوم بمسؤولياته، تماماً مثل الكثير من الصفات الشخصية الأخرى التي تبيّن أنّ البحث عنها هو الأهمّ لدى ربّ العمل، وقبل البحث عن مستوى الكفاءة، مثلاً: شخصية الموظّف؛ طيبته، شفافيّته، صدقه، ردود فعله، كظم غيظه، كيف يتعامل مع أخطاء الآخرين، تقبّله للنقد، مراجعته لنفسه، وغير ذلك من الصفات.
ويُروى أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان جالساً بين أصحابه، وإذ بشابٍّ قوي الجسم، مفتول العضلات، يحمل المنجل وهو ذاهبٌ إلى العمل، فالتفت أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ كما تقول الرواية ـ إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مستنكرين، وقالوا: لو أنّ هذا الشاب ـ الذي خرج لطلب الرزق ـ يصرف هذه القوّة في عبادة الله، فيصلّي ويصوم ويحجّ، أما كان ذلك له أفضل من طلب الدنيا؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم: «إن كان هذا الشاب قد خرج لأبوين عنده يعولهما، فقد خرج في سبيل الله، وإن كان قد خرج ليعود بالمال على نفسه وعياله، فقد خرج في سبيل الله، وإن كان قد خرج ليكفَّ ماء وجهه عن الناس، فقد خرج في سبيل الله، وإن كان قد خرج ليستعلي بالمال على الناس، فقد خرج في سبيل الشيطان».
إذاً، نفهم من هذا أنّ كلَّ الأهداف التي يستهدفها الإنسان في عمله من أجل القيام بمسؤولياته الأبوية أو العائلية أو الذاتية، وما يتفرَّع عنها من مسؤولياتٍ تجاه المجتمع، تجعله مجاهداً في سبيل الله، كما يحمل السيف ليُقاتل في سبيل الله، وقد ورد في الحديث: «الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله»، فكما تحتاج الأُمّة إلى مَن يدافع عنها، ويقاتل في سبيل عزّتها، كذلك تحتاج إلى مَن يدفع الفقر عنها في الداخل، ويلغي ضعفها في حاجاتها المعيشية والاقتصادية، ويُبعدها عن الديون الخارجية.
ويبقى النداء الإلهي: (وَقُلِ اعْمَلُواْ) في كلِّ ما كلّفكم الله عملكم من عبادةٍ ومن طلب رزقٍ ومن جهادٍ وعلم، (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة/ 105). هذا هو موقف الإسلام من العمل: بشارة من الله لكلِّ العاملين، وغضبٌ من الله على كلّ البطّالين، فاحذروا أن تكونوا من البطّالين لأنّكم لا تجدون عملاً على مزاجكم، واعملوا أيّ شيء، وفي أيّ موقع، فإنّ في العمل الشرف كلّ الشرف، حتى ولو كان عملاً صغيراً، لأنّ الإنسان الذي يكفّ ماء وجهه عن الناس، هو الذي يحافظ على كرامته وعزّته وشرفه.مقالات ذات صلة
ارسال التعليق