ويتوقف علاج المرض العقلي على نوعه ومداه، وتعالج بعض الحالات بزيارات منتظمة لأحد الأخصائيين في الأمراض العقلية، ويحتاج بعضها الآخر للعلاج في المستشفى.
والأمراض العقلية كثيرة ومنتشرة، ويزيد عددها على عدد حالات شلل الأطفال، ومرض القلب والسرطان مجتمعة، وتدلّ الإحصائيات التي نشرت بالولايات المتحدة الأمريكية أنّ هناك بين كلّ عشرة أشخاص، شخصاً واحداً يعاني نوعاً من الاضطراب العقلي.
والأمراض العقلية (الذهانية) من أخطر الأمراض التي تؤثر على شخصية الإنسان، لأنّها عبارة عن اضطراب خطير يصيب الشخصية، بحيث يغيم معه وعي الشخصية بواقعها المريض، ويختلط لديها عالم الحقائق بالأوهام، أي أنّها تحتفظ بسلامة القوى العقلية لديها، ومثاله الجنون بكلّ أشكاله.
إذن.. من الممكن تعريف الصحة العقلية بأنّها: احتفاظ القوى العقلية بسلامتها.
ولكن من الضروري أن ننبّه هنا إلى أنّ الأصحاء عقلياً من الممكن أن تطبعهم سمات خاصة من الشذوذ، ويتمثل في مجرّد الأعراض العقلية التي لا تصل إلى درجة المرض مثل الغباء والنسيان ونحوها، فإنّ أمثلة هذه الأعراض تحتجز الشخصية عن ممارسة سلوكها بالنحو الطبيعي الذي يتطلبه الموقف أيّاً كان، عادياً مثل التعلم والسلوك الاجتماعي بعامة، أو عبادياً مثل ممارسة الوظيفة الخلافية في الأرض بمختلف مستوياتها.
إنّ الحفاظ على سلامة العقل من الإصابة بأية أمراض عقلية، أو بأية أعراض من الممكن أن تؤثر على الشخصية، لهي من أولويات الصحة، التي ينبغي الحفاظ عليها وإعطاؤها العناية الفائقة.
تربية العقل:
العقل البشري طاقة من أكبر طاقات الإنسان، ونعمة من أكبر نعم الله عليه: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ) (الملك/ 23)، والفؤاد يستخدم في القرآن بمعنى العقل، أو القوّة الواعية في الإنسان، أو القوة المدركة على وجه العموم.
يبدأ الإسلام التربية العقلية بتحديد مجال النظر العقلي، فيصون الطاقة العقلية أن تتبدد وراء الغيبيات التي لا سبيل للعقل البشري أن يتحكم فيها.
والإسلام يأخذ في تدريب الطاقة العقلية على طاقة الاستدلال المثمر والتعرّف على الحقيقة، فيتخذ إلى ذلك وسيلتين:
الوسيلة الأولى: هي وضع المنهج الصحيح للنظر العقلي.
الوسيلة الثانية: هي تدبر نواميس الكون وتأمل ما فيها من دقة وارتباط.
إنّ تنمية المهارات العقلية، وتربية العقل تربية واعية، وإثارة العقل، وتمرينه على التفكير والتدبر والإبداع والابتكار، هو الطريق نحو صياغة عقل مبدع.
والقرآن الحكيم يقرر في كثير من آياته على فضل العقل وشرفه، ويدعو الإنسان إلى إثارة عقله، وإلى الاستفادة من الطاقة العقلية في الاستنتاج والقياس والاستدلال كي يصل المرء إلى حقائق الأمور.
قال تعالى في محكم كتابه العزيز: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (النحل/ 12)، إنّ هذه الآية تدعو الإنسان إلى التفكّر والتأمل والتدبر في بدائع مصنوعاته، جلّ وعلا، إنّها دعوة لإثارة العقل نحو التفكير والتعقل.
ويقول تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة/ 164)، إلى غيرها من الآيات الكثيرة في القرآن الكريم، والتي تحث الإنسان على التدبّر في نواميس الكون، وفي عجائب المخلوقات، وفي دقة المصنوعات.. وهذه وسيلة لتنمية العقل وتدريبه على اكتشاف الحقائق.
وقد جاءت الروايات الكثيرة، والأحاديث الشريفة، عن نبينا محمّد (ص)، في فضل العقل، وشرفه، وأهميته.. منها قوله (ص):
"أوّل ما خلق الله تعالى العقل، فقال له: أقبل، فأقبل، ثمّ قال له: أدبر، فأدبر، فقال عزّ من قائل: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً أعزّ عليّ منك، بك آخذ، وبك أعطي، وبك أحاسب، وبك أعاقب".
وقوله (ص): "ما اكتسب رجل مثل فضل عقل يهدي صاحبه إلى هدى ويردّه عن ردى، وما تمّ إيمان عبد ولا استقام دينه حتى يكمل عقله".
وقوله أيضاً: "يا أيّها الناس إنّ لكلّ شيء مطية، ومطية المرء العقل، وأحسنكم دلالة ومعرفة بالحجة أفضلكم عقلاً" إلى غيرها من الأحاديث المتواترة في أهمية العقل، وفي فضله، ومن هذا المنطلق يتضح لنا أهمية تربية العقل وتنميته بكلّ الوسائل والأساليب. ويمكن تلخيص هذه الأساليب بما يلي:
1- عبر التدبر والتفكر في الكون وما فيه.
2- عبر استخدام الفكر المنطقي للوصول إلى الحقائق.
3- عبر تنمية الذاكرة والذكاء.
4- عبر الاستفادة من التجارب الحياتية.
العقلية الناجحة:
العقلية الناجحة هي: العقلية الواعية، العقلية المبدعة، العقلية المفكرة، العقلية الحكيمة، العقلية المبتكرة...!
إنّ أهم ما يميز الإنسان عن سائر المخلوقات هو العقل، وأنّ أهم ما يتفاضل به بني البشر بين بعضهم والبعض الآخر هو العقل أيضاً، وذلك لاختلاف مراتب العقول بين البشر.
وهناك من البشر ممن هم في كامل صحتهم العقلية، ولكنهم مصابون بداء "الأمية العقلية" ونعني به: عدم القدرة على التصرف الحكيم، ومكمن الخطورة في هذا الداء، هو أنّ المصابين به لا يشعرون بوجوده!!
إنّ العقل هو الذي يوجه الإنسان، ولذا فتصرفاتك توحي للآخرين بمستوى عقلك، فليس هناك جهاز آلي، ولا وحدة قياس لقياس مستوى عقلك، سوى تصرفاتك، فهي وحدة القياس لمستوى العقل.
لقد قيل لبعض الحكماء: بِمَ يعرف عقل الرجل؟ فقال: بقلة سقطه في الكلام، وكثرة إصابته فيه، فقيل له: فإن كان غائباً؟ فقال بإحدى ثلاث:
إما برسوله وإما بكتابه وإما بهديته، فإنّ رسوله قائم مقام نفسه، وكتابه يصف نطق لسانه، وهديته عنوان همته، فبقدر ما يكون فيها من نقص يحكم به على صاحبها.
وقيل لعليّ (ع): صف لنا العاقل؟ قال: "هو الذي يضع الشيء مواضعه. قيل: فصف لنا الجاهل؟ قال: قد فعلت". يعني الذي لا يضع الشيء مواضعه.
إنّ العقلية الناجحة هي العقلية القادرة على التصرف الحكيم، هي القادرة على الخروج من المآزق بلباقة، هي القادرة على حلّ المشكلات، هي القادرة على التعامل مع الناس... وباختصار هي: وضع الأمور في مواضعها.
إنّ العقل هو مصدر النجاح، والجهل هو مصدر الفشل، فلم ينجح، ولن ينجح، إنسان لا يمتلك عقلاً راجحاً، ومن هنا فالصحة العقلية سواء بالحفاظ على سلامة القوى العقلية أو بالوقاية من الأمية العقلية هي من أهم ركائز النجاح، وكما تقول الحكمة البليغة: "يعيش العاقل بعقله حيث كان، كما يعيش الأسد بقوته حيث كان".
الكاتب: عبد الله أحمد اليوسف
المصدر: كتاب الشخصية الناجحة
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق