• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ضجيج السياسة وصعوبة استشراف الواقع

د. خالد سعد النجار

ضجيج السياسة وصعوبة استشراف الواقع

التقى اليوم حاكم البلاد المفدى برئيس الدولة الشقيقة، وقد تناول الزعيمان القضايا المصيرية المشتركة بين البلدين، وسبل تعزيز التعاون بين الأمتين، في ظل الروابط التاريخية المشتركة، وبما يتوافق مع مصلحة الشعبين .. هذا وقد أقام سمو حاكم البلاد مأدبة غذاء للضيف الكبير حضرها لفيف من وزراء البلدين والمستثمرين ورجال المال والأعمال والمثقفين والوجهاء، في جو حميمي أشاد به الجميع، وفي المساء حضر الزعيمان عرضا فنيا تجلى فيه العمق الثقافي بين القطرين الشقيقين.

 

تلك كانت فقرة إخبارية شهيرة تتداولها نشرات الأخبار قاطبة: في الشرق والغرب .. في المجتمعات الديمقراطية والديكتاتورية .. في قلب المدن المتحضرة ووسط النجوع النائية.

فقرة لنموذج باهت للمشهد السياسي الجاري، والأحداث السيارة كما يريد أن يعرضها الإعلام الرسمي، الأمر الذي يصيب متابعي تلك الأحداث بالغثيان والحيرة، ويفتح شهية البعض للتخرصات والتكهنات.

لكن لا يخفى على كل لبيب أن المعلن في عالم السياسة شيء والمخفي شيء آخر مغاير تماما، وإن كنت لا تفهم من فحوى الأخبار أي خبر، فعليك بتنشيط ذهنك ومحاولة قراءة ما بين السطور، وربط الأحداث مجتمعة .. تلك هي حقيقة الثقافة السياسية .. تلك الثقافة التي استعصت على الشفافية والوضوح، واحتكرت الأحداث في دهاليزها، حتى صار الحراك السياسي حكرا على صُناعه فقط، وباتت الشعوب أشبه بالمركب الصغير الذي تتقاذفه الأمواج العاتية المتلاطمة.   

ولننظر مثلا إلى إعلان روسيا الأخير عن سحب قواتها الأساسية من سوريا، فقد فسره البعض بالانسحاب، وآخرون يرون أنه تكتيكا سياسيا، وانفتحت شهية المحللين حول البواعث والأسباب، فذهب البعض إلى أن الانسحاب الروسي جاء بعد استكمال لمهمتها في سوريا في إعادة توازن القوى بين قوات نظام بشار الأسد التي لم تكن تسيطر إلا على أجزاء قليلة من الأراضي السورية وقت دخول القوات الروسية، وبين قوات المعارضة السورية التي كادت تطيح بنظام بشار الأسد.

بينما رأى آخرون أن الانسحاب لم يكن يأتي إلا بتوافق أمريكي، واتفاق موسكو وواشنطن على تقاسم المهام كي تحرر روسيا مدينة «تدمر» وتحرر أمريكا مدينة «الرقة»، وهو ما يبدو أن موسكو أرادت التخفف منه لصالح الجيش النظامي السوري.

ورأي ثالث أن الخطوة الروسية لم تكن سوى نوع من الضغط على نظام بشار الأسد لجعله أكثر مرونة حيال مفاوضات السلام في جنيف.

ويرجع البعض الانسحاب إلى الوضع الحرج لروسيا بدءاً من التورط في الأوحال السورية، أو انهيار الروبل، وسعر النفط، وانعكاس ذلك على الاقتصاد الروسي، والحرب مع أوكرانيا، وضم القرم، والحصار الغربي لروسيا.

وآخرون يرون أنه فتحٌ لباب تقسيم المنطقة إلى دويلات صغيرة، وأحد المتحذلقين يرى أن "روسيا قد حصدت العديد من المكاسب المبدئية، فقد أعادت تموقعها العسكري في قواعد قوية على الأراضي السورية وانتزعت اعترافاً إقليمياً بتواجدها في المنطقة وفي قدرتها على التأثير وتغيير الموازين السياسية والاقتصادية كذلك".

وأحد المعارضين يقول: "قد أثبت الروس دائما أنهم ليسوا أصحاب مبادئ، ولا يلتزمون حتى مع أقرب حلفائهم، وهم لا يتورّعون عن الدناءات السياسية والمتاجرات الرخيصة، والابتزاز المفضوح الذي لا يتناسب مع الدول المحترمة فضلا عن كونها دولة عظمى".

وما يدريك لعل الأمر غير هذا تماما .. كأن يكون بوتين قد استشعر تململ القيادة العسكرية الروسية وخشي على كرسيه من الزوال، أو يكون التدخل الروسي فرصة نادرة لتجريب مختلف الأسلحة الروسية على أرض الواقع .. المهم أن الحقيقة تبقى غائبة، وربما تكشفت عنها الأيام القريبة أو البعيدة.

لكن الذي لا يشك فيه عاقل أن روسيا ليست الصديق الحميم للعرب، وأن الدم العربي البريء لا يمثل أي اعتبار لدى واضع السياسة الروسي أو الغربي، وأن مجازر روسيا في أفغانستان والشيشان لتبرهن على أنها ليست رسول سلام ولا صاحبة مبادئ.

وما يقال في الشأن السوري يقال أيضا في هجمات بروكسيل الأخيرة .. فأحدهم يستدعي الذاكرة بأن تنظيم الدولة الإسلاميَّة قد أعلن سابقًا أنَّهُ سيستهدف العواصم الأوروبيَّة، جزاءً لها على محاربتها الإسلام في «أرض الخلافة».

وآخرون يرون أن تنظيم الدولة الإسلامية قرر تطوير إستراتيجيته في الحرب ضد أوروبا والغرب ليحاول تحقيق ضربات موجعة بأسهل الطرق الممكنة، بعدما خسر ما يقارب 25% من رقعة التنظيم في سوريا والعراق.

والبعض على قناعة بأن غياب سياسة متناسقة في بلجيكيا، زاد من تعقيد مهام فرق مكافحة الإرهاب في هذا البلد الأوروبي الذي يصدّر أكبر عدد من الجهاديين نحو الشرق الأوسط .. فبعد هجمات باريس في شهر نوفمبر الماضي، أعلنت بلجيكيا رفع حالة الطوارئ إلى درجتها الرابعة القصوى في العاصمة والثالثة في باقي البلاد، وذلك بعد توفر معلومات شبه مؤكدة للدوائر الأمنية والعسكرية والاستخباراتية البلجيكية أن هجمات محتملة سيتم شنها على مناطق حساسة في البلاد، لكن سرعان ما تم احتواء الأمر والقيام بحملة تفتيش واعتقالات غير مسبوقة في البلاد منعت الكارثة حسب تصريحات المسئولين الرسميين.!!

وإعلامي مصري لم يفوت الفرصة وحاول تسويق الحدث لصالح الانقلاب في مصر حيث يقول: "إن الرئيس عبد الفتاح السيسي هو أول من حذر من العمليات الإرهابية, وتوقعاته حدثت بالفعل بدليل تفجيرات بروكسل الأخيرة في بلجيكا".

لكن أليست بلجيكا ودول الاتحاد الأوروبي والغرب عموما هم من يدعمون الحكومات الديكتاتورية رعاية لمصالحهم؟ .. أليست «حقوق الإنسان» شعارا مقصورا على الرجل الغربي؟ .. أليست مبيعات السلاح الغربية قد ألهبت المنطقة وعصفت بأمنها واستقرارها، وفاضت النيران حتى طال الغرب شررها وسعيرها. 

أما أزمة اليمن فلا تخرج عن هذا النمط السياسي .. تصالح مزمع القيام به بين السعودية وقوات التحالف وبين الحوثيين وقوات على عبد الله صالح.

تصالح يراه البعض أنه انسحاب للحوثيين من صنعاء مقابل انسحاب السعودية من صعدة معقل الحوثيين باليمن.

وآخرون يعولون على عبد الملك الحوثي الذي قد طالب بتحقيق أربعة مطالب أساسية وهي: سرعة تصحيح الهيئة الوطنية، وتهذيب مسودة الدستور وحذف جميع المخالفات، وسرعة تنفيذ الشراكة الوطنية كعقد سياسي ملزم، وسرعة معالجة الوضع الأمني في البلاد.

فيما يرى خصوم الحوثيين أنهم يريدون الإبقاء على هادي في السلطة اسما فقط بينما يحكمون قبضتهم على السلطة.

لكن هل ينفي هذا إخفاق السعودية في تحقيق حسم عسكري لصالحها رغم أنها من أكبر دول المنطقة شراء للسلاح وإنهاكا لميزانية الدولة في جلب أكداس من السلاح أخذل مشتريه.

أليس على عبد الله صالح عدو اليوم هو الدكتاتور صديق الأمس الذي عالجته السعودية في مستشفياتها بعد إصابته في انتفاضة شعبه الأخيرة.

عموما تبقى شعارات: وحدة اليمن وسلامة أراضيه وأمان أبنائه .. شعارات للاستهلاك الإعلامي، وما تحركت جيوش الخليج إلا لردع التمدد الإيراني الذي قد يهدد عروشها، والآن هم يتصالحون رغم موت من مات وخراب من خرب، ومحصلة فاتورة قاسية دفعها المواطن اليمنى الفقير.

تلك هي السياسة .. ضجيج لا يثمن ولا يغني من جوع .. ضجيج يكتنفه الغموض والتأويلات، حتى باتت الثقافة السياسية غصة في حلوق المثقفين، ونوعا من الزخم الذي لا يستهوي البسطاء الذين يبحثون عن حياة هانئة آمنة .. وتبقى المحصلة التي لا يريد أن يعترف بها أحد .. أن سياسة الساسة أضحت العالم تعيسا لا ينعم بالأمن ولا الأمان

ارسال التعليق

Top