الدُّعاء هو التعبير الحيّ عن شعور الإنسان بحاجته الدائمة إلى الله في جميع أُموره، واعترافه الخاضع بصفة العبودية التي تتمثّل في الإحساس بالارتباط العميق بالله والفناء فيه، بحيث لا يحسّ معه بوجوده ولا يشعره بكيانه. ومن البديهي أنّ الإيمان الحيّ لا يتحقّق بدون هذا الشعور وهذا الإحساس، إذ لا معنى للإيمان بالله إلّا بالإحساس بالقدرة الخالقة التي لا تقف عند حدّ، والقوّة المطلقة التي لا تنتهي إلى غاية، في مقابل عجز الإنسان وضعفه الذي لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً إلّا بالله.
وعلى ضوء هذا، فإنّ حاجتنا إلى الدُّعاء تتمثّل في حاجتنا إلى التعبير عن هذا الإيمان، والعمل على استمراره داخل النفس حيّاً نابضاً بالحياة، يجدِّد للإنسان إيمانه ويركِّز ثقته بالله. ولهذا ورد في الحديث «أنّ الدعاء مخّ العبادة» لأنّه التعبير الحيّ عن معنى العبودية والخضوع والخشوع الذي يتمثّل في العبادة، بدونه تصبح العبادة جسداً لا روح فيه. وبذلك يخرج الدُّعاء عن أن يكون طقساً تقليدياً يمارسه الإنسان بدون فهم ووعي، بل بفعل العادة الدائبة. تلك هي بداية الدُّعاء في مفهوم الأديان التي التقت كلّها في تقديس الدُّعاء وإعطائه هذه الأهمية عندما التقت في تأكيد الإيمان بالله، وقد نصّ القرآن الكريم على دعاء نوح وإبراهيم وموسى وأيّوب وزكريا وغيرهم في ساعات الحرج والضيِّق، وفي حالات الابتهال والانقطاع، كأسلوب عملي يوحي للناس بقيمة هذه العبادة في علاقة المرء بربّه، وبأصالاتها في مفهوم الإيمان، حتى في حياة الأنبياء الذين يمثِّلون القمة الإنسانية في القرب إلى الله تعالى.
انطلق القرآن الكريم بعد ذلك ليؤكِّد هذه العبارة في جميع حالات الإنسان، حتى لا تكون علاقة الإنسان بالله علاقة منفعة مادّية، فنراه في الوقت الذي يحثُّ الإنسان على أن يدعوه خوفاً وطمعاً، يطلب منه من آية أخرى أن يدعوه مخلصاً له الدِّين، في دعاء الإخلاص والتوحيد الخالص. ويشير في بعض الآيات إلى نماذج من الناس لا يعرفون الدعاء إلّا في أوقات الشدة حتى إذا كشف الله عنهم ذلك نسوا الله (وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) (الزّمر/ 8).
إنّ الدُّعاء في محتواه أساساً علاقة وطيدة متينة بين العبد وربّه، يقف العبد فيها بين يدي مولاه في كلّ مكان وكلّ حال يدعوه ويناجيه ويشكو إليه ويخاطبه بكلّ خلجات قلبه وجوارحه وبالمقابل يتلطّف المولى الكريم الغني عن عبده خالق العبد ومحييه ومغنيه يتلطّف هذا المولى الرحيم فيغدق على عبده من مننه وعطاياه ما يسعده في الدُّنيا والآخرة. أي وسيلة أفضل من هذه الوسيلة في تربية الإنسان وإصلاح أمره؟ وأي أداة تربوية قادرة على إعطاء مثل هذا الشدّ العميق المحكم للإنسان نحو ربّه ومولاه؟ ولذا وصف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الدُّعاء بقوله: «أفضل العبادة الدعاء وإذا أذن الله لعبد بالدُّعاء فتح له أبواب الرحمة».
إن رمضان شهر الدُّعاء وشهر الإجابة وشهر التوبة والقبول، ومما يبين مكانة الدُّعاء وعلو شأنه في شهر الصيام قوله تعالى في سورة البقرة: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (آية 186) قد جاء متخللاً لآيات الصيام وفي أثنائها، فقبل هذه الآية قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) وبعدها قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ)، فجاءت هذه الآية الكريمة وهي مختصة بالدُّعاء متوسطة لآيات الصيام ومحفوفة بها ولعل في ذلك ما يدل على عظم قدر الدُّعاء وأهميته في هذا الشهر الفضيل، لأن العبد في هذا الشهر المبارك يملؤه الرجاء أن يوفقه الله للقيام بحق الله في هذا الشهر على أتم الوجوه وأكملها، ولا سبيل له إلى ذلك إلا بسؤال الله ودعائه، وهو كذلك يكثِر في هذا الشهر من الطاعات والعبادات وهو يرغب أن يتقبلها الله.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق