• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

رصد الانتهاكات أثناء النزاعات المسلحة

جميل عودة

رصد الانتهاكات أثناء النزاعات المسلحة

من الناحية النظرية، تسمح المادة "4" من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية للحكومات بأن تنتقص من التزاماتها بموجب العهد أثناء فترات الطوارئ العامة التي تهدد حياة الدولة والتي يتم الإعلان عن وجودها رسميا، ولكن فقط بالقدر الذي تتطلبه مقتضيات الحالة.

 وإذا كانت أطراف النزاع غير "الدولة" وهي بالعادة ليس لديها التزامات دولية إلا ما ندر فانه يطلب منا على الدوام أن تتقيد بالحد الأدنى من التزامات حقوق الإنسان، وتفادي التجريد التعسفي من الحياة، والتعذيب والرق، وحرية الرأي والتمييز بسب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الأصل الاجتماعي.

 ومع ذلك، من الناحية الواقعية، وفي حالات كثيرة، ينجم عن النزاع المسلح الدولي أو المحلي معاناة على نطاق واسع، تصيب عدد غير محدود من الأشخاص المحميين، مثل الحرمان من الغذاء والمياه النظيفة والخدمات الصحية والتعليم والتهجير القسري لأعداد هائلة من السكان، وتدمير الطرق والجسور والأسواق والمدارس والبنية التحتية، وانتشار ثقافة عامة يغلب عليها طابع العنف...

 والسؤال هنا من يرصد ويراقب التزامات أطراف الصراع؟ وما أهمية وجود مراصد لمراقبة تقيد أطراف النزاع بقواعد الحرب والاتفاقيات الدولية؟ وما هو تأثير عمليات الرصد الميدانية على مجريات الأحداث والوقائع أثناء الصراع من جهة، وما هي فائدتها في المستقبل على أطراف الصراع وضحاياه من جهة أخرى؟.

 هناك اتفاق إنساني عام، يؤكد أن الحرب مهما كانت دوافعها وأسبابها، فلابد أن يلتزم أطرافها بالحد الأدنى من المعاملة الإنسانية التي لا تنتهك كرامة الأشخاص المحميين في فترات النزاع المسلح مثل الجنود الجرحى أو العاجزين عن القتال لأي سبب آخر، والسكان المدنيين. والطرف الذي يمارس أفعالا غير إنسانية ضد عدوه هو طرف لا يتمتع بالاحترام لدى الآخرين.

 هذه الرؤية الإنسانية للأفعال الحربية تحولت مع الصراعات البشرية المستمرة إلى قواعد والتزامات عرفية ودولية، ملزمة وغير ملزمة، على شكل اتفاقات وعهود وبرتوكولات، تضمنت مبادئ وقيم يتعين على أطراف الصراع الالتزام بها ومراعاتها أثناء فترات الصراع. مثل القانون الإنساني الدولي الذي وضع خصيصا للحد من انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكب أثناء فترات النزاع المسلح، وإلا ستترتب على المخالفات والانتهاكات لتلك الالتزامات العديد من العقوبات تطال الدول والمنظمات والجماعات والأشخاص على حد سواء. ومن هنا تأتي أهمية عملية رصد تلك الانتهاكات والمحاسبة عليها.

 يعرف "الرصد " بأنه العمل الفعلي في جمع المعلومات والتحقق منها واستعمالها فورًا لتحسين حماية حقوق الإنسان. ويشمل رصد حقوق الإنسان جمع المعلومات عن الحوادث وإحداث المراقبة في الانتخابات والمحاكمات والمظاهرات ومخيمات اللاجئين ومناطق النزاع للحصول على المعلومات ومتابعة وسائل العلاج وغير ذلك من إجراءات المتابعة الفورية. ويمكن أن تقدم عملية رصد حقوق الإنسان تحذيرات قيمة ومبكرة في حالات النزاع المتنامي.

 وهناك نوعان من الرصد لانتهاكات حقوق الإنسان في مناطق النزاع، رصد حكومي أممي وهو ذلك الرصد الذي تقودها الأمم المتحدة، ويشمل حلقة واسعة من الأطراف المعنية، بما في ذلك مجلس الأمن الدولي، والحكومات الوطنية، ومختلف دوائر ووكالات الأمم المتحدة، والمنظمات الحكومية الدولية والمحلية..

 ورصد غير حكومي تقوده المنظمات غير الدولية والمنظمات المحلية والناشطون الحقوقيون، والمجتمعات المتضررة. وفي العادة، تعرض المنظمات غير الحكومية نتائج عملية الرصد على واضعي السياسات والأكاديميين وقادة الأعمال وذلك على المستوى المحلي والدولي. كما يتم تقديم نتائج عملية الرصد وعرضها على الأمم المتحدة والجهات الإقليمية العاملة في مجال حقوق الإنسان والمنظمات شبه الحكومية كلجان الحقيقة والمصالحة والمحاكم الجنائية..

 إذن، نحن دائما بحاجة إلى توثيق انتهاكات حقوق الإنسان على المستوى الوطني، فضلا عن الدولي، وذلك لسببين أساسيين: الأول أن مثل هذا الرصد يمكن أن يكون رادعا لأطراف النزاع في أثناء النزاع من ممارسة المزيد من انتهاكات حقوق الإنسان وتحدي الشرعية الدولية إدراكا منهم أنهم يخالفون القانون الدولي وأنهم سيتعرضون إلى محاسبة داخلية أو خارجية، وقد يكون ممكنا في بعض الظروف تشجيع الامتثال لمعايير حقوق الإنسان والمعايير الإنسانية حتى يمكن لأطراف النزاع أن تحافظ على مصداقيتها وشرعيتها في نظر السكان أو حتى يمكنها الحفاظ على انضباط العاملين والمؤيدين لها والسيطرة عليهم.

 والثاني: أن هذا التوثيق يحفظ بعض حقوق الضحايا وذويهم ممن يتعين على مجتمعاتهم والمجتمع الدولي إنصافهم. ناهيك عن أن المنظمات الإقليمية والدولية صاحبة النفوذ الأوسع والتي توقع المسؤولية الجنائية تعتمد على حد كبير على تقارير الراصدين المحليين.

 نعم، ربما تكون عملية مراقبة وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان أثناء النزاعات المسلحة عملية محفوفة بالمخاطر.. فمع نشوب النزاع المسلح والنزاع الداخلي يحدث في كثير من الأحيان انهيار للقيود القانونية المفروضة على العنف. وقد تفرض قيود كثيرة على حركة المنظمات والمراقبين المحليين الذين يتعاطون مع قضايا حقوق الإنسان. وقد تغدو المنظمات المحلية التي توفر المعلومات غير قادرة على أداء وظائفها وجمع المعلومات والإبلاغ عنها بطريقة ميسرة. وقد يثار الشك حول بيانات حقوق الإنسان المقدمة من تلك المنظمات المحلية.. وغيرها.

 وبالرغم من كل الصعوبات، فإن رصد انتهاكات حقوق الإنسان على المستوى المحلي أمر ممكن في حالات النزاع المسلح؛ وبخاصة عند الاستعانة بنهج أكثر فعالية في جمع الحقائق. وفي الواقع، قد تسهل المنازعات المسلحة من دور عملية الرصد في استرعاء نظر العالم إلى الحالة. كما أن زيادة مستوى الاهتمام الدولي يعوض إلى حد ما عن هذه العوائق.

 إن أكبر مهام المراقب المحلي، منظمة كان أو ناشطا حقوقيا هي كتابة التقرير عن حالة أو حادثة معينة من انتهاك حقوق الإنسان ورفعه إلى منظمات حقوق الإنسان غير الحكومية؛ لكن مثل هذه التقارير لا بد أن تكون مبنية على أساس الحقائق التي تم جمعها ميدانياً، وأن تكون موثقة بشكل جيد يوفر الدلائل المطلوبة حول الانتهاكات.

 وعن طريق تسجيل المعلومات، يستطيع المراقب المحلي أن يتعرف على أنماط معينة من الانتهاكات واكتشاف خلفياتها ووضعها في إطار محدد، ومن ثم مخاطبة منظمات حقوق الإنسان غير الحكومية؛ وعليه فان المراقب المحلي، منظمة كان أو شخصيا إذا كان يرغب بالقيام بعملية رصد لانتهاكات حقوق الإنسان فان عمله لابد أن يشمل:

1.     بناء شبكة من العلاقات: إقامة شبكة من الاتصالات مع أشخاص يمكن الاعتماد عليهم في تزويد المراقب بالمعلومات المطلوبة عن الوضع الخاص بحقوق الإنسان وعن حالة أو حادثة معينة.

2.     المراقبة: بإمكان المراقب المحلي معاينة وتحليل الحالة الشاملة ليكون قادراً على وضع انتهاكات حقوق الإنسان في إطار سياسي، تاريخي، اقتصادي واجتماعي.

3.     جمع الحقائق: ويتم ذلك عن طريق إجراء المقابلات والاستفادة من المصادر المتعددة للمعلومات لجمع الحقائق عن حالة معينة من الانتهاكات.

4. التوثيق: بتدقيق جميع المعلومات ومقارنتها مع بعضها البعض وتدوينها بطريقة منظمة يحاول المراقب اكتشاف أجوبة لأسئلة تتعلق بـ لماذا ومن وماذا؟ أين ومتى وكيف؟

5. التقرير: أكبر مهام المراقب المحلي هي كتابة التقرير عن حادثة أو حالة معينة ورفعه إلى منظمات حقوق الإنسان.

6. سجل المعلومات: عن طريق تسجيل وتدوين المعلومات عن حالة معينة وبشكل منتظم يستطيع المراقب المحلي اكتشاف أنماط محددة لانتهاكات حقوق الإنسان.

المصادر :

·      دليل التدريب على رصد حقوق الإنسان الأمم المتحدة 2001.

·      مراقبة وتدوين انتهاكات حقوق الإنسان، منظمة العفو الدولية، أمستردام، هولندا.

ارسال التعليق

Top