• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

عن اختطاف الربيع العربي

عن اختطاف الربيع العربي

إذا لم ندرك أن الربيع العربي يتعرض للاختطاف في المرحلة الراهنة، فمعنى ذلك أننا واهمون أو مغيبون، وأننا ما قرأنا نشرات أخبار الساعة، أو قرأناها ولم نستوعب مغزاها.
(1)
في 22 فبراير/شباط الماضي، بعد نحو عشرة أيام من تنحي الرئيس السابق، نشر لي مقال تحت عنوان: ماذا يدبرون للثوار في الخفاء؟، وكانت الفكرة الأساسية فيه تقوم على أن الأميركيين والإسرائيليين ظلوا طوال الثلاثين سنة السابقة يمدون جسورهم ويثبتون أقدامهم في مصر، ويخترقون كل ما استطاعوا اختراقه من مواقع أو شرائح اجتماعية، لضمان استمرار نفوذهم والإبقاء على مصر في موقف التابع والمنكفئ.
ولم يكن سرا أن تلك الترتيبات تمت تحسبا ليوم يحدث فيه أي تغيير «دراماتيكى» في مصر، كما قيل آنذاك صراحة. وإذ استشهدت في ذلك بما توفر لدي من وثائق، فإن السؤال الذي طرحته كان كالتالي: هل ذهب كل ذلك الجهد هباءً، ومتى وكيف سيتم استثماره؟، ما لم أذكره حينذاك أن صحيفة «نيويورك تايمز» كانت قد نشرت قبل ظهور مقالي بثلاثة أيام (في 19/2) أن المسؤولين الأميركيين كانوا واثقين في اليوم الثامن من الشهر ذاته من أن الجيش لن يطلق النار على المتظاهرين في مصر، وأن أولئك المسؤولين قدروا الدور المهم للجيش الذي له روابطه العميقة بالجيش الأميركي.
واستوقفني في الكلام المنشور عبارة نسبت إلى المسؤولين الأميركيين قالوا فيها إن ثلاثين سنة من الاستثمار في مصر كانت لها فائدتها. فيما وجهه الجنرالات الأميركيون وضباط الاستخبارات من رسائل إلى نظرائهم المصريين عبر البريد الإلكتروني، وخلال الاتصالات الهاتفية التي أجروها معهم. وهى الخلفية التي دفعتني إلى التساؤل في ذلك الوقت المبكر عن أهداف هؤلاء وما يدور في عقولهم بشأننا في المرحلة المقبلة.
لم يكن هناك شك في أن الأميركيين وغيرهم فوجئوا بما حدث، وأنهم سارعوا منذ اللحظات الأولى إلى الاستفادة من رصيد استثمارهم في مصر طوال الثلاثين سنة السابقة، لكي يكونوا في «الصورة» قبل الإقدام على أي خطوة. ذلك أن المفاجأة باغتتهم وكانت أقرب إلى صدمة جاءتهم من حيث لا يحتسبون.
(2)
أحتفظ بتقرير نشرته مجلة نيوزويك في 12/6 عن المأزق الذي واجهته واشنطن بوجه أخص، بعدما فوجئت بتجليات «الربيع العربي» إذ أثار انتباهي فيه التركز على أن رجال المخابرات المركزية الأميركية أقاموا خلال سنوات «مكافحة الإرهاب» علاقات وثيقة مع شخصيات رئيسية في الجيوش وأجهزة الأمن والسياسيين في منطقة الشرق الأوسط. وبسبب تلك العلاقات الوثيقة فإن المخابرات المركزية أصبحت أكثر اعتمادا على أجهزة الاستخبارات المحلية، خصوصا في مصر التي كان الرئيس السابق لها حليفا رئيسيا اعتمد عليه، وكان اللواء عمر سليمان رئيس المخابرات العامة هو الشخصية المحورية في تلك العلاقة التي بلغت ذروتها في تسعينيات القرن الماضي. وهي الفترة التي قامت فيها المخابرات المركزية بتتبع عناصر تنظيم القاعدة في أنحاء العالم، وإرسالهم إلى مصر لاستجوابهم وانتزاع الاعترافات منهم. الأمر الذي ارتفعت وتيرته واتسعت دائرته بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001.
أضاف التقرير -الذي كتبه كريستوفر ديكي- أن سقوط مبارك أسقط معه اللواء عمر سليمان الذي كانت واشنطن قد رحبت به وراهنت عليه كخليفة له، ولكن خروج الأخير من ساحة المخابرات والسياسة أربك الإدارة الأميركية لأنها لم تكن مطمئنة إلى الوضع المستجد، وغير واثقة من إمكانية نسج علاقة مخابراتية معه على النسق الذي كان سائدا في عهد مبارك.
الصورة تكررت في ليبيا، إذ ذكر التقرير أن المخابرات البريطانية والأميركية صاغت في تسعينيات القرن الماضي علاقات وثيقة مع رجل المخابرات الليبية المخضرم موسى كوسا (الذي عين لاحقا وزيرا للخارجية)، وأصبحت العلاقة أكثر قوة بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول. وفي ظلها تمت عملية «إعادة تأهيل» العقيد القذافي لكي يصبح أكثر قبولا وتعاونا مع الغرب. وحين قامت الثورة في ليبيا، فإن الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا قدمت الدعم الجوي للثوار. لكن «كوسا» انشق بسرعة وذهب إلى لندن. وهو ما أدى إلى حرمان الغرب من قناة الاستخبارات الليبية الأولى.
الوضع لا يقل خطورة في اليمن، هكذا قال الكاتب، ثم أضاف أن القيادة الأميركية كانت قد عملت على إيفاد شبكة من المستشارين قاموا ببناء وحدة خاصة لمكافحة «الإرهاب» تابعة لمنظومة الأمن المركزي في البلاد، بقيادة ابن أخ الرئيس علي عبد الله صالح. وبعد ثورة الشارع اليمني فإن المستقبل لم يعد واضحا، لكن الثابت أن الوضع لن يستمر كما كان في السابق.
الخلاصة التي خرج بها الكاتب من تقريره هي أن الربيع العربي أفقد الإدارة الأميركية أهم ركائزها في المنطقة، ثم إن حالة عدم الاستقرار التي أسفر عنها باتت تشكل بيئة مناسبة لانتعاش «الجهاديين»، الذين يقصد بهم جماعات التطرف الإسلامي التي يعد تنظيم القاعدة من نماذجها، وهو ما اعتبره تهديدا قويا للمصالح والحسابات الغربية.
(3)
الثورة الليبية كانت فرصة القوى الغربية لاختراق الربيع العربي واختطافه، ذلك أن أجهزة الاستخبارات الغربية التي فوجئت بما حدث في مصر وتونس قررت ألا تتكرر المفاجأة. وكانت تلك خلاصة المشاورات التي تمت بين ممثلي تلك الأجهزة في كل من الولايات المتحدة وفرنسا وإنجلترا. وحين لاحت نذر الثورة في ليبيا فإنهم لم يضيعوا وقتا. إذ تحولت تلك المشاورات إلى اجتماعات يومية واتصالات تنسيقية على مدار الساعة. فقد كان الهدف جذابا والصيد ثمينا. إذ إن التدخل السريع في هذه الحالة يسمح للدول الغربية بأن تدخل على الخط وتصبح مباشرة في قلب الصورة، بما يسمح لها بأن تصبح شريكا في الحدث، ومن ثم طرفا مؤثرا في مسار الربيع ومقاصده. ثم إن ثروة النفط الليبي تمثل عنصرا جاذبا ومشجعا يستحق الهرولة، بما يعيد إنتاج تجربة العراق الذي فازت الإدارة الأميركية بالنصيب الأوفر فيه.
ناهيك عن أن الموقف أفضل كثيرا في الحالة الليبية، فقد كانت الولايات المتحدة دولة احتلال وطرفا غازيا في العراق، لكنها مع «الحلفاء الغربيين» تحولت إلى فرقة إنقاذ استجابت لمطلب قيادة الثورة الليبية في حماية المدنيين من بطش العقيد القذافي وقسوة نظامه. وبرحيله يتخلص الغربيون من حاكم مستبد ومتقلب لا يؤمن جانبه ولا تتوقف مغامراته وحماقاته.
إضافة إلى هذا وذاك، فإن عملية إعمار ليبيا وتنميتها بعد سنوات التخلف الذي فرضه العقيد على بلاده إبان حكمه، وبعد الخراب الذي تسبب فيه حينما ثار الشعب ضده، تعد هدية كبرى لشركات الإعمار الغربية لابد من أن تسهم في انتعاشها. (المؤسسات الدولية قدرت كلفة إعادة إعمار ليبيا خلال السنوات العشر المقبلة بما يتراوح بين 250 و500 بليون دولار).
هذا التحليل ليس من عندي ولكنه خلاصة لما كتبه أحد الخبراء الأميركيين، هو فيليب زيليكاو في مقالة نشرها له موقع صحيفة فايننشيال تايمز (في 22/8). وصاحبنا هذا باحث ومؤلف، وكان شخصية مهمة في مجلس الأمن القومي الأميركي على عهد الرئيس الأسبق جورج بوش الأب، كما أنه كان أحد أبرز المسؤولين عن أداء الحكومة الأميركية في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، وهي المقالة التي علق عليها وناقشها في 24/8 باحث آخر هو بيل فان أوكين، وكانت فكرته الأساسية في المقالة -التي جسدها عنوانها- هي أن ليبيا في الوقت الراهن أصبحت نموذجا لإعادة تقسيم العالم العربي التي تتطلع إليها القوى الكبرى في الغرب.
إلى جانب التحليل السابق الذكر، فقد استوقفتني في المناقشة التي دارت بين الرجلين ثلاث ملاحظات هي:
* إن الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة حين أدركت أن الثورتين المصرية والتونسية بلا قيادة، فإنها سارعت بكل السبل لمحاولة استثمار ذلك الفراغ لصالحها.
* إن تلك الدول في سعيها إلى اختراق الربيع وتقسيم العالم العربي استعانت ببعض أصدقائها العرب، ممن يقودون دولا تقمع الحريات في بلادهم، لكنهم يقدمون يد العون والمساعدة إلى الشعوب الأخرى المتطلعة إلى الحرية والديمقراطية.
* إن الجهد الغربي لن يتوقف عند ليبيا ولا حتى عند سوريا، ولكن الحبل على الجرار كما يقولون بمعنى أن الباب لا يزال مفتوحا لانطلاق انتفاضات في ساحات أخرى مسكونة بعوامل التوتر واحتمالات الانفجار. وإذ تعلمت الأجهزة الأمنية الغربية الدرس من تجربتيْ مصر وتونس وعنصر المفاجأة فيهما، فإن تلك الأجهزة والقوى التي وراءها لن تكون بعيدة عن تلك الانتفاضات.
(4)
من يقرأ التعليقات والتحليلات الغربية للربيع العربي يجد أنها لا تختلف حول أربعة مصادر للقلق هي:
1- احتمالات تراجع النفوذ الغربي، حيث وصف البعض أجواء العالم العربي الآن بأنها مشبعة بإرهاصات مرحلة ما بعد الحقبة الأميركية.
2- ظهور التيارات الإسلامية على مسرح السياسة المفتوح بعد عقود من الحظر والتعتيم. وكان ذلك أشد وضوحا في مصر وتونس وليبيا على الأقل. وتحظى ليبيا بتركيز خاص لأن قائد المجلس العسكري في طرابلس (عبد الحكيم بلحاج) كان قائدا سابقا للجماعة الإسلامية المقاتلة في ليبيا، وقد هرب إلى أفغانستان إلى أن سلمته المخابرات المركزية إلى القذافي حيث قضى عدة سنوات في السجن، ولم يطلق سراحه إلا بعدما اشترك مع بعض زملائه في إجراء مراجعة فكرية أعلنوا فيها عدولهم عن العنف. كما أن المجلس الانتقالي يضم اثنين من أعضاء الإخوان المسلمين.
3- تأثير ذلك الربيع على مستقبل إسرائيل، ومصير معاهدة السلام مع مصر، ومعاهدة وادي عربة في الأردن (صحيفة هآرتس وصفت الربيع العربي بأنه «كارثة» -15/9).
4- التداعيات المترتبة على ذلك في بقية أنحاء الوطن العربي، بما في ذلك الملكيات التي كان الظن أنها أكثر استقرارا، خصوصا بعدما أصبحت الأصوات الداعية إلى الإصلاح تتردد في مختلف الأرجاء، من المشرق إلى المغرب مرورا بمنطقة الخليج.
الخلاصة هي أن قوى الهيمنة في الغرب حين أدركت أن عالما عربيا جديدا يولد ويتشكل، فإنها سارعت إلى الاحتشاد للتعامل مع الوضع المستجد، بالاختطاف أو الإجهاض أو الاختراق. لكن ذلك كله ليس قدرا مكتوبا، وإنما هو سعي يحتمل الإحباط ولا يصمد أمام الاحتشاد المقابل من جانب القوى الوطنية إذا أدركت مكمن الخطر واجتمعت على التصدي له. وهو ما يقتضي تمييزا واضحا بين التناقض الرئيسي والتناقضات الفرعية. والتصدي لقوى الهيمنة الغربية يتصدر المربع الأول، في حين أن كل ما عداه يظل تناقضات فرعية تأتى في المرتبة التالية من الأهمية.
إن المرء لا يستطيع أن يكتم شعوره بالحزن والحسرة، حين يرى الصدام محتدما وعلى أشده في الساحة المصرية بين مختلف التيارات والقوى، خصوصا الإسلاميين والعلمانيين، وأن الجميع مشغولون بتصفية حسابات التناقضات الفرعية، في حين أن جبهة التصدي للتناقض الرئيسي لا تكاد تجد من يحرسها ويذود عنها.

ارسال التعليق

Top