الزُّهد من القيم الإسلامية والخلق الإنسانية الرفيعة التي ورد في حقّه الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث والروايات. يقول سبحانه وتعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) (البقرة/ 207)، ويقول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): «إذا رأيتم العبد قد أُعطي صمتاً وزُهداً في الدُّنيا فاقربوا منه، فإنّه يلقي الحكمة»، وقد قال تعالى: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) (البقرة/ 269)».. ويقول الإمام عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام): «الزُّهد كلّه بين كلمتين من القرآن، قال سبحانه: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) (الحديد/ 23). ومن لم يأسَ على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزُّهد بطرفيه» و«الزُّهد في الدُّنيا قُصر الأمل، وشُكر كلّ نِعمة، والورع عن كلّ ما حرَّم الله عزّوجلّ». وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «ليس الزُّهد في الدُّنيا بإضاعة المال ولا تحريم الحلال، بل الزُّهد في الدُّنيا أن لا تكون بما في يدك أوثق منك بما عند الله».
الإسلام حثّ على الزُّهد في متاع الحياة الدُّنيا ورغّب فيه لأنّه تربية للإنسان على طريق السموّ والتكامل. فالتحذير من حبّ الدُّنيا ورد حتى لا يرضى بها الإنسان ويطمئنّ إليها ويؤثّرها على الموقع الأساس، على الآخرة، أو أن يغترّ بها.. فقال في ذلك: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ) (يونس/ 7). وهذا الحبّ إن كان على هذه الصورة، بحيث يتحوّل إلى اطمئنان للدُّنيا واغترار بما فيها وتنكّر لما بعدها، هو خطر على الإنسان وهو سبب شقائه ومشاكله، وهو وراء كلّ ما تعانيه البشرية، وإلى ذلك أشارت الأحاديث: «حبّ الدُّنيا أصل كلّ معصية، وأوّل كلّ ذنب»، «حبُّ الدُّنيا يُفسِدُ العقل ويُصِمُّ القلب عن سماعِ الحكمة ويوجِبُ أليمَ العقاب»، «حبُّ الدُّنيا يوجب الطمع»، «حبّ الدُّنيا رأس كلّ خطيئة».
فالناس عندما يستغرقون في الدُّنيا تُفسِد إنسانيّتهم، ويتباغضون ويتحاسدون ويتنازعون ويتقاتلون مع مَن يبذلون الخيرات ويضحّون من أجل الآخرين، وهو ما يؤدِّي إلى تدمير الحياة وتهديم القيم فيها.. فالحياة لا ترتقي بالشهوات أو الأطماع أو بالتكالب على المال والجاه. إنّ جميع الرذائل، والتي تعانيها الحياة، كالأنانية والكذب والغش والظلم والغيبة والنميمة والفساد وسوء الأمانة والالتهاء بالتكاثر في الأموال والأولاد، هو نتاج هذا الاستغراق.
نحن نحبّ الدُّنيا ونميل إليها، لكنّنا لا نستغرق فيها ولا ندعها تملكنا، بل نراها وسيلتنا إلى الله، لنستعين بها على طاعته، وعلى الخير والعمل الصالح، والتزوّد بها ليوم نحتاج فيه إلى هذا الزّاد.. وهذا ما دعا إليه هذا الحديث: «لا تسبّوا الدُّنيا ولا تكرهوها، فنعم مطيّة المؤمن، عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشرّ»، و«الدُّنيا دار صدق لمن صدَّقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوَّد منها». وورد أيضاً: «اجعلوا لأنفُسكم حظّاً من الدُّنيا، بإعطائها ما تشتهي من الحلال، وما لا يثلم المروّة وما لا سرف فيه، واستعينوا بذلك على أُمور الدِّين، فإنّه رُوي: ليس منّا مَن ترك دنياه لدينه، أو ترك دينه لدنياه». وقد جاء رجل إلى الإمام الصادق (علیه السلام)، فقال له: والله إنّا لنطلب الدُّنيا ونحبّ أن نؤتاها، فقال له الإمام (علیه السلام): «تحبّ أن تصنع بها ماذا؟». قال: أعُودُ بها على نفسي وعِيالي وأصِلُ بها وأتَصدَّقُ بها وأحُجُّ وأعتمِرُ. قال (علیه السلام): «ليس هذا طلبَ الدُّنيا، هذا طلبُ الآخرة». إنّ هذا الفهم لموقع الدُّنيا في الحياة، وللمنهج الإسلامي في التعامل معها والالتزام بذلك، سوف يجعلنا من أولئك الذين وعدهم الله فقال عنهم: (فَآَتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 148).
الإنسان العابد الزاهد يرى حقائق الكون بمنظار يختلف عن ذلك الفرد المنغمس في حسّه المادّي، والفرق بين الاثنين لا يقتصر على إطار الرؤية، بل يتسع ليشمل التفكير والاستنتاج والتقييم والربط. يقول تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ) (آل عمران/ 190-191). ویقول (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يستكمل العبد الإيمان حتى يكون أن لا يعرف أحبّ إليه من أن يعرف، وحتى يكون قلة الشيء أحبّ إليه من كثرته». ونختصر هنا الزُّهد بكلمة قالها أمير المؤمنين (عليه السلام): «الزُّهد تقصير الآمال وإخلاص الأعمال».مقالات ذات صلة
ارسال التعليق