• ٢٤ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أسس إدارة المجتمع الصالح في القرآن الكريم

أسرة

أسس إدارة المجتمع الصالح في القرآن الكريم
تنبع الحاجة لإدارة المجتمع أو حكمه من ضرورة نقله أو إعادته من مجتمع (الإنحراف) إلى مجتمع (الفطرة)، أو من مجتمع (التحلُّل) إلى مجتمع (القِيَم)، ومن مجتمع (النزاعات) إلى مجتمع (الوحدة والتوحّد). ولقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: (كانَ الناسُ أُمّةً وَاحدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبيِّينَ مُبشِّرينَ ومُنذِرِينَ وأنزَلَ مَعهُمُ الكِتابَ بِالحَقِّ لِيَحكُم بينَ النّاسِ فِيما اختلَفوا فِيهِ وَما اختلَفَ فيه إلا الذينَ أُوتُوهُ مِن بَعدِما جَاءَتهُمُ البيِّناتُ بَغياً بينهُم فَهَدى اللهُ الذينَ آمنوا لِما اختَلَفوا فِيهِ مِنَ الحقِّ بإذنِهِ واللهُ يَهدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُستَقِيم) (البقرة/ 213). فلقد كان الناس في مطلع عهد البشرية على الإيمان والفطرة السليمة، فاختلفوا وتنازعوا، فبعث الله الأنبياء لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن الإنحراف إلى الإستقامة، ومن الغيّ إلى الرُّشد، ليكوِّنوا بذلك أوّل نواة للدولة الأرضية تقودها السماء عبرَ وسيط أرضيّ قادر على التعاطي مع المجتمعات المتنازعة بلغتها، وعلى إيجاد حلول ناجعة لمشكلاتها. ويمكن القول أنّ الأنبياء جميعاً هم قادة صلحاء مصلحون، ولكن مجتمعاتهم – إلا مَن آمنَ منها واتّبع الرسول (ص) – لم تكن على مستوى من الصلاح يؤهِّلها أن تكون مجتمعات صالحة على الرغم من توفر مقوّمات الصلاح كلّها في رسالة كل رسول، باستثناء مجتمعات محدودة. في هذا المقطع من البحث، سنتناول أسس وركائز بناء الدولة التي تقود المجتمع الصالح، أو بمعنى أدق تقود المجتمع إلى الصلاح، ثمّ تعمل على حفاظه على ما تحقّق من ذلك ليستقيم المجتمع على خطِّ الإصلاح، وعبر عدد من المحاور: 1- القائد الربّاني أو (القيادة الصالحة): نعني بالقائد الرَّبّاني كلّ مَن حمل رسالة السماء ليدعو الناس إلى الأخذ بها سواء كان نبيّاً، وهو أعلى درجات القيادة الرَّبّانية، أو أي مستوى قيادي آخر يندرج تحتها. قال تعالى: (يا داودُ إنّا جَعَلناكَ خَليفةً في الأرضِ فَاحكُم بَينَ النّاسِ بِالحقِّ وَلا تَتَّبِع الهَوَى فَيَضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ) (ص/ 26). أرادت السماء لقادة الأرض الربّانيِّين الصالحين المُصلحين أن يتوفّروا على عدد من الشروط، أهمّها: أ) القيادة الصالحة هادية وليست استبدادية: قال تعالى مخاطباً النبي (ص): (فَذَكِّر إنّما أنتَ مُذَكِّر * لَستَ عَلَيهِم بِمُسَيطر) (الغاشية/ 21-22). وقال عزّوجل: (وَما أنتَ بِجَبّارٍ فَذَكِّر بِالقُرآنِ مَن يَخافُ وِعِيدِ) (ق/ 45). فليس للقيادة – في المنظور الإصلاحي للقيادة – أن تستخدم القوّة لإكراه وإجبار وإخضاع الناس لما يجب أن يخضع له العقل أوّلاً، فقد تنقاد الأجساد ولكن أنّى وكيف للنفوس والعقول من أن تنقاد؟ ولذلك فالقائد النبوي – وهو هنا رمز لكلِّ قائدٍ إسلاميّ يرمي لبناء المجتمع الصالح – مديرٌ لمجتمعه لا بالوعظ والإرشاد فقط، بل بما يحمل من سمات القيادة الناجحة التي تحسن فنّ التعامل مع شؤون الحياة، وليس له أن يكون قاهراً متسلِّطاً مستبداً ومتوسلاً بالعُنف وصولاً إلى مُبتغاه. ب) القيادة الصالحة مُعلّمة: قال تعالى: (هُوَ الذي بَعَثَ في الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنهُم يَتلُو عَلَيهِم آياتِهِ ويُزَكِّيهِم ويُعَلِّمَهُمُ الكِتابَ وّالحِكمَةَ وإن كانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلالٍ مُبين) (الجمعة/ 2). - دور القيادة الصالحة مزودج أو مركّب (تعليمي) (تربوي) (عملي)، ففي التعليمي يُقدِّم لمجتمعه المنهج والدستور، وفي التربوي يُطهِّر قلوبهم ونفوسهم من لوثات الهوى والشيطان والتعلُّق المريض بالدنيا، وفي العملي يُعلِّمهم كيف يعملون باختصاصات مختلفة وكيف يتقن كل واحد عمله، وكيف يتكامل كل عمل مع الآخر، حتى لا يكون عمل في عرض عمل، بل كلّها في طول بعضها. ت) القيادة الصالحة قدوة حسنة: قال تعالى: (لَقَد كانَ لَكُم في رَسُولِ اللهِ أُسوَةٌ حَسَنةٌ لِمَن كانَ يَرجُو اللهَ وَاليَومَ الآخِرَ وذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (الأحزاب/ 21). - القيادة الصالحة ليست قيادة موجّهة فقط، هي قيادة أو موقع يُمثِّل المَثَل الأعلى الذي يرى المجتمع الصالح في صلاحه أسوة حسنة، فيقتدي به في إخلاصه وشجاعته وجهاده وصبره وسلوكه، فلا تكون كلماته مجرّد خطابات يلقيها على شعبه، بل هي منارات يستنير بها لأنّه يرى أنّ قيادته في مستوى شعاراتها. قال عزّوجل: (وَجَعَلناهُم أئمّةً يَهدُونَ بِأمرِنا وَأوحَينا إليهِم فِعلَ الخَيرَاتِ وإقامَ الصلاةِ وإيتاءَ الزكاةِ وكانوا لَنا عابِدِين) (الأنبياء/ 73). ث) القيادة الصالحة جادّة حازمة: قال تعالى: (يا يَحيَى خُذِ الكِتابَ بِقُوَّةٍ) (مريم/ 12). - أخذ الكتاب بقوّة، رمز لكلِّ الجدِّية والحزم والعزم الذي يجب أن تتحلّى به القيادة الصالحة، فأوّل المُطبِّقين للرسالة أو المنهج هم حملته والمُبشِّرون به، وإلا لو كان القادة الربّانيون سعاة بريد – كما يصفهم البعض – لانتهى دورهم (بإيصال) الرسالة، ولكن دراسة حياتهم تكشف عن أنّهم كانوا (مُجسِّدين) لمفاهيم الرسالة، أي أنّهم رسالة ناطقة، أو تمشي على قديم، ثمّ لا يكتفوا بأن يكونوا سادة مجتمعاتهم، بل يعملون – بما أوتوا من قوّة – لأن يأخذوا بأيدي مجتمعاتهم لتكون صالحة مُصلحة، ولا شكّ أنّ انضباط القائد بتعاليم رسالته مدعاة لإنضباط مجتمعه بها تنفيذاً وتطبيقاً. ج) القيادة الصالحة مثابرة: قال تعالى عن قيادة نوح (ع) لمجتمعه وعلى لسانه: (قال رَبِّ إنِّي دَعَوتُ قَومي لَيلاً ونَهاراً * فَلَم يَزِدهُم دُعائي إلا فِرَاراً * وإنِّي كُلَّما دَعَوتُهُم لِتَغفِرَ لَهُم جَعَلُوا أصابِعَهُم في آذانِهِم واستَفشَوا ثِيابَهُم وأصَرُّوا واستَكبَروا استِكباراً * ثمّ إنِّي دَعَوتُهُم جِهاراً * ثمّ إنِّي أعلَنتُ لَهُم وأسرَرتُ لَهُم إسراراً) (نوح/ 5-9). - نوح (ع) مَثَل للقيادة الإسلامية الصالحة التي تبذل غاية الجهد في سبيل نهضة ورفعة مجتمعاتها من غير فتور ولا توان، إنّه العمل في الظروف الصعبة والعصيبة وغير المواتية لتكون مثابرة القيادة بحدِّ ذاتها – وبقطع النظر عن النتائج الإيجابية المجتناة منها – مثلاً في الصِّدق والصبر والإخلاص وتحريك الهمم الراكدة.   2- اختيار المجتمع لقيادته الصالحة: قال تعالى: (إنّ الذينَ يُبَايِعونَكَ إنّما يُبايِعُونَ اللهَ) (الفتح/ 10). - يقول الإمام علي (ع): "الواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمينأن لا يعملوا عملاً ولا يُقدِّموا يداً ولا رجلاً، قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً – قائداً – : عفيفاً، عالماً، ورعاً، عارفاً بالقضاء والسنّة، يجبي فيئهم، ويقيم حجّهم وجمعتهم، ويجبي صدقاتهم". والنصّ العلويّ لا يُحدِّد المهام، بل يرسم معالمها الأساسية وخطوطها الرئيسية، أي لابدّ للأمّة من أن يكون لها الدور الأوّل والأبرز في اختيار قادتها الميدانيين في موقع الحكومة أو أدنى من ذلك، حتى لا يستأثر حاكم بمال الناس فيجعله (دولة) بينه وبين أقربائه وحاشيته، ولا يستبدّ بالناس فيجعلهم (خولاً) أي عبيداً مسخّرين لنزواته وأهوائه وحماقاته. إنّ للأمّة الولاية على نفسها في عصر غياب القائد المعصوم، وما لم تكن لها الكلمة الأولى في اختيار قادتها ومراقبتهم ومحاسبتهم، واستبدالهم إن لم يُصلحوا شأنهم، صدق عليها "كيفما تكونوا يُولَّ عليكم".   3- الإنقياد والطاعة للقيادة الصالحة: قال تعالى: (ما آتاكُم الرسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُم عنهُ فانتَهوا) (الحشر/ 7). وقال سبحانه: (فَلمّا فَصَلَ طالوتُ بالجُنُودِ قالَ إنّ اللهَ مُبتَلِيكُم بِنَهرٍ فَمَن شَرِبَ مِنهُ فَلَيسَ مِنِّي ومَن لَم يُطعَمهُ فإنّهُ مِنِّي) (البقرة/ 249). - إتِّباع أمر القيادة الصالحة ليس أمراً مزاجياً خاضعاً لأهواء المجتمع أو بعض شرائحه، ذلك أنّ ما يُفسد على القيادة أمرها هو عصيان أو تمرّد أو رفض أتباعها لأوامرها التي لا تُمثِّل إملاءات فوقيّة بقدر ما هي إجراءات لتحقيق المصلحة العليا. فنسبة (طالوت) للمطيعين إليه، ونفي ذلك عن العاصين، ليست نسبة ذاتية، بل هي نسبة للخط والمنهج، وهي تشخيص عمليّ لمدى النصرة والولاء وحقيقة الإنتماء. قال تعالى مخاطباً موسى وهارون (ع): (أنتُما ومَنِ اتَّبَعَكُما الغالِبُون) (القصص/ 35).   4- إختيار الوزراء الصالحين (الإدارة الصالحة): قال تعالى على لسان موسى (ع): (وَاجعَل لِي وزيراً مِن أهلي * هارُونَ أخِي * اشدُدْ بِهِ أزرِي * وأشرِكهُ في أمرِي) (طه/ 29-32). - إختيار القيادة الصالحة لشركائها في الأمر أو معاونيها في مهامها الجسيمة من عناصر مقرّبة، لا ينشأ من رغبة ذاتية لحصر الحكم في الأسرة الحاكمة، بل من تقدير مخلص لمن يُشاطر في (الهمّ) ويُشارك في (المهمّة). يقول تعالى: (وإذِ ابتَلى إبراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلماتٍ فأتمَّهُنَّ قالَ إنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إماماً قالَ ومِن ذُرِّيّتي قالَ لا يَنالُ عَهدِي الظالمين) (البقرة/ 124). غير أنّ اختيار العناصر الصالحة لتكون الأذرع المتحرِّكة للقيادة الصالحة لا يعفي تلك العناصر من الرقابة والتفقد والمساءلة والمحاسبة، فلقد حاسب موسى (ع) أخاه هارون (ع) بعد عودته من الميقات حينما رأى انقلاب بني إسرائيل على أصل التوحيد. يقول الإمام علي (ع) في عهده لمالك الأشتر: "ثمّ انظر في أمور عُمّالك، فاستعملهم اختباراً، ولا تولِّهم محاباة وأثرة، فإنّهما جماع من شُعب الجور والخيانة، وتوخّ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة، والقِدَم في الإسلام المتقدِّمة، فإنّهم أكرم أخلاقاً، وأصحّ أعراضاً، وأقلّ في المطامع إشرافاً، وأبلغ في عواقب الأمور نظراً، ثمّ اسبغ عليهم الأرزاق، فإنّ ذلك قوّة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجّة عليهم إن خالفوا أمرك، أو ثلموا أمانتك، ثمّ تفقّد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصِّدق والوفاء عليهم، فإنّ تعاهدك في السِّرِّ لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرِّفق بالرّعيّة" (نهج البلاغة، كتاب الإمام علي (ع) لمالك الأشتر). قال تعالى: (وَما كُنتُ مُتّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُداً) (الكهف/ 51). إنّ اختيار ملك مصر ليوسف (ع) وزيراً للمالية، كان بناءً على هذا الأساس: الكفاءة + النزاهة.   5- مبدأ الشورىفي الحكم: قال تعالى على لسان بلقيس ملكة سبأ في الإجتماع الوزاريّ والإداريّ الذي دعت إليه بشأن رسالة سليمان (ع): (قالَت يا أيُّها المَلأُ أفتُوني في أمرِي ما كُنتُ قاطِعَةً أمراً حتّى تَشهَدُون * قالوا نَحنُ أُولُو قُوَّةٍ وأُولُو بَأسٍ شَديدٍ والأمرُ إليكِ فَانظُري مَاذا تَأمُرِين * قالَت إنّ المُلُوكَ إذا دَخَلوا قَريَةً أفسَدُوها وجَعَلوا أعِزَّةَ أهلِها أذِلَّةً وكَذلكَ يَفعَلون * وإنِّي مُرسِلَةٌ إليِهم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرجِعُ المُرسَلُون) (النمل/ 32-35). - لم تقضِ (بلقيس) بدون استشارة الطاقم المَلَكيّ أو كابينة الحكومة كما يُصطلح عليها اليوم، ولم تستدعِ أصحاب الحلّ والعقد لمجرّد الإستئناس بالرأي ثمّ تجري ما يحلو لها حتى وإن خالف رأي المجموع، بل دَعَت لإجتماعٍ طارئٍ لقضيةٍ ساخنةِ ومصيريةٍ ومفصليةٍ رأت أنّ عقول العقلاء لابدّ أن تشترك للبتّ فيها. وحين أوكل رجالات الدولة وجنرالات المملكة الأمر إلى الملكة، لم يكونوا يريدون التخفيف من العبء والتنصُّل عن المسؤولية، أو مجاملة الملكة، بل كانوا يراعون الإختصاص والخبرة، ولو أنّ اقتراح الملكة لم يكن منسجماً مع قناعات قادة الدولة أو المملكة، لأظهر لنا النصّ القرآنيّ ذلك كما في حالات مماثلة في قوله (وتنازَعوا أمرَهُم).. لم يكن هناك تنازع في الأمر، كان هناك (مجلس شورى) برلماني يعمل وفقَ الأصول المرعيّة، ولربّما كانت هناك آراء مضادّة ومداولات ونقاشات حول (الرسالة) وحول طريقة الردّ عليها، لكن القرآن – على طريقته في اختصار التفاصيل – نقلَ لنا خلاصة ما جرى. ولا يتناقض مبدأ الشورى مع إيكال الأمر للقيادة الصالحة الحكيمة التي لا تتسرّع ولا تتهوّر، بل تضع مصلحة البلاد والعباد نصب عينيها لتُقرِّر ما تقدم عليه من خطوات سلبية أو إيجابية. يقول تعالى: (وَشاوِرهُم في الأمرِ فإذا عَزَمتَ فَتَوَكَّل عَلَى اللهِ) (آل عمران/ 159).   6- المسؤوليات الإدارية والتنفيذية: أ) توظيف طاقات الجماهير: قال تعالى عن ذي القرنين (ع): (قالوا يا ذا القَرنَينِ إنّ يَأجوجَ ومَأجُوجَ مُفسِدونَ في الأرضِ فَهَل نَجعَلُ لَكَ خَرْجاً على أن تَجعَلَ بَيننَا وَبَينَهم سَدّاً * قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيرٌ فَأعينُوني بِقوّةٍ أجعَل بَينَكُم وَبَينَهُم رَدماً * آتونِي زُبَرَ الحَدِيدِ حتّى إذا ساوَى بَينَ الصَّدَفَينِ قالَ انفُخُوا حتّى إذا جَعَلَهُ نَاراً قالَ آتُونِي أُفرِغْ عَلَيهِ قِطراً) (الكهف/ 94-96). - كان يمكن لذي القرنين (ع)، بما آتاه الله من كلِّ شيءٍ سبباً، أن يقوم بمهمّة بناء السدّ بين الجبلين بدون الإستعانة بالذين طالبوه ببنائه، لكنه لم يرد لهم أن يُعطِّلوا طاقاتهم ويقفوا مُتفرِّجين ينظرون متى ينتهي بناء السد، كما لم يرد لهم أن يحصلوا على إنجاز بناء السد بغنيمة باردة وبدون تقدير حقيقي لقيمة الإنجاز، لذلك دفعَ بهم إلى إعانته بقوّة وأن يجلبوا له الحديد المطلوب لبناء السد، وأن ينفخوا في النار، وأن يُذيبوا النحاس إلى آخر ما هناك من خدمات يحتاجها بناء السد تحت إشراف وتخطيط ومشاركة مهندس البناء (ذو القرنين). هذا المثل القرآني يمكن النظر إلى بعض تطبيقاته العملية من خلال توظيف الدولة لطاقات الجماهير بمختلف أنواعها ومستوياتها، حتى لا تكتفي بتقديم الإقتراحات وحتى لا تتكل على أجهزة الدولة فقط. ب) تحقيق مبدأ الحرِّيّات: قال تعالى في بعض مهام النبي (ص): (ويَضَعُ عَنهُم إصرَهُم والأغلالَ التي كانَت عَلَيهِم) (الأعراف/ 157). - يقول الإمام علي (ع): "أمّا بعد، فإنّ الله بعث محمداً (ص) ليُخرج عباده من عبادة عباده إلى عبادته، ومن عهود عباده إلى عهوده، ومن طاعة عباده إلى طاعته، ومن ولاية عباده إلى ولايته"! وقد يتلازم مبدأ الحرِّيّات مع مفهوم الحقوق، حتى ليمكن القول أحياناً أنّ حرِّيّة الإجتماع وتكوين الجمعيّات تعني حقّ إنشاء هذه وعقد ذاك (بضوابط) ولكن (بلا قيود). وسواء كان الحرِّيّة سياسية أو فكرية أو إقتصادية أو إجتماعية، فقد كفلها الإسلام لأتباعه ضمن قواعده الشرعيّة المرعيّة، بما في ذلك حق أو حرِّيّة التظلُّم والشكوى لرفع الحيف أو القيد الموضوع على أيّة حرِّيّة من الحرِّيّات التي يتم التجاوز عليها. ت) تحقيق مبدأ المساواة: قال تعالى: (إنّا خَلَقناكُم مِن ذَكَرٍ وأنثى وجَعَلناكُم شُعُوباً وقَبائِلَ لِتَعارَفوا إنّ أكرَمَكُم عِندَ اللهِ أتقاكُم) (الحجرات/ 13). - يتخذ مفهوم المساواة في الفهم الإسلامي مفهوم تكافؤ الفرص في التعاملات الإدارية اليوم، فحيثما تتساوى أو تتقارب المؤهّلات يجب الوقوف من الجميع على مسافة واحدة، ويبقى للتفاضل حسابه في ترجيح كفّة على أخرى. والقيادة الصالحة مسؤولة عن وضع الترتيبات اللازمة لتحقيق المساواة أمام القضاء والقانون، وفي إتاحة الفرص في العمل والتعليم والتوظيف والتصويت ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، فليس في كتاب الله – كما سبق قول الإمام علي (ع) – فضل لأبناء إسماعيل على أبناء إسحاق. ث) التنمية الإقتصادية: قال تعالى: (ولَقَد مَكَّنَاهُم في الأرضِ وجَعَلنا لَكُم فِيها مَعايِش) (الأعراف/ 9). - لا تتوقّف مسؤولية الحكومة الصالحة في القضاء على البطالة وتوفير فرص للعاملين فقط، بل تتسع وتمتد لتطوير أساليب الإنتاج، واستثمار غير المستثمر، فالإسلام الذي يقول أنّ مَن أحيا أرضاً مواتاً فهي له، هو إسلام تنموي، والإسلام الذي يُحرِّم المكاسب غير المشروعة هو في الجانب الآخر يعدو ويدفع إلى الكسب المشروع فاتحاً الباب على مصراعيه، والإسلام الذي يرى أنّ الزكاة ليست لسدِّ حاجة الفقير الضرورية فحسب، بل لإعطائه المال بالقدر الذي يلحقه بالناس في مستواه المعيشي، دين تنموي، والإسلام الذي يرفض الإستعطاء والإستجداء ويحثّ ويُحمِّس على العمل، ويرى أنّ أفضل كسب الإنسان من كدِّ يده، والذي يدعو إلى ترشيد الإستهلاك ومنع الإدِّخار والإحتكار، ويُحذِّر من التبعيّة والإرتهان الإقتصادي، هو تنمويّ في جوهره، ومسؤولية القيادة الصالحة أن تُترجم هذه (المعاني) إلى (معالم)، وهذه (الطاقات) إلى (مشاريع عمل)، وهذه (الروح) إلى سريان في الكيان الإسلامي كلّه. لقد أشار الشهيد السيِّد محمد باقر الصدر(ره) إلى مسؤوليات الدولة العامّة في (الضمان الإجتماي)، و(التوازن الإجتماعي)، و(رعاية القطاع العام)، و(الإشراف على حركة الإنتاج)، و(الحفاظ على القِيَم التبادلية)، ممّا يصبّ جميعه في هدف التنمية التي تُراعي أيضاً توفير مختلف الإختصاصات التي يحتاجها المجتمع انطلاقاً من مفهوم (الواجب الكفائي)، الذي يستوجب تغطية كل حاجات المجتمع بما لا يوجد شكوى أو تذمراً من انعدام في جمالٍ أو نقصٍ في آخر. يقول تعالى: (وأعِدُّوا لَهُم ما استَطَعتُم مِن قُوَّةٍ) (الأنفال/ 60). وهي كل قوّة ترتفع بالمجتمع الصالح إلى مصاف الدول الراقية إقتصادياً. ج) التربية والتعليم: قال تعالى: (هوَ الذي بَعَثَ في الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنهُم يَتلُو عَلَيهِم آياتِهِ ويُزَكِّيهِم ويُعَلِّمَهُمُ الكِتابَ والحِكمَةَ وإن كانوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلالٍ مُبين) (الجمعة/ 2). - لا تقتصر مهمّة القيادة الصالحة في مجال التعليم على مكافحة الأّميّة وفرض التعليم الإجباري فقط، بل تضع التربية أولوية من بين أولوياتها بإشاعة الأخلاق الصالحة ليس في صفوف المدارس التعليمية، بل حتى من خلال وسائل الإعلام المتاحة، وتعريف أبناء المجتمع أصول شريعتهم وحلالهم وحرامهم، وتذكيرهم بمسؤولياتهم، واستخراج أنبل ما لديهم من نوازع الخير والبذل والإحسان، وظهور الجميع بمظهر العبيد لله تعالى. إنّ رفع مستوى العلم والتعلُّم والأدب والتربية في أيِّ مجتمع يعني رفعاً لمستوى الحياة والمسؤولية التعليمية في المجتمعات الصالحة تضامنية: أسرية، ومدرسية، وعلمائية، وإعلامية، فلم يأخذ الله على الجهّال أن يتعلّموا إلا بعد أن أخذ على العلماء أن يُعلِّموا. ومهمّة التربية ليست وعظية بحتة، بل هي مهمة مركّبة تهدف إلى نفي البدع وإيقاظ الأفكار التنويرية، ونشر اليقظة الإجتماعية للحدِّ من ظاهرة السذاجة الإجتماعية والتسطيح الفكري، والقابلية للإنخداع. ح) تفعيل وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قال تعالى: (ولْتَكُن مِنكُم أُمَّةٌ يَدعُونَ إلى الخَيرِ ويأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ ويَنهُونَ عَنِ المُنكَر) (آل عمران/ 104). - لبناء المجتمع الصالح ركيزتان: هدم الرديء والسيِّئ والضارّ والباطل والمعرقل، وبناء الجيِّد والنافع والحق والخيِّر والممهِّد لطرق الإصلاح، وهاتان الركيزتان تختزلهما وظيفتا النهي عن المنكر والأمر بالمعروف اللتان هما وظيفتان إجتماعيتان وليسا فرديتين.. وإن كان الفرد يلعب دوره في النهي هنا والأمر هناك، فدعوة القرآن الكريم إلى تشكيل الأمّة أو الجماعة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر من ذوي التقوى والورع والثقافة والصلاح والوعي الإجتماعي بما هو صالح وما هو ضار، هي دعوة تخصّصية يُراد للوظيفتين الجليلتين أن يُؤدِّيا على أفضل وأكمل وأجمل وجه، ولذلك كان أحد أغراض التمكين في الأرض هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي أنّ المجتمع أو الجماعة الممكِّنة إنّما مُكِّنت وقُيِّض لها أن تحكم على أعقاب مجتمع فاسد لتعطي نموذجاً مغايراً عمّا كان، نموذجاً ينطلق بالصلاح ويستنكر الفساد. ولذلك فإنّ القيادة الصالحة مطالبة بوضع الآليات الكفيلة في أن تأخذ وظيفتا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صيغهما المكتملة في الحفاظ على صلاح المجتمع ورفع درجته من جهة، وفي إزالة ما يؤذي الناس ويُقلقهم ويتهددهم في معيشتهم أو حرِّيّتهم أو عبادتهم أو سلامة أرواحهم. خ) مراعاة المتابعة والتفقُّد والرقابة: قال تعالى عن النبي سليمان (ع): (وتَفَقَّدَ الطَّيرَ فَقالَ ما لِي لا أرَى الهُدهُد أمْ كانَ مِنَ الغائِبِينَ * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أو لأذبَحَنَّهُ أو ليَأتِيَني بِسُلطانٍ مُبِين) (النمل/ 20-21). - مثل تفقّد سليمان (ع) للطير التي تعجبه في سفره، وغياب الهدهد واستنكاره لهذا الغياب بدون إذن، والتهديد بالعقاب، إلا أن يكون هناك عذر شرعي، يُفهم منه أهميّة تفقّد القائد الصالح لمن يتبعه من قادة آخرين يديرون شؤون المجتمع الصالح، ووضع العيون عليهم للرقابة ومحاسبة المُقصِّر، ومتابعة إجراءات التنفيذ لما يُتخذ من قرارات وتوصيات عبر قنوات خاصّة. يقول الشاعر: سنّ لنا سليمانُ سُنّةً وكانَ فينا سَنُّهُ مُقتدى تَفقّدَ الطيرَ على مُلكِهِ فقال ما لي لا أرى الهُدهُدا يقول الإمام علي (ع) في عهده لمالك الأشتر: "وابعث العيون من أهل الصِّدق والوفاء عليهم، فإنّ تعاهدكَ في السِّرِّ لأمورهم، حدوة لهم على استعمال الأمانة والرِّفق بالرعيّة" (نهج البلاغة، كتاب الإمام علي (ع) لمالك الأشتر). وهذا ما كان يفعله النبي (ص) والإمام علي (ع) في حكومتيهما. د) الإهتمام بالرأي العام: قال تعالى على لسان قوم إبراهيم (ع): (قالوا مَن فَعَلَ هذا بِآلِهَتنا إنّهُ لَمِنَ الظالِمِين * قالوا سَمِعنا فَتىً يَذكُرُهُم يُقالُ لَهُ إبراهِيم * قالوا فأْتوا بِهِ على أعيُنِ النّاسِ لّعلّهم يَشهَدون) (الأنبياء/ 59-61). وقال عزّوجل على لسان فرعون: (قالَ أجِئتَنا لِتُخرِجَنا مِن أرضِنا بِسِحرِكَ يا مُوسى * فَلَنأتِيَنَّكَ بِسِحرٍ مِثلِهِ فَاجعَل بَينَنا وبَينَكَ مَوعِداً لا نُخلِفُهُ نَحنُ وَلا أنتَ مَكاناً سُوىً * قالَ مَوعِدُكُم يَومُ الزِّينَةِ وأن يُحشَرَ النّاسُ ضُحىً * فَتَوَلّى فِرعَونُ فَجَمَعَ كَيدَهُ ثمّ أتَى) (طه/ 57-60). - يرادُ بالرأي العام انطباع المجتمع بصفة عامّة عن قضيةٍ معيّنة، ومن خلال ذلك يُقال اتّجاهه هل هو (مع) أو (ضدّ). ففي الآية الأولى نرى قوم (نمرود) وهم المجتمع الذي كان يحيا فيه إبراهيم (ع) في فتوّته، يناهضونه لما عمل بأصنامهم، فيدعو النمرود إلى اجتماع الناس وأن يُحاكَم إبراهيم على مرأى منهم، أي محاكمة علنيّة لتكون عقوبته عبرةً لمن اعتبر، وهذا لون من تأليب الرأي العام ضدّه. ومثله دعوة فرعون قومه للإجتماع في عيد الزينة وقت الضحى، ليشهدوا – في ظنِّه ووهمه – انتصار سحرته على سحر موسى (ع)، في محاولةٍ لتحطيمه معنوياً أمام الرأي العام. والرأي العام في المجتمع الصالح يمكن أن يوظِّف إيجابياً لمصلحةٍ عمومية وليس فقط في الضدِّ منه، كما في المذكّرات المرفوعة للمطالبة بإصلاح معيّن، أو لمناصرة موقف مشرِّف، وتلعب الإعتصامات والتظاهرات اليوم دور الممثل للرأي العام، كما تكشف استطلاعات الرأي والإستبيانات عن جوانب منه، ولابدّ لقادة المجتمع الصالح من أن يسمعوا نبض الشارع من خلال الرأي العام الذي يمثِّل شرائح واسعة من الشعب وليس بالضرورة كل الشعب، لأنّ تجاهله أو تغافله قد يؤدِّي إلى تفاقم الوضع ونقمة الناس. يقول الإمام علي (ع) لمالك الأشتر في عهده إليه: "وإن ظنّت الرعيّة بكَ حيفاً، فاصحر لهم بعذرك، واعدِل عنك ظنونهم بإصحارك، فإنّ في ذلك رياضةً منكَ لنفسِك، ورفقاً برعيّتكَ وإعذاراً تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق" (المصدرا لسابق).   7- القضاء المستقل والعادل: قال تعالى: (يا أيُّها الذينَ آمَنوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَداءً بِالقِسطِ وَلايَجرِمَنَّكُم شَنآنُ قَومٍ على ألا تَعدِلوا أعدِلوا هوَ أقرَبُ لِلتقوَى وَاتَّقوا اللهَ إنّ اللهَ خَبِيرٌ بما تَعمَلون) (المائدة/ 8). - لا يعني كون مجتمع صالحاً أنّه في غنى عن المفاصلات القضائية والمرافعات الجنائية، فلقد سبقت الإشارة إلى أنّ صلاحية مجتمع تؤخذ بلحاظ الأكثرية، أو النسبة الغالبة لا بشكل مطلق. ولذلك كان دور القضاء لإستتباب الأمن، وتحقيق العدل، ورفع الظلامات، والدفاع عن الحقوق المهدورة أو المهضومة، دور الحكومة التي هي أعلى من السلطة الفعلية، أي إنّ إجراءات القضاء تسري على أعلى مسؤول في الدولة، وعلى أيّ إنسان مهما علا موقعه الإجتماعي، ولذلك نوديَ باستقلال القضاء استقلالاً تاماً وقايةً للعدل من أن تتلاعب به الأهواء أو تجرحه التدخلات في هذا الطرف أو ذاك، وصيانة الحقوق من أن تُنتهك ولا تجد مَن يستردّها أو يحفظها من أن تنالها المآرب والمناصب والمراتب. قال سبحانه: (يا أيُّها الذينَ آمَنوا كُونُوا قَوّامينَ بِالقِسطِ شُهَداءَ للهِ وَلَو على أنفُسِكُم أو الوَالِدَينِ والأقربِينَ إن يَكُن غَنيّاً أو فَقِيراً فَاللهُ أولى بِهِما فَلا تَتَّبِعوا الهَوَى أن تَعدِلوا وإن تَلْوُوا أو تُعرِضوا فإنّ اللهَ كانَ بِما تَعمَلون خَبِيراً) (النساء/ 135). إنّنا قد نجد حتى في المجتمع الصالح مَن يُفسد في الأرض ويقتل النفس التي حرّم الله، والسارق الذي لا يتورّع عن انتهاب أموال الناس، والمُضلِّل الذي يحرف عقول الناس، والزناة محصنين وغير محصنين، الأمر الذي يستدعي وجود قضاء عادل وحازم يؤاخذ المجرم بجريرته ولا يتطاول بها إلى غيره، كما يشير ضمناً أنّ المجتمع الصالح ليس هو المجتمع المعصوم، فالمجتمع المعصوم، أو الذي بلغَ درجةً عاليةً من التحصين الذاتي هو حلم الإنسانية المستقبلي.

ارسال التعليق

Top