يعتبر "الحبُّ" واحداً من القضايا المهمّة للأخلاق الجنسيّة. وقد أفرد الفلاسفة، ومنذ القدم، كما نعرف، باباً خاصّاً به في كتاباتهم وانبروا للتحقيق في حقيقة هذه الغريزة.
تحدّث "ابن سينا" عن "الحبّ" في أطروحة خاصّة. ورأى الحكماء أنّ "الحبّ" يجري في كلّ شيء وقالوا إنّ حُبَّ الإنسان للإنسان ظاهرة تتجلّى فيها تلك الحقيقة الكلية.
وذَكرَ الشعراء والأدباء "الحب" بألفاظ التمجيد والمديح. وذهبوا أبعد من ذلك بترجيح الحبّ على العقل عند المقارنة بينهما. ويشهد بذلك قسم كبير من أدبنا بصورة عامة.
إنّ "الحبّ" الذي أصبح موضع التمجيد ووُصف بأنّه خارج عن مقولة "الشهوة" ليس هو "الحبُّ" الإلهي فقط، بل اعتُبر حبّ الإنسان للإنسان في بعض أشكاله شيئاً سامياً لا يمتّ إلى مقولة "الشهوة" بصلة أيضاً.
وهناك من يعتقد بالإضافة إلى ما ذكر أنّ "الحبّ" ما هو إلا نوع من الغليان الجنسيّ. فلا يؤمن هؤلاء بقداسة الحبّ ولا يحبّذون استخدامه فيما يخصّ علاقة الفرد بالله تعالى.
يعتقد بعض المفكّرين المعاصرين أن منشأ كلّ حبّ يكمن في أمر جنسيّ إلا أنّه يتلبّس بقالب روحي معنويّ. ويدّعي هؤلاء أنّ "الحبّ" ثنائي الجانب من حيث الحالة والشكل والهدف والنتائج، ولا يرون أيّ غرابة في أن يأخذ أمر مادي قالباً وشكلاً معنوياً، حيث لا جدار يفصل بين الماديات والمعنويات.
والواقع أنّه سواء كانت للحبّ جذور غير جنسية أم لم تكن، وسواء كان باستطاعته التلّبس بلباس معنويّ وروحيّ، أم لم يكن، فإنّه لا يمكن الترديد بأنّ الحبّ من حيث نتائجه النفسية والاجتماعية وما يحدثه من تغييرات عند الإنسان أو في مجال تأثيره في خلق الابداعات، يختلف كثيراً عن تلك الغريزة الشهوانية الحيوانية البسيطة التي لا هدف لها سوى أن تجد من يُشبعها ويُرضيها.
حقيقة الحبّ:
إنّ "الحبّ" عبارة عن زوال الأنانية، حيث يصبح المحبوب أعلى وأعزّ من روح المحب التي لا يتوانى في تقديمها فداءً للمحبوب، وهذا يعني أن يتحرّر الإنسان المُحِبُّ من قيود الـ"أنا" أو أن تندمج "أناه" في "أنا" المحبوب، ولهذا السبب أطلقوا على الحبّ أسماء "المربّي" و"المعلّم" و"الملهم" و"الكيمياء".
وجد "الحبّ" الكثير من التمجيد والمديح في الغرب والشرّق، ولكنّ الفرق هو في أنّ الغربيين مجّدوه لما فيه من حلاوة ولذّة أثناء الوصال، أو ربّما لأنّه يقضي على الأنانيّة الفرديّة التي طالما عكّرت صفو الحياة، وسبّبت العزلة الروحيّة لصاحبها. فالحبّ في الغرب يؤدّي إلى توسّع آفاق شخصَين فيحصل الاندماج فيما بينهما فيعيشان جنباً إلى جنب محاولَيْن جنيَ ما أمكنهما من ثمار الحياة اللذيذة.
أما الشرّقيون فكان تمجيدهم للحبّ بسبب ما يتّصف به من مرغوبيّة وقدسيّة تفيض منها الروح الشخصيّة والعظمة، كما أنّه الملهم والكيمياء، وهو عنصر يكمل الشخصية ويهبها النقاء والصفاء. ولم يُمَجَّد "الحبُّ" في الشرّق لكونه يؤدي إلى الوصال أو لأنّه يمهّد لحياة تملأ الروح الإنسانية بالرقّة واللطافة. يعتقد الشرّقيون أن: لو كان حبّ الإنسان للإنسان مقدّمة لشيء، فهو مقدّمة لمحبوب أسمى وأرفع من الإنسان. ولو كان مقدّمة لإتحاد روحين، فمقدّمة الإتحاد توصل إلى حقيقة أسمى مما يسعه الأفق الإنساني.
والخلاصة أنّ الشرّقيين والغربيين اختلفوا في نظرتهم إلى "الحبّ"، فالغربيون ينظرون إليه في مرحلته النهائية على أنّه ليس مجرّد لذّة أو شهوة، فيعطونه صفات الرقة والعذوبة، إلّا أنّهم لم يفصلوه عن قضايا الحياة، بينما بحث الشرّقيون عن الحبّ في أمور أسمى من الشؤون العادية.
العلاقة بين الحبّ والدين:
جرت العادة على القول إنّ ثمّة عداءً بين الدين و"الحبّ". ويتجلّى هذا العداء عند القول إنّه: طالما ينظر الدين إلى "الحبّ" على أنّه والشهوة شيء واحد، وينظر إلى الشهوة على أنّها شيء خبيث ذاتياً، فالدين بالنتيجة يرى "الحبّ" شيئاً خبيثاً أيضاً.
وكما نعرف فإنّ هذه التهمة لا يمكن أن تصدق في حقّ العقيدة الإسلامية، الإسلام لا يرى أيّ خبث في أصل اللّذة الجنسية فكيف يعتبر ذلك في "الحبّ" الذي ما زال موضوع بحث الباحثين في هل أنّه هو الشهوة الجنسيّة أم شيء يختلف عنها.
يحترم الإسلام ويقدر "الحبّ الصادق" القائم بين زوجين، بل يؤكّد على ضرورته في المحيط العائلي. كما أنّه يوصي بتدابير في سبيل تحقيق الاندماج الروحيّ وتقويته وتعزيزه ووحدة المشاعر بين الزوجين بشكل كبير.
والنقطة التي لم نغفلها هنا هي أنّ سبب إبداء بعض معلّمي الأخلاق معارضتهم للحبّ عبر نظرتهم للأخلاق، أو اعتبارهم إياه أمراً غير أخلاقي، السبب هو ذلك التنافر الموجود بين الحبّ والعقل، فالحبّ يحوي قوّة ونفوذاً عظيمين بحيث يشلّ حال سيطرته على شخص معيّن سلطة العقل لديه. والعقل قوّة مطيعة للقانون والنظام بينما الحبّ يميل إلى ما يسمّى بالفوضى ولا يحدّه أو يقيّده أي قانون، وهو قوّة ثورية لا تعرف الانضباط وتتوق دائماً إلى الحرية والانعتاق. لذلك فالأنظمة القائمة على أسس عقلية لا تستطيع أن تجوّز "الحبَّ"، فهي تعتبر "الحبَّ" أمراً لا تجدر التوصية به أو إباحته، وإن تورّط شخص به بالصدفة.
العلاقة بين الحبّ والعفاف:
لعلّ من أهم الموضوعات التي يمكن التحدّث حولها في هذا الإطار، هو العلاقة الموجودة بين "الحبّ" و"العفاف". حيث يجب تتبع جذور هذا الاستعداد أو الدافع السامي، لنرى في أيّ محيط أو ظرف يمكن أن ينمو ويزدهر بصورة أفضل.
هل ينشط هذا الاستعداد بشكل أفضل في محيط تحكم فيه روحَيْ الرجل والمرأة مجموعة من القوانين والأعراف الأخلاقيّة تحت عنواني "العفاف" و"التقوى"؟ أم يكون فعالاً في محيط ليس فيه شيء باسم "العفاف" و"التقوى"؟
ممّا لاشكّ فيه أنّ المحيط الذي تتوفّر فيه الإباحيّة لا يمكن أن تظهر فيه حالات حبّ تمتاز بالدفء والعمق، حيث لا تكون هناك أيّة قيمة معنويّة للقلوب ولا يتوفر لها مستَقرٌّ ثابت.
ومثل هذه الأجواء الحرّة لا تعدو كونها بيئةً تتوفّر فيها وسائل نيل اللّذة وإرضاء النزوات، ولا يمكن أن تظهر فيها حالات حبّ بالمفهوم الذي احترمه الفلاسفة وعلماء الاجتماع، ذلك الحبّ المقرون بالتضحية ونكران الذات ودفء الوصال وألم الحرمان والهجران.
إنّ الحبّ الذي يبعث النشاط في ذهن صاحبه ويركّز قواه النفسيّة في شيء واحد هو المحبوب فقط، وتتفتّح لديه آفاق الخيال فيصوّر المحبوب في ذهنه بصورة هو يرغبها ويريدها ولا تمّت إلى الصورة الحقيقة للمحبوب بصلة، هذا الحبّ هو الذي يهب الفرد القدرة على الإبداع والتفنن والابتكار وخلق الأفكار السامية.
عوامل إضفاء الصفاء على الحياة الزوجيّة:
أمّا العوامل الرئيسية التي توفّر الصفاء والنقاء والوفاء في الحياة الزوجية فتبدأ من تحمّل الرجل نفقات المرأة وإشراكها بصورة عمليّة في أمواله. والأهم من ذلك تأمين غريزة الاستمتاع في محيط الزوجية، وتميُّز المحيط الكبير للمجتمع بالعمل والنشاط. وإنّ التدابير التي أوصى بها الإسلام في شأن الحياة الزوجية وفي كلّ علاقة بين زوجين، كانت السبب في انتشار مثل هذه العلاقات الصادقة من الحبّ والصفاء والودّ بصورة كبيرة في المجتمع الإسلامي، وعلى عكس ما هي عليه البيئة الأوروبية اليوم.
يذكر القرآن الكريم لنا في إحدى آياته أنّ العلاقة الزوجية علامة من العلامات الدالّة على وجود الله، ويقرن هذا الذكر بعبارتي المودّة والرحمة، وكما نعرف فإنّ: "المودة والرحمة" تختلفان عن الشهوة والميل الطبيعي، فتقول الآية الكريمة: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم/ 21).
ويصف "ويل ديورانت" هذا الصفاء والإخلاص اللذين يدومان حتى بعد خمود الشهوة فيقول "إنّ الحبّ لا يصل إلى مرتبة الكمال إلا عندما يعمل بحرارته وتأثيره المرغوب على تخفيف المعاناة من حالة العزلة والشيخوخة والاقتراب من ساعة الموت. والذين يصفون الحبّ بالميول والرغبة إنما ينظرون إلى منشأ الحبّ وشكله فقط. إنّ روح الحبّ ستبقى مع المحبّين حتى بعد زوال الجسد المادي، وفي الأيام الأخيرة للعمر إذ تتعلّق القلوب الشائخة بعضها ببعض ويصل الجسم الجائع إلى كماله بصورة معنويّة مثيرة للدّهشة".
ومع الفارق الموجود بين رأي الإسلام في الحبّ والعفاف ورأي "ويل ديورانت" إلّا أنّ الحبّ عند "ديورانت" يتميّز بالهجران وفي الإلام بالوصال، ويكون الأوّل من النوع الهائج المجهد والثاني يكون هادئاً وساكناً، إلا أنّهما يشتركان في خصيصة واحدة: فكلا النوعين زهرة ناعمة تنمو وتتفتّح فقط في مجتمع تحكمه خصلتا العفاف والتقوى...►
المصدر: كتاب الحُبُّ والعَفاف/ سلسلة تراثيات إسلامية
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق