◄الإبداع مشكلة هامة من مشكلات العلم المعاصر:
الإبداع شكل راقٍ للنشاط الإنساني، فقد أصبح منذ الخمسينيات من هذا القرن مشكلة هامة من مشكلات البحث العلمي في عدد كبير من الدول. فبعد أن حلّت المكننة في إطار الثورة التقنية العلمية المعاصرة، وتكونت ظاهرة النشاط العقلي الذي يعيد العمل آلياً وروتينياً ازداد الطلب أكثر فأكثر على النشاط الإبداعي الخلّاق. إنّ التقدم العلمي لا يمكن تحقيقه من دون تطوير القدرات المبدعة عند الإنسان، وهذا التطوير من مهمات العلوم الإنسانية عامة، وعلم النفس في دراسة الإبداع خاصة.
لقد أظهر جيلفورد (Guilford) عام 1950 في كلمته، بصفته رئيساً للجمعية الأمريكية لعلم النفس (69)، أنّه بفحص نشرة "الموجزات في علم النفس" تبيّن أنّه خلال فترة ثلاثة وعشرين عاماً منذ صدورها، إنّ العدد الكلي لمختلف الدراسات النفسية بلغ مائة وواحداً وعشرين ألف عنوان، يعود منها لبحث الإبداع عامة مئة وستة وثمانون عنواناً فقط اشتملت على أبحاث في التصور، والأصالة، والتفكير والاختبارات المتعلقة بمثل هذه المشكلات. وبذلك تكون نسبة الأبحاث التي تندرج ضمن بحث الإبداع حصراً من مجموع الكتب والمقالات المتضمنة في فهرس النشرة المذكورة 0.153% فقط، وذلك عبر ربع قرن تقريباً.
وضمن بحث أكثر حداثة، ذي طابع مرجعي (بيبلو غرافي) لعالم النفس التشكيلي هلافسا (J. Hlavsa)، يوجد "2419" عنواناً لدراسات خاصة بالإبداع مأخوذة من مصادر متعددة، ومن بين هذه العناوين 9.5% ظهر ما قبل عام 1950، و18% ظهر في الفترة (1950 – 1960)، وارتفعت النسبة في الفترة (1960 – 1970) إلى 72.5%.
هذا التزايد الأُسّي لعدد الدراسات والأبحاث في مجال الإبداع يرجع إلى أكثر من سبب: فهو يرجع بالدرجة الأولى إلى تعقد المجتمع المعاصر الذي يتطلب عدداً كبيراً من المختصين الجديرين بحل المشكلات التي تتطلب روح الإبداع. لقد أشار جيلفورد، في دراسة له، إلى الحاجة الكبيرة (لكوادر) تملك المواهب المبدعة بتأكيده على "القيمة الاقتصادية الضخمة للأفكار الجديدة"، وعلى ضرورة تمييز أولئك الذين تكمن فيهم القدرة على الإبداع والاختراع. وفي الوقت نفسه فإنّ علم النفس والعلوم الإنسانية التي ترجع إليها مهمة دراسة الظاهرة المعقدة للإبداع قد أصبحت تهتم بهذه الظاهرة لا على المستوى النظري المنهجي فحسب، بل على مستوى تطبيقي/ عملي أيضاً.
لقد أكّد عدد من الباحثين مثل فرنون (Vernon)، وبارن (Parnes)، وهاردينغ (Harding) التأثير الذي حدث في دراسات الإبداع بسبب غزو الفضاء، فقد أشار بارنس وهاردينغ إلى تأثير الصدمة التي حدثت في أمريكا بعد إطلاق أوّل قمر اصطناعي سوفياتي "سبونتيك" عام 1957. وقد تبين بعد هذا الحدث كيف طُلب إليهم إعادة النظر بدقة لفحص التعليم والتعليم العالي، وكيف أنّ الأهل والمربين وحتى الطلاب أيضاً تساءلوا عما إذا كان الشكل الموجود للتعليم في الولايات المتحدة الأمريكية مناسباً للفترة الزمنية الحاضرة. إضافة لذلك فإنّهم وضعوا جملة قيمهم العلمية موضع الشك خصوصاً الطرائق والمناهج التعليمية التي تعتمد على التذكر والحفظ.
لقد بدأت مشكلة الإبداع منذ الثلاثينيات من هذا القرن تعالج عبر "اختبارات القدرات" "اختبار القيم"، و"الأطفال النوابغ" وتمييز هؤلاء الأطفال بواسطة اختبارات الذكاء، ومن ثمّ مراقبة تطورهم على فترات مختلفة.
ومن الدراسات المشهورة في هذا المجال، دراسة تيرمان (Terman) التي بدأت عام 1922 حيث اختار تيرمان ومساعدوه ألفاً وخسمائة طفل تقريباً من أصل "مائتين وخمسين ألف طفل نسبة ذكائهم تتجاوز مائة وأربعين درجة، ثمّ تمت ملاحظتهم ومدى تطورهم ونجاحهم في حياتهم العلمية على مسار عشرات السنوات التالية.
وعلى الرغم من أنّ أبحاث تيرمان وأبحاثاً مماثلة أخرى قد أكّدت وجود علاقة بين مستوى الذكاء والإبداع إلا أنّ نسبة الذكاء لا تعد شرطاً كافياً ومرضياً من أجل الكشف عن الإبداع والتنبؤ به.
لقد أظهر جيلفورد (69) أنّ اختبارات الذكاء بالشكل التي هي عليه غالباً ما تطلب من المفحوص (العميل) أن يدلي بجواب محدد وصحيح لسؤال محدد ومباشر، وهذا ما يدعو لأن تكون اختبارات الذكاء في مصلحة الأفراد ذوي التفكير النمطي "الاتفاقي Convergent" أكثر من ذوي التفكير المبدع "الافتراقي Divergent"، حيث إنّ اختبارات الإبداع تتطلب التعددية في الإجابة والاستقلالية في التفكير. إنّ التفكير "الافتراقي" هو في جوهره تفكير مبدع.
وعلى خلاف ذلك فإنّ التفكير النمطي "الاتفاقي" يتضمن طريقة معيارية قياسية للإجابة والبحث عن الحل الصحيح والوحيد. أما التفكير "الافتراقي" (divergent) فهو موجه نحو اتجاهات متنوعة في البحث والحلول الممكنة عندما لا تتوفر طرائق متنوعة لأجل ذلك. ونعطي مثالاً من خلال السؤالين التاليين: ما هي الاستعمالات الممكنة للآجر؟ أو كيف نستطيع أن نؤمّن مواقف لعدد كبير من السيارات ضمن مساحة محدودة؟ في هذين السؤالين يلزم الفرد أن يتشعب في تفكيره، ويتجه باتجاهات متنوعة لإيجاد حلول جديدة، غير عادية.
ولا شك في أنّ أبحاث جيلفورد تشكل انطلاقة جديدة في دراسة الإبداع، غير أنّها بوجه عام تُرجع الإبداع، في الوقت ذاته، إلى بنية العقل، وبالتالي ترى في الإبداع شكلاً من أشكال النشاطات الإدراكية الراقية، علماً بأنّ هذا المفهوم – أي بنية العقل والنشاطات الإدراكية الراقية – تجاوزته إسهامات لعوامل الشخصية في الظاهرة الإبداعية.
لقد لاحظت كوكس (M. Cox) وهي واحدة من الذين كانوا يعملون مع تيرمان أهمية هذه العوامل، فقد درست السير الشخصية لأفراد نابغين مختلفين، وقد تبين لها أنّ نسبة الذكاء ترتبط بشكل غير مباشر بأساس هذه السير. تقول: "إنّ الذكاء المرتفع، لا المرتفع جدّاً، مع درجة عالية من المثابرة يحققان الإبداع أكثر مما لو كان الذكاء مرتفعاً جدّاً مع درجة منخفضة من المثابرة. وتستنتج كوكس أنّ الذين حققوا إنجازات عظيمة ومميزة لا يتسمون بالاستعدادات العقلية (الذكاء) وحسب، بل يتسمون أيضاً بالدافعية القوية والجهد والثقة بالنفس وحسن الطبع".
إنّ أبحاث تيرمان وهولينجورث قد ميّزت المتفوقين بناء على اختبارات الذكاء وقد سارت على الخط الذي رسمه "غالتون" أي اعتبار العوامل الوراثية هي العوامل المحددة. غير أنّ هذا الاتجاه قد لاقى تبدلات في الأعوام التالية. حيث تشير أنستاري إلى "أنّ معظم المؤشرات آخذة في النمو حالياً باتجاه تكوين المبدع أكثر من الاتجاه الذي يعمل على تمييزه وكشفه".
لقد طرحت مشكلة الإبداع لأوّل مرة تحت عنوان "ذوو المواهب العالية" من قبل شيتفانسكو – كوانكا (Stefanescu –Goanga)، وقد بينت كوانكا أنّ الحاجة كبيرة في عصرنا الحالي لذوي القدرات العالية، وذلك بسبب المشكلات التي تطرح على المجتمع، والتي تحتاج إلى حلول قيمة وأصيلة. تقول: "ليس عجيباً في هذا الواقع أنّ كلّ شعب واعٍ لمستقبله يعمل جاهداً لإيجاد عدد من الناس الموهوبين ذوي القدرات العالية والمتنوعة من مختصين وقياديين مبدعين في فروع النشاط الإنساني كافة".►
المصدر: كتاب إنتبه! أنت مبدع
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق