إنّ من السنّن التي أجراها الله في حياة عباده، سنّة انتصار الحقّ والعدل والاستضعاف على الباطل والظّلم، ولكنّها كسنّن الله في خلقه، تجري بأسبابها، وأسباب هذه السنّة تتمثّل بنهوض أتباع الحقِّ ودعاته، في مواجهة أصحاب الباطل وناشريه، وفي عدم استكانة العاملين للعدل أمام جبروت الظالمين والطُّغاة، فلا يرضى المستضعفون باستضعافهم باعتباره قدراً، بل يعملون على صناعة القوّة، فالله قد وَعَدَ وقال: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) (الإسراء/ 81 ). انبعثت ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) من ضمير الأُمّة الحيّ، ومن وحي الرسالة الإسلامية المقدّسة، ومن البيت الذي انطلقت منه الدعوة الإسلامية للبشرية جمعاء، البيت الذي حمى الرسالة والرسول ودافع عنهما حتى استقام عمود الدِّين. وأحدثت هذه الثورة المباركة في التاريخ الإنساني عاصفة تقوّض الذلّ والاستسلام، وتدكّ عروش الظالمين، وأضحت مشعلاً ينير الدرب لكلّ المخلصين من أجل حياة حرّة كريمة في ظلّ طاعة الله تعالى.
في الغالب تُحسب نتائج النصر والهزيمة وفق الحسابات المادّية والآنيّة، وهو فيما إذا استطاع أحد الأطراف إنزال الهزيمة بخصمه من خلال قتله، أو تدمير معداته، أو إجباره على الاستسلام، أو الفرار، أو الانسحاب، فإنّ هذا الطرف يعدّ منتصراً حينئذٍ. ولكن هذه النظرة في تقييم نتائج الصراع قاصرة وغير دقيقة؛ إذ لابدّ أن تكون النظرة أكثر بُعداً وعمقاً وشمولاً لكلّ جوانب المسألة، فربّما تجد جهةٍ ما استطاعت أن تنزل هزيمة عسكرية آنيّة ساحقة بعدوها، ولكن النتائج في المستقبل في غير صالحها، فيتحوّل هذا النصر العسكري إلى كابوس يقضّ مضاجعها، وتميل كفّة النصر إلى صالح المنهزم والمقتول، وهذا ما أفرزته نتائج نهضة الإمام الحسين (عليه السلام)؛ إذ أعطت معايير جديدة وصحيحة لتقويم نتائج الفوز والخسارة في موازين الصراع والمعارك الحاصلة بين الخصوم، فإنّ النتائج الآنيّة والأوّلية تؤشّر انتصار الجيش الأُموي في معركة كربلاء، وقتل الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه، وانتهاب ثقله وسبي حرمه، لكنّ الطريقة المُثلى هي التي أدار بها الإمام الحسين (عليه السلام) دفّة الصراع والخطوات الصحيحة التي اتّخذها منذ بداية نهضته وخروجه من المدينة وتوجهه إلى مكّة، ثمّ العراق ووصوله إلى كربلاء.
بل كان الإمام الحسين (عليه السلام) واثقاً من تحقيق هذا الانتصار الباهر طبق الموازين، حیث كان يدرك تمام الإدراك أنّه سيحقّق النصر والفتح العظيم بتحقيق أهداف نهضته من الإصلاح والتغيير، وزوال دولة الظلم والجور، وأنّهم بشهادتهم سيحقّقون هذا النصر المؤزّر، وينالون هذه المنزلة العظيمة التي سيُحرم منها مَن لم يلتحق بهذه النهضة. إنّ إطلالة سريعة لمُجمل أحداث التاريخ تبيّن وضوح الرؤية التي بيّنها الإمام (عليه السلام)، فقد أعطت النهضة الحسينية نتائج باهرة، فعلى المستوى السياسي لم يتمكّن بنو أُميّة من الاستمرار في الحكم، سوى حفنة من السنين الممتلئة بالمشاكل والاضطرابات لتنتهي على يد الدولة العباسية، فقد قامت عدّة انتفاضات وثورات ضدها استلهمت النموذج الحسيني في أُسلوبها، وأمّا على الصعيد الاجتماعي والديني، فما زالت النهضة الحسينية إلى يومنا هذا نبع عطاء لا ينضب.
وحينما نرجع بالتاريخ إلى الوراء نجد من الإمام الحسين (عليه السلام) بطولات نادرة في الفتوحات الإسلامية، ثمّ في حروب الإمام عليّ (عليه السلام)، إلاّ أنّها مهما بلغت من القوّة والأصالة فإنّها لا تبلغ شجاعته (عليه السلام) يوم عاشوراء، تلك التي كانت حدث رائع في تاريخ الإنسانية بلا شكّ. وينبغي الإشارة إلى أنّ عاشوراء الإمام الحسين (عليه السلام) أحيت بعض القيم والمبادئ النبيلة وأعطتها دفعة معنوية، ومنها مبدأ الموت في عزّ وشرف أحلى من الحياة في ذلّ وهوان في ظل الظالمين والمتجبِّرين «وإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين إلّا برماً»، وكذلك مبدأ الثبات في المواجهة حتى النهاية، وعدم الجنوح نحو الاستسلام المذلّ أو الفرار المهين؛ الأمر الذي يفرض الثائر من خلالِه احترامَه وتقديرَه على الجميع.
إنّ بلوغ الأهداف الكبرى في الحياة يستلزم تضحيات كبرى مكافئة لها، ولا ريب أنّ سموّ الأهداف ونبل الغايات تقتضي سموّ التضحيات وشرفها ورقي منازلها، وإذا كان أشرف التضحيات وأسماها هو ما كان ابتغاء رضوان الله تعالى ورجاء الحظوة بالنعيم المقيم في جنات النعيم، فإنّ الذود عن حياض هذا الدِّين والدفاع عن مقدّساته يتبوّأ أرفع درجات هذا الرضوان. ثمّ إنّ للتضحيات ألواناً كثيرة ودروباً متعدّدة، لكن تأتي في الذروة منها التضحية بالنفس، وبذل الروح رخيصة في سبيل الله لدحر أعداء الله ونصر دين الله. قال تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ (آل عمران/ 169). وقال عزّوجلّ: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ﴾ (البقرة/ 154).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق