• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مظاهر الشمول في تشريع الصلاة

مظاهر الشمول في تشريع الصلاة
إنّ من مميزات العبادات الإسلامية ومن أدلة تكاملها وانسجامها التام مع طبيعة الإنسان في حياته الدنيوية وشمولها لجميع خصائص كيانه ومقومات شخصيته في الوجود هو انفتاحها على مشاركة الروح والجسد في عملية الأداء وفسحها المجال لتفاعل الروح والجسد أيضاً مع الروعة اللامتناهية في العطاء، فلم تكن رسالة الإسلام لتفصل في عبادتها بين جهازين متلازمين يكمل أحدهما الآخر، ولم تكن أيضاً لتهمل أحدهما على حساب الثاني أو لتحكم على أحدهما بالضمور من أجل أن ينمو القسم الآخر ويزدهر في مجال التربية والإعداد. الإنسان خليفة الله في الأرض وخلافته هذه تؤهله لاستثمار جميع طاقات الكون الخيرة الصالحة، ولهذا فإنّ هذا الإنسان في حاجة إلى روح متبلورة خالصة يعيش بها في رحاب الله ويسبح بصفائها في عظمة ملكوته عزّ وجلّ فتصبح أنفاسه تهليلاً ونظراته تكبيراً وخفقاته حمداً وشكراً ولكنه في حاجة أيضاً إلى جسم صالح يستجيب لما تمليه الروح ويساير ما ترسمه له معطياتها في الحياة ليتمكن من وراء ذلك أن يؤدي واجبه ويقوم بدور الخلافة في أرض المادة بشكل متكامل، ولهذا فقد كان انسجام الروح والجسد في فرائض العبادات الإسلامية هو من خصائص شمول هذا الدين وصلاحية تطبيقه في شتى المجالات. يبدو وضوح هذا الانسجام في عملية الصلاة، هذه العبادة التي كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً، إنها تحكي بحكمة التوقيت وطريقة الأداء، تحكي قصة الشمول بجميع خصائصها، ففي الوقت الذي كان من الممكن فيه أن يجمع التشريع بين الصلوات الخمس في بداية النهار أو يحصرها في نهايته مثلاً فيتحتم على العبد أن يعيش ساعات نهاره من معطيات ساعة جمعت بين الفرائض، نعم مع إمكان هذا وزع التشريع الإسلامي الصلوات الخمس في أوقاتها رعاية لمتطلبات الروح والجسد ومواكبة منه لما تمليه طبيعة كل منهما. في الصباح وبعد انقضاء ساعات النوم الطويل وفترة السبات العميق وعند انطلاقة نسمات الفجر العذاب وتفتح صفحة الأفق عن بسمة الصباح ينطلق النداء الإلهي ليهيب بالإنسان أن يغسل عن روحه آثار الكسل وينفض عن جسمه غبار الخمول (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) (الإسراء/ 78)، أما من الناحية الروحية فنحن نلاحظ أنّ الانطباعة الأولى من مستهل اليقظة من كل يوم لها أعمق الأثر في تأطير ساعات النهار، فالإنسان الذي يستقبل نهاره في روح مشرقة ونفس واثقة متفائلة.. هذا الإنسان سوف يبقى يجتر معطيات الهناء هذه خلال ساعات النهار مع كل ما تحمل إليه تلك الساعات من مصاعب ومتاعب وآلام، والصلاة بكلماتها ودعواتها هي المعين الذي لا ينضب من العطاء وحسب الإنسان منها إيمانه بقوله: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (النمل/ 30)، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة/ 5). فالرحمة هي من أهم مقومات العدل والإحسان ولهذا فإن اسمها لكفيل ببعث الأمل إلى النفوس وكيف بتلك الرحمة إذا كانت ربانية؟ رحمة القادر المقتدر والرحمن الأوحد. الإنسان أيضاً بطبيعته ضعيف وهو يستشعر بالحاجة إلى من يسنده ويمده بأسباب العون ليطمئن إلى وجود قوة: تشد ازره وتحميه فإن إيمان هذا الإنسان بمعونة الله والركون إلى كنفه لهو جدير في أن يمده بشحنة هائلة من الثقة والإطمئنان لشعوره بأنّه يركن إلى حصن منيع وحمى قوي مكين. أما الناحية الصحية لهذا التوقيت فإن أعصاب الإنسان وخلايا جسمه تحتاج إلى نوع من الحركة الرتيبة لتستعيد فترة نشاطها بعد فترة الركود، وقد قال أحد أساتذة التربية البدنية بأنّه ينصح الراغبين في التكامل الجسمي بإتباع رياضة بدنية لمدة ربع ساعة عند الفجر من كل نهار، ثمّ إن ما سبق الصلاة من طهارة ووضوء لهو أروع تعقيم للعين والأنف والفم وأهم مغذ لمسام البشرة ومنشط لجلدة الجسم الخارجية، أفليس من المؤسف أن يخسر الإنسان المسلم استغلال هذه النعمة فيقضي فترة الصباح في نوم ثقيل يعطل حركة حياته اليومية ويشل بالتدريج حركة جسمه وروحه معاً. ثمّ نقف بعد هذا عند توقيت صلاة الظهر والعصر وأثرها الروحي والجسمي في حياة الإنسان فهو بعد ساعات طوال من الجهد والعمل وخوض غمار الحياة بكل ما تزخر به حياته من ألوان وأشكال وما تنطوي عليه من أزهار وأشواك، إنّه ليصبح في حاجة ماسة إلى عودة نحو مطلع النور ومصدر الهدوء والأمان ويصبح في حاجة أيضاً إلى يقظة جديدة تشده نحو واقع وجوده وتفهمه من جديد بأنّه خليفة الله في الأرض، وليس بأداة ميكانيكية تعمل في المادة وتشقى من أجل المادة. فهو مكون من جسم وروح ولكليهما عليه حق، ولهذا فإن فترة صلاة الظهيرة والعصر تعطي للإنسان شحنة جديدة من القوى الروحية وتكون له بمثابة فترة استراحة جسمية إجبارية في الوقت نفسه أنها فترة تذكرة، تذكر الإنسان بعبوديته المطلقة لله بكل ما تحمل تلك العبودية من معاني الانقياد الكامل والصهر الحقيقي في بوتقة الإيمان: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) (الإسراء/ 78). ثمّ وفي نهاية اليوم.. وعند استقبال الليل بظلمته وسكونه، وعندما يودع الإنسان حياة الصخب والنصب والأخذ والعطاء ليسكن إلى دنيا الغيبوبة في عالم السبات فيلقى قياده أمام غلبة النوم ويركن إلى استسلام عميق عند ذلك يصبح في حاجة إلى طاقات جديدة يغالب بها فتور الجسد ويصارع بزخمها عطل الروح والفكر بعد أن خاضاً غمار أمواج الحياة طيلة نهار كامل، إنّه في حاجة إلى وقفة جديدة تحدد له الطريق وترسم له المعالم التي تجنبه الضياع فهو قد ينسى أو يتناسى، وهو قد يجهل أو يتجاهل، واستمرار ساعات النسيان وتعاقب فترات الجهل يشكلان خطراً كبيراً في حياة الإنسان الدنيوية والأخروية: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت/ 45). ثمّ إنّه في حاجة أيضاً إلى شحنة من الاطمئنان النفسي تسلمه إلى نومة هادئة وأحلام سعيدة، والصلاة هي من أهم العوامل التي تسبغ على صاحبها الأمان والاطمئنان: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد/ 28). هذه هي بعض ملامح حكمة التوقيت ومراعاتها لمصلحة الروح والجسد، ثمّ إنّ الصلاة بأعمالها وواجباتها تشترك فيها الروح والجسد بشكل متلازم، ولهذا فإنّ الإنسان عندما يتوجه بصلاته نحو الله يشعر أنّ كل ذرة في كيانه مندمجة مع عملية الصلاة، مشاعره وأحاسيسه، أعضائه وجوارحه كل هذه مجتمعة في نقطة واحدة لتنطلق منها في رحاب الله. (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) (الإسراء/ 78-79).   المصدر: رسالة الإسلام، السنة الخامسة، العدد 1009.

ارسال التعليق

Top