• ١٨ تموز/يوليو ٢٠٢٤ | ١١ محرم ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الجمهورية في العراق: نقد ورؤية مستقبلية

د. خالد عليوي

الجمهورية في العراق: نقد ورؤية مستقبلية

مرت في منتصف شهر تموز- يوليو الماضي ستون سنة على إعلان الجمهورية في العراق بعد الإطاحة بالنظام الملكي في سنة 1958م، لم يحصد الشعب خلالها غير الألم والمعاناة، وفي كلّ مرّة يظن أنّه سيحقق طموحاته يصاب بخيبة أمل أشد من السابق. والسؤال الذي يفرض نفسه على الطاولة هو لماذا؟

إنّ التاريخ البشري يتحرّك في بناء الدول بمسارين مختلفين: الأوّل أن يكون البناء قد تم بإرادة شعبية، والآخر أن يكون بإرادة سلطة أو أفراد داخل مؤسسة السلطة نفسها. والفرق بين هذين المسارين كبير جدّاً، فالدول التي تتشكّل بإرادة شعوبها، غالباً ما تكون أنظمة حكمها أكثر استقرارا - وإن مرت بتقلّبات عاصفة في مرحلة زمنية محددة -، وقرارات حكامها وممارساتهم أقرب إلى حاجات الشعب وإرادته، انسجاماً مع كونه صاحب السيادة الحقيقي، والقادر على انتزاع السلطة من الحكام وإعطائها لغيرهم.

أمّا الدول التي تتشكّل بإرادة السلطة أو مغامرة أفراد داخلها، فغالباً ما يشوبها الشك في شرعيتها، وعدم الاستقرار في مؤسساتها، وانفلات قراراتها وممارسات حكّامها من قيود الرقابة الشعبية والدستورية، بل تغدو الإرادة النافذة هي إرادة السلطة ورجالها، والإرادة المُغيّبة هي إرادة الشعب ومصالحه.

ومَن يحلّل أوضاع العراق في النصف الأوّل من القرن العشرين المنصرم يكتشف بسهولة انشغال شعبه التام بهموم حياته اليومية التي تهدّد وجوده: كالأمراض والأوبئة، والفقر والأُمّية، أو بالصراعات الاجتماعية المرتبطة في جزء منها بإلحاح الحاجة المادّية، فيما يرتبط الجزء الآخر بتزاحم الثقافات الثلاث: البدوية (عقلية الغزو) والريفية (الإقطاعية) والمدنية (الناشئة)، وبشكل لا يقل حدّة عن تزاحم القوى السياسية الرئيسة: سلطة الملك، وسلطة الحكومة، وسلطة المحتل البريطاني الظاهرة أو الخفية. فضلاً عن حداثة انفتاحه على الغرب والأيديولوجيات الصاعدة فيه، والتي غالباً لم تتجذر مفاهيمها في ثقافاته السائدة ولم تهضمها وتستوعب فلسفتها.

ولعلّ ما يؤكّد عدم نضج الوعي السياسي لعراقيي ذلك الزمن، وتشوه شعورهم بهويتهم الذاتية هو قبولهم بتنصيب ملك غير عراقي عليهم بإرادة محتل أجنبي تذرع لبلوغ غايته بمختلف الحجج والأسانيد. فالثقافة السياسية للعراقيين - آنذاك - كانت خليطاً عجيباً من ثقافة القرون الوسطى بسردياتها الموروثة، والثقافة العثمانية بأنماطها الإدارية ونزعتها الارستقراطية وصراعاتها الداخلية والخارجية، وثقافة المحتل البريطاني بكلّ ما تحمله من قيم الحداثة والاختلاف والتقدُّم التقني والإلهام السياسي والغطرسة الاستعمارية.

وهذا الخليط الثقافي العجيب يلمسه المراقب في بغداد، بشكل خاص، في نمط البناء، ووسائل النقل، والأسواق، وطريقة اللباس، والمفردات الدارجة، ومناهج التعليم، والعلاقات الاجتماعية. لذا فالمجتمع العراقي - آنذاك - لم يستوعب بعد فكرة الدولة، ليطالب باستيعاب طبيعتها وشكلها، وربّما كان العقل العراقي السياسي في لا وعيه العميق يتصوّر أنّ ملك العراق والمحتل البريطاني يمثل امتداداً تاريخياً لباشوات بغداد والوجود العثماني بشكل أو آخر.

هذا الواقع العراقي بكلّ تجلياته: السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية يجعلنا نميل إلى القول: كان الخيار الجمهوري في الرابع عشر من تموز لسنة 1958م خياراً لمتآمرين داخل السلطة لم يبلغوا درجة النضج السياسي، اتبعوا أسهل الحلول وأكثرها إيلاماً لتغيير نظام الحكم وفقاً لدوافعهم ومعتقداتهم. نعم قد يكون قطاعاً عريضاً من الشعب ساند قادة الانقلاب العسكري، ولكن ليس بوعي تام بالفرق بين النظام الملكي والنظام الجمهوري، وإنّما بسبب المعاناة التي عاشها نتيجة الظلم الاجتماعي والاقتصادي، وتردي الواقع السياسي، ووجود المحفز الخارجي، ونتيجة السياسات غير المرغوب بها لقادة النظام الملكي البارزين. فالهدف من المساندة الشعبية لتبني الجمهورية يرتبط برغبة الخلاص من المعاناة أكثر منه إيماناً بالجمهورية. لذا نعتقد جازمين أنّه لو حصل الانقلاب العسكري وعمل على معالجة أسباب المعاناة الشعبية مع الإبقاء على الملكية لما اختلف التأييد الشعبي له، لاسيما وأنّه سبق أن ساند العراقيون مثل هكذا خيار في مارس سنة 1941م.

وغياب الإرادة الشعبية الواعية في تبني الجمهورية ترتب عليه نتائج خطيرة جدّاً، إذ بقيت الفجوة كبيرة جدّاً بين الشعب وحكّامه الجمهوريين، فلا الشعب قادر على التحكم بقرارات وسلوك حكّامه، ولا الحكّام مذعنين لسيادة الشعب وحقّه في مراقبتهم ومحاسبتهم. بل والأدهى بات توزيع النفوذ والثروة أمراً متروكاً تقديره للحكّام أنفُسهم كيف شاءوا ولمن شاءوا مع استمرارهم برفع شعار تمثيل الإرادة الشعبية عند الضرورة، فتجد كلّ رؤساء الوزراء والجمهورية في العراق من عبدالكريم قاسم مروراً بصدام حسين وصولاً إلى حكّام الوقت الحاضر يتحدّثون عن اكتساب سلطتهم من الشعب في الظاهر، لكنّهم يعملون على تعزيز مصالحهم الحزبية والشخصية على حساب مصالح الشعب، ممّا جعل سقوطهم عن عروشهم يحصل نتيجة مؤامرات تتم داخل مؤسّسة السلطة لا دور حقيقي للشعب فيها.

لقد أدّى احتكار السلطة ورجالها للفضاء السياسي وغياب المشاركة الشعبية إلى انفراد مقيت وكارثي في اتّخاذ القرارات غير الواعية وغير المدروسة، والمرتجلة في أغلب الأحيان، كانت نتائجها تدميراً شاملاً لكلِّ بُنى المجتمع الأساسية، وحتى بعض القرارات ذات النتائج الإيجابية لم تصمد طويلاً لتحصد ثمارها، ولم تكن للشعب القدرة على رفض القرارات البلهاء أو حماية القرارات الجيِّدة.

صفوة القول: إنّ الشعب العراقي كان مشلول الإرادة عند تبني النظام الجمهوري، ومشلول الإرادة خلال مسيرة التحوّلات والسياسات المعتمدة من رجالات الحكم الجمهوري على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والحزبية والشخصية طوال الستين سنة المنصرمة. وكانت مؤسّسة السلطة متحرّرة بالكامل من عبء التفكير بمصالح شعبها وحرّياته العامّة، فتمنح الحقوق والحرّيات للإفراد بالحدود التي تقررها.

وحتى النجاحات التي يمكن أن تحقّقها السلطة لا ترتبط بالإرادة الشعبية إنّما ترتبط بعبقرية الحكّام أنفُسهم!، لذا تجد في الوعي أو اللاوعي السياسي عندما يمل العراقي من حكّامه وهو يدرك عدم قدرته على ازاحتهم يبدأ بطلب التغيير من خلال انقلاب داخل مؤسّسة السلطة نفسها أو من خلال قوّة أجنبية غازية في إعادة إنتاج لتراجيديا شعبية ناقمة ومتألمة بشدة من السلطة.

ولكن ما تقدّم لا يعرض كامل الصورة لعلاقة العراقيين بنظامهم الجمهوري، كيف؟

نعم لم تكن الإرادة الشعبية السبب في اختيار الجمهورية، ولكنّها السبب في استمرارها، إذ لم يتمكن أي من حكّام العراق بعد عام 1958م، على شدّة حبّهم للسلطة ورغبتهم بالبقاء فيها، من تنصيب نفسه مَلكاً على هذا البلد، لعلمه برفض العراقيين المطلق واشمئزازهم من هذا الأمر. وما لا يعلمه هؤلاء الحكّام هو أنّ رفض العراقيين لعودة النظام الملكي ناجم في جزء كبير منه عن عدم ثقتهم بحكّامهم، فهم يدركون أنّ السلطة تُدار بإرادة أشخاص يتربعون على قمتها، ولكنّهم يحملون في داخلهم الأمل في الخلاص منهم بطريقة ما، ووجود الجمهورية يبقي الأمل متوقداً بهذا الخلاص أكثر من النظام الملكي. إلّا أنّ الدول لا تُبنى بالآمال وحدها، لذا أدّت علاقة العراقيين السلبية بجمهوريتهم إلى تشوّه بناء الدولة والحكم في بلدهم، إذ لم تترسخ مؤسّسات الدولة، ولم تتعزز نزعة المواطنة بين الأفراد، وبقيت القرارات الحكومية المتخذة تتسم بالاستعجال وغياب الرؤية خلال العقود الستة المنصرمة.

وبالرغم ممّا تقدّم من تحليل للصعوبات التي كابدها العراقيون مع نظامهم الجمهوري لا زالت الفرصة سانحة لتلافي المسار الدراماتيكي الذي مروا به من خلال: تعزيز المشاركة الشعبية في إدارة الشأن العام، وتحوّل بوصلة القيادة من السلطة إلى الشعب، واستعادة العراقي لحقّه في اتّخاذ القرار في بناء الدولة والحياة في بلده. نعم قد يحتاج الوصول إلى هذا الهدف المعاناة بسبب الخطأ في الاختيار تارة، ومواجهة التحدّيات الصعبة تارة أُخرى، لكن تجربة الشعب للمعاناة من قراراته المتخذة أفضل بأضعاف كثيرة من تجربته المعاناة بسبب قرارات المتسلطين عليه، فهو يتعلّم وينضج بالأُولى، ويستكين ويضعف بالأُخرى.

وما يساعد العراقيين على بلوغ ذلك هو أنّ الفضاء السياسي لم يعد حِكراً على السلطة، فالتطوّر التكنلوجي الحديث كسر قيود السلطة، والتمدّد المدني المستمر سيكسر احتكار الوعي، وستنمو تدريجياً ثقافة عراقية متحرّرة من القيود، رافضة للتسلط والاستعباد، راغبة في تحمّل المسؤولية من رحم الثقافة التقليدية الحالية.

وسيأتي جيل جديد من المواطنين أكثر قوّة ومهارة في توظيف قدراته الذاتية وقدرات بلده، لتقرير مصيره بحرّية، عندها سيلتزم العراقيون بجمهوريتهم، وسيعملون على بناء دولتهم المنشودة، بعد وضعها على المسار الصحيح نحو التقدُّم الحضاري.

ارسال التعليق

Top