• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

البعدان الأخلاقي والحواري في سيرة الرسول «ص»

عادل الصويري

البعدان الأخلاقي والحواري في سيرة الرسول «ص»

◄تشكّل ثنائية الأخلاق والحوار ركيزتين أساسيتين في عملية بناء المجتمعات الإنسانية وفق القواعد الحضارية. ومهما كانت آليات البناء فلا يمكن إغفال هذه الثنائية التنموية.

في عالمنا الإسلامي؛ تبرز شخصية الرسول الأكرم (ص) بوصفه رائداً من رواد تطبيق هذه الثنائية بآلية مزاوجتها نظرياً بآليات التطبيق الفعلي. إنّ استلهام المنهج الأخلاقي المحمّدي وتطبيقه بالشكل الذي أراده الله عبر التعاليم الواردة في نصوص القرآن الكريم، وسيرة الرسول الأكرم (ص) وأهل بيته من بعده (ع)؛ كفيل بدفع عجلة التقدّم الإنساني إلى الأمام، فنستطيع عبر هذا المنهج فهم مرتكزات البناء الحضاري والاشتغال عليها باجتهاد وإيمان مخلصين لما تتبناه؛ فنصل إلى نتيجة أنّ القوّة الحقيقية تكمن في الأخلاق والحوار، ونبذ التطرُّف والعنف، وليس بالمصالح الضيِّقة التي تجعل من البشر وقوداً لحروب لا يربح فيها إلّا أصحاب الأجندات والمعتقدات المنحرفة.

والنظرية الإسلامية المؤكّدة على ثنائية الأخلاق/ الحوار؛ تجسّدت بشكل فعلي في القرآن الكريم وهو كتاب المسلمين المقدّس، من خلال آيات ترسخ قيم الأخلاق والحوار في ذهنية من يتبنّى الإسلام بصورته الحقيقية الناصعة. جاء في القرآن الكريم : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ) (آل عمران/ 159).

في هذه الآية الكريمة تتجلّى بوضوح هذه الثنائية المهمّة التي تتعدى ظرفها المرحلي لتكون ثيمة مستقبلية في التعامل الحضاري لبني البشر. لذلك لم يكن السلوك النبويّ الأخلاقي محكوماً بفترة إقناع الآخر بضرورة تبنّي منهج السماء الختامي؛ بل امتدّ لمرحلة ما بعد التأسيس الحقيقي في المدينة المنوّرة حيث هاجر الرسول (ص) إليها وبدأ من هناك الصفحة الثانية من صفحات التطبيق العملي لتعاليم الله تعالى، والتي استهلها أوّلاً بالمؤاخاة بين الأوس والخزرج أكبر قبيلتين في المدينة إثر خلافات قبلية قديمة؛ إذ ليس من المنطقي أن يسود منطق التعقل والتسامح والحوار الذي يقصده الإسلام في ظل خلافات قبلية تنتج تطرفاً وعنفاً، فالتسامح واللاعنف هما الجوهر الحقيقي للإسلام. كما كان للتكافل الاجتماعي تعزيز وتأصيل للسلوكيات الأخلاقية بعد أن شارك أهل المدينة المهاجرين في زادهم ورزقهم.

وحتى مع الإيمان بأنّ الرسول الكريم (ص) يوحى إليه؛ كان يحرص على إشراك المسلمين في الشؤون العامّة؛ لتأصيل مبدأ التشارك والتشاور، وبالتالي يعطي للحوار بُعداً أساسياً في التعامل مع الآخرين سواء كانوا من المسلمين، أو حتى من الديانات الأُخرى كما في تعامله مع يهود المدينة، من خلال بعض الممارسات التي تدل على التسامح والخلق الكريم، والتسامي على الأحقاد والضغائن، وهي السلوكيات التي قلّصت منطق الكراهية بين الناس، فكان يحرص على تفقد الذين كانوا يهاجمون شخصه حين يغيبون، فيؤكّد ما قاله الله في كتابه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107).

وحتى في السلوك مع الخصوم؛ كان لأخلاق الخصومة حضورٌ مهم في ذهنية نبيّ الإسلام، اجتهد في ترسيخها عند المسلمين وحتى في الحروب التي خاضها المسلمون تحت قيادة نبيّهم؛ كانت التوجيهات تشدّد على عدم البدء بالقتال، وعدم قتل الشيخ المسن، والطفل الصغير، وعدم ترويع النساء، بل تعدّى ذلك إلى عدم إغفال الجانب العلمي والمعرفي حتى في الحرب بعد أن أمر بإطلاق أي أسير يُعَلِّمُ عشرةً من المسلمين القراءة والكتابة. كلّ هذه السلوكيات الأخلاقية، كانت إشارات إلى البناء الحقيقي للإنسان المسلم الخالي من العُقد والتطرّف، الإنسان النابض بالمحبّة والنابذ للكراهية والعنف حتى مع من اختلف معه على صعيد الديانة والتوجه. كما أنّ مشاورته للثقة من أصحابه في أُمور كثيرة ومصيرية كما في حادثة حفر الخندق التي أشار بها عليه صاحبه سلمان الفارسي (رض)؛ تؤكّد على أنّ البناء الحقيقي للدولة لا يتم من خلال التفرّد بالقرارات فقدّم أُنموذجاً حضارياً لطريقة تعامل القادة مع الأتباع، وليس بهذا التعامل الحضاري أجدر من شخص قال فيه الله في كتابه العظيم: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم/ 4) في تجميل بلاغي رائع حيث لم يقل الله تعالى وإنّك ذو خلق عظيم فتكون مجرد صفة؛ بل قال (لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) و(على) هنا مسبوقة بلام التوكيد جاءت بمعنى الاستعلاء والتمكّن من الأخلاق الحميدة وإفشائها بين الناس لتكون دستوراً وضابطاً للتعامل بين أفراد البشر الذين يجب أن يهتدوا لتلازمية الإيمان والأخلاق.

ما أحوجنا اليوم إلى قراءة حقيقية متجردة وفاحصة لبُعْدي الأخلاق والحوار، بل وعدم الاكتفاء بالقراءة والرصد والتحليل، لنتعدّى لتطبيق هذين البُعدين عملياً في زمن يتيح بمستجداته الاتصالية المتسارعة مثل هذا التطبيق؛ لنقف بوجه أمواج الحروب والكراهية المستفيدة أيضاً من المستجدات الحديثة، فقد فعل ذلك محمّد بن عبدالله (ص)، ذلك اليتيم الأربعيني في ظروف عصيبة، فقد عاش احتراقاً.

من أجل الإنسان وقيمته، وأراد له أن يستفيق من خطر النوم والخدر على الأخطاء؛ لينطلق لعالم المعرفة والتفكير والتغيير. كان الحلم المائي يرسو على مقلتيه مُبتعداً عن رمال التخلُّف بينما يوفّر الغار الحراسة والطمأنينة الكاملة لهذا الأربعيني في مناجاة الحقيقة حتى أتته لحظة اليقين المذهلة: (اقْرَأْ)، كلمة كان مُستعداً لها ولعمق مدلولاتها، فأدرك أنّ لحظة البوح بالنبوءات المتعلّقة بأسرار الوجود قد حانت، وأنّه الآن بريدُ الله لإتمام رسالاته الجمالية والمعرفية. البريد الذي لن يصل بسهولة فأمامه التحدّيات ممثلة برموز التخلُّف والجهل والمصالح. احتشادُ الله في أجزائه كان كفيلاً بأن تنهار أمامه كلّ محاولات الإرهاب والترهيب التي تعرّض لها خلال فترة إيصال البريد السماوي القائم على أنسنة حقيقية تهطل غيومها بأمطار الهداية على الرمل فيتشجر الوجود على فكرة النبوّة الإنسانية، الفكرة التي حلَّقت بجناحي الأخلاق والحوار.►

ارسال التعليق

Top