قال الله تعالى في مُحكم الكتاب: (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) (الطلاق/ 12). جعل الله تعالى العلم السبب الرئيسي لخلق العالم. وجعل سبحانه العلم أعلى مرتبة وشرف، وأوّل منّة امتنّ بها على ابن آدم بعد خلقه وإبرازه من ظُلمة العدم إلى ضياء الوجود، فقال سبحانه في أوّل سورة أنزلها على نبيّه محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم): (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق/ 1-5).
افتتح الله تعالى كتابه الكريم بنعمة الإيجاد، ثمّ أردفها بنعمة العلم، فلو كان ثمة مِنّة أو نعمة بعد نعمة الإيجاد هي أعلى من العلم لما خصّه الله تعالى بذلك، وصدّر به نور الهداية. الله تعالى خلق الإنسان من علق، وفي بعضها تعليمه ما لم يعلم؛ ليحصل النظم البديع في ترتيب آياته: إنّه تعالى ذكر أوّل حال الإنسان، وهو كونه علقة، مع أنّها أخس الأشياء، وآخر أمره وهو صيرورته عالماً وهو مقام شريف، وليس هذا الكمال إلّا من قدرته تعالى، وتنبيه على أنّ العلم أشرف الصفات، ومن هنا حصر سبحانه الخشية في العلماء، فقال: (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر/ 28).
وهذه الآية فيها وجوه من الدلائل على فضل العلم: منها دلالتها على أنّ العلماء هم أهل الجنّة؛ وذلك لأنّ العلماء من أهل الخشية، ومَن كان من أهل الخشية كان من أهل الجنّة، فالعلماء من أهل الجنة، فبيان أنّ العلماء من أهل الخشية قوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ). وبيان أنّ أهل الخشية من أهل الجنّة قوله تعالى: (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (البيّنة/ 8). وقرن سبحانه أولي العلم بنفسه، وملائكته، فقال: (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ) (آل عمران/ 18). وزاد في إكرامهم على ذلك مع الاقتران المذكور، بقوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (آل عمران/ 7). وبقوله تعالى: (قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) (الرعد/ 43). وقال تعالى مخاطباً لنبيه، آمراً له مع ما آتاه من العلم والحكمة: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (طه/ 114).
لم تعرف الإنسانية ديناً حثّ على طلب العلم كالإسلام، فقد رغب في طلبه ونشره بشتّى الوسائل والطُّرق تعظيماً لقدره وبياناً لقيمته، وتقديراً لمكانة العلماء، ولقد رغَّب ديننا الحنيف في العلم، ووعد العلماء والمتعلمين جزاء أوفى ودرجات رفيعة، قال الله عزّوجلّ: (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (المجادلة/ 11)، وجعل طلبه فريضة على كلّ مسلم ومسلمة، يقول الرسول (صلى الله عليه وآله سلم): «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم». إنّ أُمّتنا أُمّة علم بامتياز، انتشر فيها العلم بكلّ فنونه وشعبه حتى برعت فيه وحازت مراتب الشرف، ولم يترك علماؤها فرعاً من علم إلّا درسُوه وحقّقوا لأنفُسهم ولأُمّتهم وللإنسانية المجد فيه والسبق، حتى أدهشوا العالم بنهضتهم العلمية، فصنعوا واخترعوا وطوّروا وقادوا الأُمم حيناً من الدهر.
لقد كانت بداية الوحي تتضمن ثلاث كلمات وهي (اقرأ)، و(علَّم)، و(القلم) وفي ذلك دعوة صريحة للعلم والقراءة والتعليم قصد الترقي في درجات العلم، ولا يتأتى هذا إلّا بالقلم الذي كان وما يزال أوسع وأعمق أدوات التعليم أثراً في حياة الإنسان، ولقد أقسم الله بهذه الأداة الصغيرة حجماً الكبيرة أثراً في قوله تعالى: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) (القلم/ 1)، وطلباً لثواب العلم وحرصاً على ما أعدّ الله للعاملين به الجامعين له، وحرصاً على نفع الأُمّة كان الأوّلون يقطعون المسافات البعيدة لطلب العلم والاكتشاف، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله سلم): «اطلبوا العلم ولو بالصين».مقالات ذات صلة
ارسال التعليق