• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الأخـلاق والعبادة

الأخـلاق والعبادة

◄إحدى النظريات المعروضة بشأن السلوك الأخلاقي للإنسان هي نظريّة "العبادة"، ويذهب أصحابها إلى القول إنّ هذه السلسلة من أعمال الإنسان التي تختلف عن سائر أفعاله الطبيعية، وهي مشهودة عند جميع بني الإنسان، وهم جميعاً يثنون عليها ويُقدِّسونها، ويصفونها بالشرف والسموّ على الأعمال الطبيعية الأخرى، إنما هي من سنخ العبادة.

يرى البعض أنّ هذه الأفعال تعكس نوعاً من العاطفة والمحبّة، وبعضها نوع من العقل والعلم والفهم، وبعضها نوع من الإرادة القويّة، وبعضها نداء لضمير الإنسان، وبعضها الآخر من مقولة الجمال.

وأشير هنا إلى وجود نظريّة أخرى بشأن هذه الأعمال المقدّسة عند بني الإنسان، وهي أنّ هذه الأعمال من سنخ عبادة الله؛ لكنّها عبادة غير واعية. فالذي يعتبر الأعمال الأخلاقية نوعاً من الجمال يقول بما أنّ الجمال لا يقتصر على الجمال المحسوس، بل الجمال المعقول هو الآخر جمال أيضاً. والذي يأتي بالعمل الأخلاقي يستشعر الجمال العقلي للعمل الأخلاقي، وهذا الجمال يجتذبه إليه مثلما يستهجن العمل القبيح.

في الأعمال الأخلاقية جاذبية من نوع جاذبية الجمال، وفي الأعمال الأخلاقية قوّة دفع من نوع الدفع المضاد للجمال. إلّا أنّ العجيب في هذه النظرية هو أنّ مَن يأتي بالعمل الأخلاقي حتى وإن كان لا يعترف بالله في شعوره الواعي ولا يقرّ بوجوده، أو أنّه يعترف فرضاً ولكنّه في شعوره الواعي لا يأتي بهذا العمل لرضا الله، وهو بعمله هذا لا يعبد الله، فعمله الأخلاقي هذا يعدّ نوعاً من العبادة غير الواعية.

وهنا قد يتبادر إلى الأذهان سؤال وهو: هل يا ترى من الممكن أن تكون عبادة الله عن غير وعي؟

والجواب هو: نعم، هناك أيضاً معرفة غير واعية لله. أي إنّ الناس يعترفون بالله في أعماق فطرتهم – أو ما يُعبر عنه اليوم بمصطلح اللّاواعي – لكن التفاوت بين الناس إمّا هو في المعرفة الواعية لله. وإذا كان تصديق هذه القضية صعباً إلى حدٍّ ما بالأمس – أي في القرون السالفة – فتصديقها اليوم سهل جداً. إذ ثبت اليوم أنّ للإنسان شعوران: شعور ظاهري، وشعور مغفول عنه، أي الشعور الذي يعيه الإنسان بذاته، وشعور آخر لا ينتبه إليه الإنسان في الظاهر.

وهذا الشعور الواعي، والشعور غير الواعي مثله كمثل الطفل من الناحية الغريزية:

كميل الأطفال إلى الأُمّهات وهم لا       يعلمون أنّ سرّ الميل في الشفاه

الطفل الذي يولد توّاً، ولا يزال في يوميه الأوّل والثاني غير قادر على فتح عينيه، ولا يعلم عن وعي بوجود أُمّه، وليس في ذهنه صورة عنها، ولا يعلم أنّ له أُمّاً، تراه يميل برأسه ويُحرِّك شفاه يميناً وشمالاً، وهذه الشفاه تبحث عن ثدي الأُم بشكل غير واع. ولو أراد أحد استنطاق هذا الطفل عمَّ يبحث، فلن تكون له قدرة على الجواب، لأنّ ذهنه لازال خالياً من الصور والنقوش، وهو حتى وإن كان قادراً على الكلام فلن تكون له قدرة على بيان هذه القضية، إلّا أنّه يبحث في اللّاوعي عن شيء موجود ألا وهو ثدي أُمّه؛ لكن هذه الميول ضعيفة جداً لدى الإنسان وهي في الحيوانات أشد. هذه الغرائز قوية جداً لدى الحيوانات وخاصّة الحشرات. وهذا القدر من الغريزة موجود في الإنسان أيضاً في الكثير من القضايا.

يعتقد علماء التحليل النفسي اليوم أنّ القسم الأعظم من شعور الإنسان هو شعور غير واعٍ، والقسم الأقل منه هو ذلك الشعور الذي يعيه الإنسان.

أي إنّنا لو راجعنا أعماق ذاتنا ونقَّبنا محتويات ضمائرنا لوجدنا فيها مجموعة من المشاعر، والمعلومات، والرغبات، ودوافع الكراهية والمحبة، وما شابه ذلك، ثمّ نتصوّر أنّ لا شيء سواها، في حين أنّ معلومات، وذكريات، ومشاعر، ورغبات كثيرة قد رسبت في أعماقنا من غير شعور منّا. أي أنّ قسماً كبيراً من روحي تبقى خافية عن ذاتي التي تتحدّث معكم، وقسم كبير من روحكم تبقى خافية عن ذاتكم التي تستمع إليَّ الآن.

ويضرب لهذا مثل في بطيخة تلقى في حوض الماء، فكم يعوم منها فوق الماء؟ لعلّ جزءاً صغيراً جداً، إذ يغطس تسعة أعشارها تقريباً في الماء فيما يعوم عشرها فقط. أو إذا وضعت قطعة كبيرة من الثلج في حوض ماء، كم يعوم منها فوق الماء، وكم منها يغطس فيه؟ وهكذا شعور الإنسان أيضاً، فالقسم الظاهر منه إزاء القسم الخفي يُشكِّل مثل هذه النسبة.

هكذا الحال بالنسبة للعالم أيضاً؛ فعالم الطبيعة الذي يُعبِّر عنه القرآن بعالم الشهادة يُشكِّل هذه النسبة نفسها إزاء عالم الغيب والحقائق الخفية، إن لم يكن أكثر منه بكثير. عالم الطبيعة بكلّ كواكبه ومجرّاته، وهذا الكون الذي لا يعلم الإنسان نهايته ولهذا يصفه باللّامتناهي – ولعلّه غير متناهٍ حقّاً – ضئيل جداً بالمقارنة مع ما يحيط بهذا العالم، أي إزاء القسم الخفي من العالم. أو بتعبير آخر هو كالحلقة الملقاة في الصحراء. فماذا تمثل الحلقة إزاء الصحراء؟ لا شيء.

وإذا تحدّثنا الآن عن العبادة اللّاشعورية، فلا يكون حديثنا مدعاة للدهشة، فيقول قائل: وهل يمكن أن تكون العبادة غير واعية؟ فالإنسان الحي لا يحتاج إلى الوصي ولا القيِّم. وأنا أعلم أنّني لا أعبد الله، بل ولا اعترف بوجوده أساساً، فكيف تقول إنّ عملي الأخلاقي هذا نوع من العبادة اللّاشعورية؟ وجواب ذلك هو: نعم، إنّك لا تدرك أموراً كثيرة تفعلها بنفسك، ولا تعلم أنّك لا تدرك ذاتك.

ما معنى أنّ الأعمال الأخلاقية من جوهر العبادة؟ يرى الإنسان بفطرته أنّ الأعمال الأخلاقية شريفة وكريمة. ومع ما فيها من إيثار وتجاوز للمنطق الطبيعي وحتى المنطق العقلي والعملي، أي لا ينسجم مع العقل الذي يأمر الإنسان بالحفاظ على ذاته وعلى مصالحه. ومع هذا تجده يؤدي هذه الأعمال ويرى فيها نوعاً من العزّة والكرامة والرفعة ويشعر أنّه يشرف ذاته عبر أداء هذه الأعمال كالإيثار والإنصاف والتفاني.

فهذا العمق في روح الإنسان، وفطرته، وسعة قلبه، لها نفحة خاصّة لاشعورية مثلما يعرف الله ويعرف أحكامه، ورضاه، ويؤدّي عمله فطرياً لوجه الله.

الحقيقة هي أنّ الأخلاق من جوهر العبادة. وبنفس القدر الذي يعبد فيه الإنسان ربّه لاشعورياً، تراه ينقاد أيضاً لاشعورياً لسلسلة من الأحكام الإلهية. وحينما يتحوّل شعوره اللّاواعي إلى شعور واعٍ، وهذا هو السبب الذي من أجله بعث الأنبياء (بعث الأنبياء للسير بنا إلى فطرتنا، لتحويل ذلك الشعور اللّاواعي وذلك الأمر الفطري إلى شعور واعٍ) وعند ذاك تغدو جميع أعمال الإنسان أخلاقية لا مجرّد مجموعة معيّنة من أفعاله، وحتى نومه يتحوّل إلى عمل أخلاقي، وطعامه يصبح عملاً أخلاقياً. أي حينما يسير منهج حياتنا على أساس التكليف ونيل رضا الله، يصبح عندها تناولنا للطعام، ومشينا، كلامنا، بل وكلّ حياتنا ومماتنا عملاً أخلاقياً واحداً.

(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام/ 163). ►

 

المصدر: كتاب الروح والنور في القرآن الكريم

ارسال التعليق

Top