• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المكرمة تتحدث عن نفسها

أسرة البلاغ

المكرمة تتحدث عن نفسها

◄مخطئ مَن يظنّ أنّ الإحسان والمعروف والجميل (بكم) أي خرس أو خرسان، بل لهنّ السنة فصيحة، هنّ يتحدّثن بصوت واضح وجلي عن صاحبهنّ، ويشرن إليه بالبنان، ويذكرنه ذكراً عاطراً في أماكن قد لا تخطر له على بال، ومن قبل أشخاص أبعد ما يكونون عن مدحه والثناء عليه:

وإذا أراد الله نشر فضيلة *** طويت، أتاح لها لسان حسود

في (الكتاب المقدّس): "إذا صنعت صدقة، فلا تهتف قدّامك بالبوق، كما يفعل المراءون"، فطالما أنّ الناطق الرسمي باسمك هو معروفك فلا داعي للأبواق، إنّها تتكلّم بصوت مسموع!

شاءت حكمة الله أن يكافئ المؤمن غير المرائي الذي لا يريد إلّا وجهه أن يكافئه علاوة على الجزاء الأخروي، أن ينشر ما كتم من أعمال البرّ في الدنيا.

المسلمون في الركوع من صلاة الجماعة خلف النبي (ص)، يتقدّم من الصفوف سائل يتصدّق، فيؤشر له الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) إلى أصبعه لينزع عنه خاتمه فيأخذه كصدقة، لم يعلم بذلك إلّا الله وعليّ والسائل، صدقة سرّ لم يطلع عليها سوى المطلع على السرائر ومعروف لم يعرف به أحد، وإذا بالله يعرِّفه للناس في قرآنه[1]، أي يبقى ذكره ما بقي القرآن.

ولثلاثة أيام متوالية يطرق باب الإمام أمير المؤمنين عليّ (ع) في كلّ ليلة محتاجٌ أو فقير (مسكين ويتيم وأسير) وكان هو وزوجته فاطمة الزهراء – عليهما السلام – صائمين، وعند موعد الإفطار تطرق الباب من قبل أحد الثلاثة فيتصدقا – عليهما السلام – بما أعدّاه لإفطارهما.

مرّة أخرى، لا يعلم ذلك أحد من المسلمين، الله تعالى يتكفّل بنشر الخبر – المكرمة – على الملأ في سورة الإنسان: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا) (الإنسان/ 9).

لا تشغل بالك كثيراً إذاً بالسمعة والصيت والشهرة والنجومية، هي آتية طوعاً لا كرهاً، المعروف نفسه هو الذي يدلّها على الطريق إليك..

يقال أنّ أعرابياً أراد أن يحل ضيفاً على حاتم الطائي – الشهير بكرمه – ولم يكن يعرفه بشخصه، فأراد حاتم أن يختبره فطرده ولم يضيّفه، ثمّ تنكّر (أي حاتم) ووقف للإعرابي في بعض الطريق، وسأله: أتيت من أين أيّها الرجل؟ فردّ الإعرابي: من عند الجواد الكريم حاتم الطائي، وراح يثني عليه، وبعد أن كشف له حاتم عن حقيقته سأله عمّا دعاه إلى قول ذلك رغم ما شاهده من جفاء حاتم، فقال الإعرابي: لو قلت ما رأيت لكذّبني الناس لما عرفوه عنك من كرم الضيافة!

إنّ سمعة حاتم الطائي التي بناها بكرمه ذي التأريخ الطويل لم يهدمها موقف مناقض لما هو ذائع من صيته بين العرب، إذ لو أنّ الإعرابي أشاع ما رآه لكذّبه الناس، وصدّقوا حاتماً!

حسبك أن (تُعرف) بأنّك من (أهل المعروف) لتنال مكافأتك.. يقول الإمام عليّ (ع): "إن مكرمة صنعتها إلى أحد من الناس إنّما أكرمتَ بها نفسك، وزيّنت بها عرضك فلا تطلب من غيرك شكر ما صنعت إلى نفسك"، ونترك لك التأمل في هذا النصّ الثريّ والحافل.

الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين (ع) كان يختار في سفره أناساً لا يعرفونه حتى يضع كلّه عليهم فيخدمونه لمعرفتهم بمكانته، ولكي يتولّى هو خدمتهم من دون أن يتحرّجوا من ذلك.. وإذا به ذات مرّة والمسافرون معه ينهالون عليه بالتقبيل والاعتذار والتأسف أنّهم لم يكونوا يعلمون أنّه الإمام، وكان قد دلّهم عليه أو عرّفهم به شخص مرّ بهم وكان على معرفة بالإمام!

ألم نقل لك.. يحاول المعروف أن يختبئ، ويأبى الله ألّا أن يطل برأسه عالياً!!

 

الخلاصة:

قد يقولون لك قابل التحية بمثلها، والجميل بمثله، والإحسان بمثله، والمعروف بمثله، وهذا شيء جيِّد، كلمة هذا الكتاب هي: قابل الجميل بأجمل منه، والإحسان بأحسن منه، والمعروف بأروع منه، والتحية بأحسن منها، واترك لمطرك يسيل في الوديان فسرعان ما ينبتُ العشب والزهور، بل وتتدفق الخضرة حتى من بين الصخور.

ما يقولونه حسن جميل؛ لكنّه ردود أفعال، أجوبة على مبادرات ويرسم لك في أعين الناس صورة الإنسان الكريم..

أما أن تكون البادئ، المبادر، السبّاق، فإنّ ذلك ينقلك من درجة مَن يبادل العطاء بالعطاء، إلى درجة مَن يرسي قاعدة ثابتة للعطاء، يقول (مصطفى لطفي المنفلوطي): "مَن يضع الحجر الأوّل في بناء مجتمع الإحسان، هو أفضل عامل في الوجود، وأشرف إنسان".

لنكن: أنت وأنا أحد البنائين في بناء هذا المجتمع الذي هو مجتمع الإسلام، مجتمع الديانات، المجتمع الإلهي، ذلك أنّ أعظم المصائب – كما قيل – أن تقدّر على المعروف ولا تصطنعه.

وقد يقول البعض وهو صادق: الشكر لدى بعض الناس ليس إلّا رغبة مبطّنة في الحصول على خيرات أكثر.

لا بأس..

الله يعلِّمنا ويؤدِّبنا بذلك (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم/ 7). وفي المأثور: "وبالشكر تدوم النعم"، فحتى لو استبطن أو أظهر الشاكر رغبته بالحصول على المزيد من الألطاف والخدمات والتعاون فله ذلك طالما أنّه (يعرف) و(يذكر) و(يشكر) أي يقابل الإحسان بالإحسان، يقول الشاعر:

الشكرُ أفضل ما حاولتُ ملتمساً *** به الزيادة عند اللهِ والناسِ!

·      لا تبخل بالشكر والمكافأة عقاباً لمن يبخلون بها، كن الأرفع والأحسن والأكرم والأنبل، كن واحداً من (الشمسيين) و(الينبوعيين) و(الزهريين) و(النحليين) لم يمنعهم الجحود من أن (يضيئوا) و(يتدفقوا) و(ينداحوا عبيراً) ويذيقونا حلاوة العسل.. وشفاءها أيضاً!!

·      ليكن دعاؤنا الدائم: "اللّهمّ اجعلني مباركاً أينما كنت"، فإذا وفقت للخدمة وللعطاء وللنصيحة فلأتذكر أنّ ذلك من فضل الله عليَّ ليبلوني أأشكر أم أكفر، كما قال سليمان وهو يطالع نعم الله تعالى عليه.

سُئِل الإمام الصادق (ع): مَن أكرم الخلق على الله؟!، قال: "مَن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر"!

·      المكافأة المساواة، والمضاعفة الشكر، الإمام محمّد الباقر (ع) يوضِّح هذا المفهوم بقوله: "مَن صنع مثل ما صنع إليه فإنّما كافأ (أي أعطى بدرجة مساوية) ومَن أضعف كان شاكراً (أي كافأ بما يربو على العطاء ويزيد)".

وقيل: "مَن صنع إليه معروف فقال لفاعله: (جزاك الله خيراً) فقد أبلغ في الثناء"!!

·      لنتذكّر هذا ونعمل به:

للإحسان خصال ثلاثة:

تعجيله (فخير البر عاجله).

وتيسيره (يسِّر ولا تعسِّر).

وتستيره (لا تعلم شمالهُ ما أنفقت يمينه).

"فمن أخلّ بواحدة منها، فقد بخس الإحسان حقه، وسقط عنه الشكر"!

·      الشدّ على يد إنسان أبدع عملاً ما، شكر حار، يقول ما لا تقوله الكلمات، وإذا امتزج الشد بكلمات الثناء والتعبير عن الإستحسان، تتسرّب شحنات تلك الكلمات إلى اليد التي تشد عليها بحرارة!

والإمساك بكتفي إنسان أسدى لنا معروفاً، والتطلّع بوجهه بحبّ، والنظر في عينيه بابتسامة شكر وامتنان، والقول له: لا أعرف كيف أشكرك، يعد في نظره أجمل الشكر وأجزله، تستطيع أن تقرأ ذلك بابتسامته الجوابية التي تقول لك: وصلني حقي!

وتربية الكتف لإنسان تشاطره الحزن تخفف عن كاهله ثقل المصاب الذي ألمّ به، وإذا احتضنته يشعر بك وكأنك تمتص أحزانه..

التفت إلى هذه وأمثالها، ولا تفوتها، ألم يكن (فيكتور هوغو) محقّاً حينما قال: "الحسنة أختُ الصلاة"!

·      راحةُ الضمير + محبة الناس = أنجح دواء من أمراض العصر النفسية كلّها.

أنت محسن.. أنت إذاً مرتاح الضمير

أنت محسن.. أنت حائز على محبة الناس

عش إذاً في سلام نفسي!!

·      أخيراً..

قد لا تجد مَن يكافؤك أو يشكر لك معروفك..

حسناً.. لا تبتأس..

جرِّب أن تكافئ نفسك بنفسك، هذه ليست خدعة، إنّها وصفة مجرّبة، قل لنفسك على معروف أسدته: شكراً لك، بارك الله فيك، ما قمت به عملٌ مبارك، هكذا أريدك على الدوام، انصحيني في المواقف ولا تخذليني، ألا تشعرين بالرضا كما أشعر؟! أليس ذلك أفضل من أن تحجمي أو تحرمي الناس من عطائك وأنت قادرة عليه؟!

المكافأة الذاتية، وإن كانت صادرة من فاعل المعروف نفسه؛ لكنّها مكافأة فاعلة، ومحرّكة، ومؤثّرة.. تذكّر أن هذا خلق ربّاني، الله تعالى يثني على نفسه، فيقول:

(فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ) (المرسلات/ 23).

وقال تعالى: (وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ) (الذاريات/ 48).

وقال عزّ وجلّ: (هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج/ 78).

وبأدب الله فلنتأدّب..►

 

[1]- راجع قول المفسرين في قوله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (المائدة/ 55)، وانظر سبب النزول.

ارسال التعليق

Top