• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

نعم لرفع الحصار عن غزة، ولكن ليس بأي ثمن

د. إبراهيم أبراش

نعم لرفع الحصار عن غزة، ولكن ليس بأي ثمن

رفع الحصار أو تخفيفه حقّ لأهل غزة وواجب على كلّ فلسطيني وعلى كلّ إنسان حرّ لأنّه حصار جائر وظالم أدّى لتدمير الاقتصاد وإفقار العباد وإذلال الشعب، كما أنّه جزء من مخطط لفصل غزة عن الضفة وتدفيع أهالي القطاع ثمن مقاومتهم وتصديهم للاحتلال، ولكن، لو فكرنا ملياً في الآليات أو المشاريع لإنهاء الحصار، خارج إطار المصالحة الوطنية الشاملة التي تُعيد الوصل بين الضفة وغزة كوحدة جغرافية وسياسية وبما يحافظ على الهُويّة الوطنية للقطاع، فإنّ تخوفات كبيرة تنتابنا وخصوصاً أنّ ما جرى ويُجرى تحت عنوان تخفيف الحصار وتحسين المستوى المعيشي لأهالي غزة ثمنه وقف المقاومة وحتى مسيرات العودة السلمية وتكريس الفصل، الأمر الذي  سيؤدِّي لأن يكون ثمن تخفيف الحصار أو رفعه أسوء من الحصار ذاته ، وهذا ما حذّرنا منه منذ سنوات.

 عندما تأتي  الدعوات لرفع الحصار بذرائع الوضع الإنساني من أطراف مثل واشنطن وإسرائيل وبعض الدول العربية وخصوصاً قطر، ودون التنسيق مع السلطة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية حيث الأولى صاحبة الولاية القانونية على قطاع غزة والثانية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وسكان غزة جزء من هذا الشعب، وعندما تتزامن هذه الدعوات مع طرح صفقة القرن والإفشال المقصود لجهود المصالحة.... فإنّ وراء الأكمة ما وراءها، وما وراء الأكمة مشروع لتصفية القضية الوطنية برمتها.

لم يعد خافياً على أحد أنّ الأحداث المؤلمة في غزة أصبحت تحتل مكان الصدارة في الاهتمامات السياسية الوطنية والإقليمية والدولية وعلى المستويين الرسمي والشعبي، فالمداولات في المنظمات الدولية تبحث في الوضع بقطاع غزة، والمظاهرات التي تخرج تتحدّث عن معاناة أهالي غزة وتطالب بنصرة غزة ورفع الحصار عنها، والندوات واللقاءات الفلسطينية الداخلية تركّز جلّ اهتمامها على الأوضاع في قطاع غزة وخصوصاً الفصل بين غزة والضفة، وكأنّ الأُمور ببقية الوطن على خير ما يرام أو أنّها مناطق محرّرة أو لا معاناة فيها، كلّ ذلك غيب الضفة الغربية والقدس بل غيب فلسطين وغيب الوطن لتصبح (القضية الغزاوية) تحل محل القضية الفلسطينية.

لا شكّ أنّ غزة جزء من فلسطين بل هي الجزء الأصيل الذي حمل الهم الوطني الفلسطيني منذ النكبة حتى اليوم، وأهلنا في غزة لم يكن لهم يوماً انتماء أو رابطة سياسية أو جنسية إلّا لفلسطين، وأهل غزة لم يترجلوا عن صهوة النضال يوماً، وهم الأكثر تفاعلاً مع كلّ حدث قومي أو وطني أو ديني أو أُممي، بعفوية يندفعون وبإصرار يناضلون وبصمت يعانون....، ومع ذلك أو لذلك فإنّ الشعب الفلسطيني في غزة وحسب كلّ المعطيات التي تنشرها المنظمات الدولية هو الأكثر فقراً والأكثر بؤساً، والأكثر تعرّضاً لجرائم القتل التي يقوم بها العدو الإسرائيلي.

فهل أنّ الخصوصية السسيولوجية والجغرافية الغزاوية وما يجري وجرى فيها وضدّ أهلها منذ النكبة وطوال سنوات الاحتلال شكل الشخصية الغزية المتميزة بالاندفاع والعنف وقوّة الانتماء الوطني؟ أم (أنّه أسلوب غـزة في إعلان جدارتها بالحياة) كما قال شاعرنا الكبير محمود درويش؟ أم أنّ مخططاً يجري حتى تغيّب غزةُ الوطنَ وحتى تُستنزف إمكانياتُنا وجهودنا في الصراع على مَن يحكم غزة وننسى القضايا الوطنية الأساسية؟.

يبدو أنّ في غزة كلّ ذلك، ولذلك فإنّ مخططات خطيرة تجري لتختزل فلسطين بغزة أو لصيرورة فلسطين والدولة التي يتحدّثون عنها مجرّد كيان سياسي في قطاع غزة. لا شكّ أنّ كلّ فلسطيني بل كلّ مَن يحمل مشاعر إنسانية إلّا ويتطلّع لرفع الحصار عن غزة وليعش أهل غزة حياة كريمة يستحقونها، ولكن نتمنى على حركة حماس الحاكمة في غزة أن تعمل على ألا يكون ثمن رفع الحصار عن غزة تكريساً لعملية الفصل بين غزة والضفة، وألا يتم توظيف معاناة أهل غزة لتحقيق أهداف سياسية لا علاقة لها بالدوافع الإنسانية، وأن تستدرك الأمر وتقطع الطريق على مخطط فصل غزة عن الوطن الفلسطيني، ولا يعقل أن تكون الهدنة مع العدو ممكنة والمصالحة الوطنية غير ممكنة.

لا نريد لأهلنا في قطاع غزة أن يدفعوا ثمن غياب إستراتيجية عمل وطني للمقاومة، وغياب إستراتيجية سلام حقيقي وثمن تعطّل مسلسل التسوية، ولكنّنا لا نريدهم أيضاً أن يكونوا حقل تجارب للسياسات الأميركية بالمنطقة، سواء كانت سياسة (الفوضى البنّاءة) أو صفقة القرن، ولا لسياسة المحاور وأجندة الإسلام السياسي الفاشلة والمدمِرة، ولا لكلّ مستَجِد بالعمل السياسي.

 إنّ المهمّة الرئيسة لشعب يخضع للاحتلال أن يحرّر وطنه ويقيم دولته الوطنية بجهود كلّ قواه الوطنية لا أن يتجاوز الوحدة الوطنية والمشروع الوطني الذي عنوانه الدولة الوطنية من أجل مشروع افتراضي أقرب للوهم السياسي هو من اختصاص مليار ونصف المليار من المسلمين الذين يعيشون في دول مستقلة.

لا نريد لأي شيء أن يحوّلَ دون رفع الحصار عن أهلنا بالقطاع حتى وإن كان ثمن ذلك وجود سلطة حركة حماس في القطاع لحين من الوقت، ولكن دعونا نفكّر، ما دام الأمر الواقع - الانقسام - يفرض نفسه شئنا ذلك أم أبينا وقد يستمر لحين من الوقت ما دامت القوى الصانعة له في مركز القوّة، فكيف نحافظ على المشروع الوطني وعلى وجود قيادة وطنية واحدة في ظل وجود حالتين سياسيتين هما نتاج لجغرافيا سياسية يكرسها الاحتلال وتغذيها أجندة خارجية؟.

ليست هذه دعوة لتكريس الفصل بل دعوة لوضع حدّ لحالة العداء والتحريض الداخلي، محاولة الحفاظ على وحدة الشعب والمشروع الوطني ضمن سياقات جديدة تقول بوجود حالة سياسية في القطاع وأُخرى في الضفة الغربية، وخصوصاً أنّنا نتحدّث عن مشروع وطني، والمشروع هو ما قبل التحقّق والإنجاز، ولا أعتقد أنّ حكماء فلسطين سيعجزون عن إيجاد صيغة ما للمشروع الوطني أو تقاسم وظيفي وطني يُخرج النظام السياسي والمشروع الوطني من حالة الانحدار بل والاندثار لحين إنجاز التحرّر الوطني والدولة المستقلة على كامل الأراضي المحتلة عام 1967 وعودة اللاجئين، إن لم تخرج الطبقة السياسية من حالة الصمت بل التواطؤ على الحقيقة حيث الجميع يعرف أنّ الانفصال يسير بخطوات سريعة، فإنّهم يتحمّلون المسؤولية ليس فقط على فصل غزة عن الضفة بل أيضاً عن تصفية القضية الفلسطينية.

ارسال التعليق

Top