مقدمة: التعريف بالسلوك:
جاء في المعجم الفلسفي: "علم السلوك عند القدماء هو معرفة النفس ما لها وما عليها، ويُسمّى بعلم الأخلاق، وموضوعه أخلاق النفس والبحث عن عوارضها الذاتية لمعرفة الطريق التي يجب سلوكها، ومنه قولهم: آداب السلوك".
السلوك عند علماء النفس المحدثين مجموع ما يقوم به الكائن الحيّ من ردود فعلٍ ترتبت على تجاربه السابقة سواء أكانت مشتركة بين أفراد النوع أم خاصّة بفرد دون آخر، وهو يتضمن الأفعال الجسمانية الظاهرة والباطنة والعمليات الفيزيولوجية والوجدانية والنشاط الفعلي، وإن كان بعض السلوكيين يقصر دلالة هذا اللفظ على الأفعال الظاهرة دون الأفعال الباطنة.
فقد ميّز كلاباريد (Claparéde) بين لفظي Conduite و Comportement فأطلق اللفظ الأوّل على ردود الفعل الراسخة في الفرد من طريق العادة، وأطلق اللفظ الثاني على ردود الفعل المشتركة بين أفراد النوع الواحد. "ولفظ السلوك في اللغة العربية يدل على هذين المعنيين".
أوّلاً: بعض المبادئ العامة:
ثمة قاعدتان أساسيتان لمفهوم الحضارة البشرية والرقي الإنساني وهما:
أ) السلوك: ويبدأ بتهذيب العقل والقلب وهما موطن الإحساس الأوّل، ويتم اكتسابه بهذا الإحساس الشخصي أوّلاً، ثمّ بما يكتسبه من أسرته وبيئته أو نتيجة تجاربه الخاصة في الحياة. ومن هنا نؤكد أنّ الخبرة الشخصية الواعية مع بعض المطالعات أضمن دليل إلى السلوك الصحيح.
ب) البروتوكول: هو قاعدة إجبارية تخضع لها علاقات المسؤولين الرسميين بين بعضهم البعض وخلال الاحتفالات الرسمية والشعبية العامّة، وقد تمّ تعريفه على أصعدة متفاوتة، لكن أفضل هذه التعاريف هو: "البروتوكول مجموعة قواعد يجب اتباعها في العلاقات المتبادلة شخصية أو كتابية من قِبَل أفراد يحتلون مراكز مرموقة بفعل انتماءاتهم منذ الولادة (كالملوك وعائلاتهم) وزعماء الأحزاب في العصر الحديث، كما يشكل مجموعة القواعد التي تسير علاقات الدول بممثّليها وحكامها".
يبدو واضحاً أنّ البروتوكول يخص مستوى معيناً من المجتمع البشري، ففي حين أنّ السلوك ميزة كلّ مخلوق بشري على الأرض، وأنّ أقوى أنواع الألفة تتطلب دائماً نوعاً من اللياقة والتهذيب تتطوّر أو تتبدل أو يجري تجاوزها جزئياً، فإنّ قواعد البروتوكول حازمة لا يمكن تجاوزها.
ومن هنا يمكن القول: إنّ السلوك والبروتوكول يكملان الواحد منها الآخر يصبّان في خانة واحدة هي التناسق، وإذا كان البروتوكول مجموعة مراسيم في العلاقات الرسمية الإنسانية، فإنّ السلوك الحسن يصب في العلاقات الخاصّة الفردية وعلى مستوى المجتمعات الصغيرة الضيقة.
ثانياً: لماذا نبحث في السلوك؟
يمكننا القول بأنّ شعوب الأرض قد أصبحت مدينة واحدة، وذلك بفضل الاتصالات العالمية المذهلة والسريعة، ولذلك أصبح البحث في السلوك وإدخال ضمن المناهج والبرامج التربوية حاجة عصرية ماسّة، يساعدنا على التخفيف من التكبُّر والصلف والعنف والظلم أو اختفائها جميعاً، كلّ ذلك يساعد على تنمية روح البساطة والمحبّة والاستقامة، هذه الصفات التي تجعلنا مقبولين ومرموقين ولطيفين بنظر الآخرين، كما أنّها تُنمي فينا الرغبة في الإعجاب بالآخرين طبقاً للقاعدة الذهبية القائلة: "عامل الناس كما تحب أن يُعاملوك".
1- التهذيب طريق الفضيلة. الفضيلة وسط بين رذيلتين، كأن نقول: "لا يكون الفرد شجاعاً إذا لم يكن جباناً أو متهوراً، ويكون كريماً إذا لم يكن بخيلاً أو مبذّراً... إلخ". من هنا ينبغي أن يتمثل التهذيب باللطافة والصبر واحتمال ما يواجه الفرد من مصاعب ومشقّات، كما ينبغي أن يتمثل بالاهتمام بالآخرين، فنحرص على مودّتهم ومصالحهم والعناية بأولادهم وممتلكاتهم كما نحب أن نحرص على أنفسنا وأولادنا وممتلكاتنا.
2- التهذيب وسيلة ضرورية لنجاح كلّ فرد، الصغير أو الكبير، أصحاب المهن الكبرى وأصحاب المهن الصغرى... هذه الوسيلة تشجّعنا على أن نُحاسب أنفسنا، ونضع حواجز بين الأشخاص يمنعهم من إلحاق الأذى ببعضهم البعض، وتجعل العلاقات فيما بينهم مستحبّة.
3- قليلون الذين يتمتعون بحصافة التهذيب، ونادرون الذين يتمتعون بسلامة القلب حتى الأفراد الأكثر صدقاً من غيرهم. فالتظاهر بالتهذيب مهما طال أمده سينكشف عاجلاً أم آجلاً.
4- يكتمل السلوك الجيد بالأداء الحسن وقدرة الفرد على التصرُّف عملياً بكلّ تهذيب، فيجذب المستمعين إليه ويحظى باحترامهم وينال إعجاب الأصدقاء به، لأنّ الصداقة أحد مقومات النجاح.
5- ترتبط قيمة كلّ فرد بدرجة تهذيب وأداء سلوكه الاجتماعي.
ثالثاً: بعض المبادئ العامّة:
لابدّ من تحديد بعض المقوّمات السلوكية نظراً لتقاربها من بعضها، وهي عديدة نذكر أهمها:
أ- الكياسة: وهي مجموع واجباتنا نحو الآخرين، وكيفية أدائها بشكلٍ لائق لأنّها من الفضائل الأساسية التي تعبر بصدق عن صفات القلب الذي يخفق بين حنايا الإنسان.
ب- آداب السلوك: وهي القواعد السلوكية التي يجب التزامها في بعض مظاهر الحياة الاجتماعية، وتشتمل على الصفات التي سبق ذكرها بالإضافة إلى البروتوكول. وهذا ما ينبغي تعليمه في المدارس لأنّه يحرِّر الإنسان من شعور خفيّ بالنقص في علاقاته مع الناس كالحيرة والقلق والخجل وغيرها.
ت- العادات: وهي ممارسات تسيطر على تصرفاتنا وسلوكنا تبعاً للزمان والمكان والظروف الاجتماعية، وقد تشمل الزيّ والعرف وما شابه ذلك، فالإنسان الذي لا يعرف هذه العادات يعذره المجتمع، لكنه لا يعذره في كلّ الأوقات وفي أُمورٍ أخرى عديدة.
ث- الصداقة: هي علاقة عاطفة ومودة بين الأشخاص تقوم على الاختيار والتفضيل. منشؤها التعاطف والمشاركة في الميول وأساسها المساواة، وتعزّزها الألفة والمخالطة والمعاشرة. يقول ابن المقفع: "إنّ من علامة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقاً" والصديق سند هام في مسالك الحياة، فهو يساعد صديقه على أداء السلوك الجيِّد... ويغلظ له في الكلام إذا أساء... إنّ الصداقة تحتِّم التوازن في المشاعر والسلوك ومن ثم التهذيب وحُسن الاستقبال.
خلاصة القول: إنّ التربية لا تمنح صاحبها البساطة وحسب بل إنّها تجعله واثقاً من نفسه مطمئناً إلى سلوكه، كما تساعده على التسامح الذي يسرُّ الآخرين فيحافظ على قدرٍ معين من التقدير والاحترام حتى ولو وقع في بعض الهفوات البسيطة في تصرفاتهم. هكذا تتقدم المجتمعات وترقى تدريجياً نحو الأفضل.
الكاتب: موريس شربل
المصدر: كتاب آدابُ السلوك
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق