رَبّي طفلك على أن يكون مرناً وسريع التكيف مع الوضع الذي يجد نفسه فيه، وذلك عبر بناء قوّته الداخلية.
لا يعود سبب قلق خُبراء التربية والأهل على شباب اليوم، إلى فقدان جيل بكامله القدرة على التواصل مع الآخرين، نتيجة انشغاله بالتكنولوجيا، ولا إلى قلة صبر الأطفال أو صعوبة إرضائهم، ولا حتى إلى "حقيقة" أن جيل الشباب هذا، يُولي القليل من الاحترام للسلطات والمؤسسات، والبعض منهم لا يحترمها إطلاقاً، كما كان الشباب في الأجيال الماضية. بل يعود السبب، إلى حقيقة أن أطفال وشباب اليوم يفتقرون إلى الشعور بالقوة التي تنبع من الداخل، وهي ميزة كان يتصف بها شباب الأجيال الماضية.
يفتقد جيل الشباب اليوم المرونة وسهولة التكيف مع الآخرين. ومن الصعب معرفة السبب في ذلك. فهل هو ناتج عن الضغط الذي يلقى عاتق الأُم لتنشئة أطفال يحترمون أنفسهم ويتمتعون بثقة عالية بذواتهم ومؤهلين جيِّداً؟ ولكن، كانت المحصّلة على عكس ما هدفت إليه، حيث أثمرت عن جيل من الأطفال متهور وجريء، تربّى على تلقّي الدعم والمدح والمساندة، وتلبية احتياجاته بالكامل؟ معظم أطفال هذا الجيل سمع من أمه كلاماً على شاكلة: "أنت طفل استثنائي"، أو "أنت فريط"، أو "أنت مدهش وذكي"، بغض النظر عن أدائه وما بذل من جهد. فكانت النتيجة جيلاً مُدلّلاً، لم يختبر لا الصعوبات ولا النقد ولا الفشل ولا الخيبات. إضافة إلى أنهم لم يتعلموا إطلاقاً المهارات أو الاحتياجات التي تساعد على تطوير الميزة الشخصية التي تدفع الطفل إلى المثابَرة بعزم وعناد، على الرغم من العوائق أو الفشل أو خيبات الأمل أو النقد.
يميل الشخص المرن إلى امتلاك: القدرة على الثبات والمثابَرة، على الرغم من التحديات والعوائق والصعوبات. إضافة إلى القدرة على تجاوز الظروف الخارجية والأحداث، وإلى القدرة على "النهوض". وكي نفهم حقيقة أسباب افتقار جيل الشباب إلى هذه الميزات، علينا أن نفهم أوّلاً نظرتهم إلى أسس المرونة الثلاثة:
1- الصبر: يميل جيل الشباب إلى الاعتقاد أنّ الصبر مضيعة للوقت. وهو في نظرهم، صفة تُشعر مَن يتحلّى بها بالإحباط، لا ميزة ضرورية تساعد على النجاح. ولا يؤمنون بأنّ الرضا صفة من صفات قوة الشخصية، بل يعتبرون أنّه يحول دون تحقيق أهدافهم وطموحاتهم. ولأن جيلهم نشأ على السرعة في كل شيء، الإنترنت، وجبات الطعام السريعة، الميكروويف الذي يُعد الطعام خلال ثوانٍ، نراهُم يجدون صعوبة في انتظار أي شيء، والبعض منهم لا يُبدي استعداداً للانتظار إطلاقاً.
2-المسؤولية الشخصية: لا وجود لكلمة المسؤولية في قاموس الأغلبية العظمَى من جيل شباب اليوم. فهُم، بدلاً من أن يعتبروا المسؤولية سُلطة، كما هي في نظر الأهل، فإنهم يعتبرونها شيئاً يجب تجنّبه مهما كلّف الأمر. وعندما يستدعي الأمر أن يتخذ أحدهم قراراً، فإنّه يميل إلى أن يكون قراره مبنيّاً على المشاعر والأحاسيس. لأنّه بهذه الطريقة الآمنة في اتخاذ القرار، يمكنه تجنُّب المسؤولية في حال سُئل عن سبب عدم تنفيذ ما طُلب منه. إذ في إمكانه الرد: "لأنني شعرت بأن عدم تنفيذه أفضل".
- التوقعات الواقعية لِما هو "عادي":
كانت الحياة في نظر الأجيال السابقة غير عادلة وصعبة إلى حد بعيد. وكان فيها الكثير من الطلعات والنَّزلات وأحياناً ما بين بين. وكانت العوائق والفشل وخيبات الأمل بالنسبة إليهم، جزءاً من الحياة اليومية العادية، حيث كان يتوجّب على كل شخص بذل أقصى ما يستطيع من جهد للتغلب عليها. ومع ذلك، كانوا يعتبرون الأمر طبيعياً وعادياً. أما بالنسبة إلى جيل اليوم، فإنّ العادي "شاذ وغير سوي". ولأنّه جيل تربَّى على البرامج التلفزيونية والإنترنت ووسائل الإعلام العامة، فإن نظرته إلى الحياة الطبيعية، تتجلى في أن فيها الكثير من الدراما، النجاحات فيها مفرحة والفشل مدمّر. ويمكن أن تكون الحياة الطبيعية في نظره مبهجة، وصاخبة، ومثيرة، ومحبطة، ومخيفة، إلا أنها لا يمكن أن تكون مُملة أبداً.
إنّ امتلاك الطفل المواهب والمهارات والمعرفة، لا يعني أنّه يتّصف بقوة الشخصية. إذ إنّ من الممكن أن يكون الطفل بارعاً في الرياضة أو الطبخ أو في الدراسة.. إلخ، ولكن، قد لا يكون قوي الشخصية. هناك صفات تتصف بها قوة الشخصية، ومنها: الفضول، الشجاعة، الإبداع، التسامح، التقدير، الحماسة، العدل، القيادة، التواضع، السيطرة على النفس ومواصفات كثيرة أخرى. والصفات الشخصية هي التي تُحدد ماهيّة الشخص ونوعية علاقته مع الآخرين ومع العالم المحيط به. فعندما تكون شخصية الطفل قوية يشعر بكامل طاقته وقدرته.
لكل هذه الأسباب، يجب تربية الطفل على المرونة، أي على أن يكون قادراً على الثبات في وجه المصاعب والنكسات والعوائق، وعلى الصمود في وجه الظروف والعوامل الخارجية، وعلى "النهوض". وعلى الرغم من كل ما تَقدَّم، فإنّه في الإمكان تعليم شباب هذه الأيام أن يكونوا مَرنين. وذلك بإبعاد الطفل عن أسلوب الحياة المريح، أو بعدم إبعاده عن عالمه حتى يعطي نتائج أفضل، عن طريق اتّباع الاستراتيجيات التالية:
1- "الإهمال الهادف": يعتقد خُبراء التربية، أنّه بعدما تُوفّر الأُم لطفلها كل ما يحتاج إليه من حُب وطعام مُغَذٍّ، ونوم مُنتظم، ونظافة، يحتاج بعد ذلك إلى "الإهمال الهادف". ففي العقدين الماضيين، أصبحت مفاهيم التربية تُركّز كلّياً على الحماية والدعم. وقد يكون أسلوب التربية هذا، السبب وراء نُشوء أطفال "ضعاف". وعلى الرغم من حُسن نوايا الأُم، عند سعيها جاهدة لتوفّر لطفلها كل ما لم تحصل عليه هي، عندما كانت صغيرة، فمن الممكن أن تتسبب في تجريد طفلها من صفاته الشخصية التي تُميّزه عن الآخرين، ومن اعتماده على نفسه. وهما صفتان يكتسبهما الأطفال عن طريق التجارب التي يختبرونها في الحياة. والأمثلة على ذلك كثيرة منها: إصرار الأُم على توصيل طفلها بالسيارة إلى كل مكان يُريد الذهاب إليه، بدلاً من أن تفسح له في المجال لاستخدام وسائل النقل العامة. مَثَل آخر، مُسارعة الأُم إلى الدفاع عن طفلها بقوة، في حال تَسبّب في إثارة مشكلة في المدرسة. يجب أن تُفسح الأُم في المجال أمام طفلها ليرتكب الأخطاء ويتحمّل نتائجها. بالتأكيد، إنّ الفائدة طويلة الأمد التي يمكن أن يجنيها الطفل، من وراء السماح له بخوض معاركه بنفسه، وتفوق كثيراً راحة البال المؤقَّتة التي يجنيها الأهل من وراء خوضهم المعارك، نيابةً عن الأبناء.
2- استخدام القصص مثالاً على المرونة: من أفضل الوسائل، وربما تكون أفضلها على الإطلاق، التي يمكن أن تستخدمها الأُم لبناء جسر من التواصُل بينها وبين طفلها، وللتأثير فيه بشكل إيجابي، وحثّه على التصرف الجيِّد هي سرد قصص عليه، تُبيّن محاسن الأخلاق الحميدة وفوائد المرونة في التعاطي مع الآخرين. فرواية القصص تعطي الطفل الأسباب التي تجعله يسعى إلى الاستفادة منها، وإلى تطوير خصائصه الشخصية، وتُشجعه على أن يكون مَرناً. كلما شاركت الأُم طفلها تجارب الحياة، الإيجابية منها والسلبية، والدروس التي تعلمتها من هذه التجارب، زاد احتمال تقبُّله المبادئ التي تحاول غرسها فيه.
3- تشجيعه على العمل ضمن الجماعة: لا يمكن تطوير المرونة، مثل أي ميزة أخرى، بمعزل عن أمور أخرى. إنّ فضيلة المرونة، تماماً مثل فضائل التسامح والصبر والشغف، لا تتطور وتنمو إلا من خلال العمل ضمن الجماعة. لذا، من المهم أن تشجع الأُم طفلها على الانخراط في أنشطة وأعمال، يُشارك فيها جماعة من الأشخاص. مثل النوادي والفرق الرياضية، التي تعطي الطفل الفرصة لأن يكون مسؤولاً عن شيء ما أو شخص ما، وأن تشجعه على التطوع في الأعمال الخيرية التي تعطي الطفل نوعاً من القوّة، تُعتبر بمثابة الخطوة الأولى نحو تَشكُّل شخصيته.
4- لعب دور المدرب: تستطيع الأم لعب دور حيوي، في تدريب طفلها على تحمل الصعوبات والتحديات التي يواجهها، وذلك بالاستفادة منها وتحويلها إلى درس.. والمدرب الفعال هو دائماً مصدر للآتي:
التفاؤل: يعتقد البعض بصورة خاطئة، أنّ التفاؤل هو مجرَّد تفكير بطريقة إيجابية، وأنّه يركز على الغد المشرق، أكثر من كونه رفضاً للتحديات والإحباطات. لكن الحقيقة، أنّ التفاؤل هو التركيز على الجهد الذي يُمكن أن تُجنى نتائجه، بتحقيق النجاح المرجوّ بعد فترة مهما طالت، أكثر من التركيز على الفشل الذي يمكن التغلب على نتائجه بعد فترة قصيرة.
وجهة نظر: أحياناً، يحتاج الشاب إلى شخص موضوعي، يُوجّهه ويساعده عندما يصادف صعوبات في تنفيذ عمل ما. لذا، في إمكان الأُم مساعدة طفلها على التوصل إلى حل، عندما يشعر بأنّ الأبواب مسدودة في وجهه، وذلك من خلال تجزئة الأعمال الصعبة والمستعصية على الحل، والتحديات التي لا تُقهر، إلى أجزاء صغيرة يمكن تنفيذها وإيجاد حلول لها.
التأكيد: على الرغم من أنّ التأكيد دائماً للطفل، حتى لو كان تأكيداً إيجابياً، يؤدي إلى نتائج سلبية، لكن يمكن أن يكون حلاً أيضاً، إذا ركزت الأم على الأداء والمردود والجهد، بدلاً من النتيجة الفعلية. بمعنى آخر، على الأُم أن تتحيّن فرصة اتخاذ طفلها الخيارات الموضوعية، فتعترف بها بشكل علَني وبصدق، لأنها بذلك تُشجعه على تكرار اتخاذ القرارات الصحيحة، وهو الهدف الذي تتطلع إليه الأم دائماً.
5- التركيز على جوانب القوة وليس على جوانب الضعف عند الطفل: قد يكون من الصعب التركيز فقط على مشاكل الطفل وعلى مَواطن الضعف عنده، لأن هذا يسبب الشعور بالإحباط للطفل وللأُم أيضاً. إذ قد يفقد الطفل الحافز ويدفعه إلى اتخاذ موقف الدفاع، في حين يُمكن أن يمتاز الطفل بالحماسة والإبداع والفضول. فإذا ركزت الأم على هذه الجوانب، قد تزداد مُواصفات القوة عنده وتقل مواصفات الضعف.
6- أن يكون للمدح معنى: كثيراً ما تقول الأُم لطفلها "أحسنت" عند القيام بعمل يستحق المدح. ولكن قد لا يفهم الطفل الغرض من وراء هذه العبارة العامة. إذ يتلقّى الطفل العديد من الثناء على كل شيء وأي شيء يعمله، اعتقاداً من الأُم وهو اعتقاد خاطئ. أنّ الثناء المتكرر يُعزز الثقة بنفسه. لكن، في الحقيقة، يصبح الثناء عديم الفائدة، إلا إذا تعلّم منه الطفل الدرس الذي هدفت الأم إلى إيصاله. في استطاعة الأُم مساعدة الطفل على تحديد وبناء شخصية قوية، بتغيير طريقة مدحها طفلها. هذا لا يعني أن تتوقف عن مدحه، بل عليها أن تمدحه عندما يتصرف بطريقة تكشف عن الميزات التالية: الحماسة، العطف، العمل الجماعي، الصدق، التواضُع.. إلخ.
7- مساعدة الطفل على إدراك أنّ الأخطاء دروس يتعلّم منها: كان الجيل الماضي ينظر إلى الأخطاء، على أنها دروس يمكن التعلم منها. بينما ينظر إليها شباب اليوم على أنها دليل على الفشل. على الأُم أن تُعلّم طفلها أن يكون واقعياً في توقعاته. وأن تؤكد له دائماً، أنّ الأخطاء مقبولة ومُتوقّعة أيضاً. وأن تُبيّن له، أنها تتقبّله وتُحبّه حتى عندما يُخطئ.
8- الطلب من الطفل ألا يقلق: على الأُم أن تُوضح لطفلها، أنّه يُمكن أن يجد صعوبة في تعلّم بعض المواصفات التي تساعد على تقوية شخصيته. مثلاً، يمكن ألا يمتاز الطفل بصفة المثابَرة، ولكن عليه ألا يقلق بهذا الشأن، حتى لو كانت لديه رغبة في تنفيذ بعض الأعمال التي تتطلب المثابرة ولم يستطع إنجازها. عليه أن يُركّز على الصفات الإيجابية، مثل الحماسة في تنفيذ الأعمال والاستفادة منها، للبدء في العمل على المشريع التي يرغب في تنفيذها.
9- أن تكون الأُم مثالاً لطفلها: على الأُم أن تكون واعية لمواصفات القوة في شخصيتها، وأن تعتز بها وتستخدمها يومياً، إن كان ذلك ممكناً. إنّ إدراكها المواصفات التي تمتاز بها، ويُساعدها على إدراك المواصفات التي يمتاز بها طفلها، وتُساعده على تعزيزها وتَعلُّم المزيد من المواصفات، التي تُقوي شخصيته وتساعده على التعامُل بمرونة مع الآخرين.
10- مُساعدة الطفل على التوصُّل إلى طُرق جديدة في استخدام ميزاته الشخصية: على الأُم مساعدة طفلها للتوصل إلى طُرق جديدة، لاستخدام الصفات التي يمتاز بها، لأنّها بذلك تُشجع الطفل على شحذ مخيّلته والتفكير في استخدام الصفات في حياته اليومية. لأنّه إذا تَمكن من استخدامها، يشعُر بسعادة كبيرة وتزداد ثقته بنفسه. مثلاً، إذا كان الطفل يتّصف بالشجاعة، على الأُم أن تضع في طريقه بعض العراقيل، بحيث يستطيع التغلب عليها. وإذا كان مبدعاً، عليها أن تُساعده على إيجاد مشاكل يستطيع حلها، أو تطلب منه القيام بأعمال جديدة، يستطيع تنفيذها بإتقان. إذا كان قائداً جيِّداً، عليها مساعدته على التفكير في برامج يستطيع تنظيمها. وإذا كان عطوفاً، عليها مساعدته على التوصّل إلى طُرق، يستطيع عبرها مساعدة أصدقائه وأفراد عائلته.
ارسال التعليق