قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/ 13).
تمهيد:
قال تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، والآية استئناف مبيّن لما فيه الكرامة عند الله سبحانه، وذلك نبّههم في صدر الآية على أنّ الناس بما هم ناس يساوي بعضهم بعضاً لا اختلاف بينهم ولا فضل لأحدهم على غيره، وأنّ الاختلاف المترائي في الخلقة من حيث الشعوب والقبائل إنما هو للتوصُّل به إلى تعارفهم ليقوم به الاجتماع المنعقد بينهم إذ لا يتمُّ ائتلاف ولا تعاون وتعاضد من غير تعرّف، فهذا هو غرض الخلقة من الاختلاف المجعول، لا أن تتفاخروا بالأنساب وتتفاضلوا بأمثال البياض والسواد، فيستعبد بذلك بعضهم بعضاً، ويستخدم إنسان إنساناً، ويستعلي قوم على قوم، فينجرّ إلى ظهور الفساد في البر والبحر وهلاك الحرث والنسل فينقلب الدواء داء. نبَّه سبحانه في ذيل الآية الجملة أعني قوله: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) على ما فيه الكرامة عنده، وهي حقيقة الكرامة.
شرح مفردات الآية:
- النَّاسُ: اسم للجمع من بني آدم، واحدة: إنسانٌ من غير لفظه، وقد يراد به الفُضلاء دون غيرهم، مراعاةً لمعنى الإنسانية، وفي التنزيل العزيز: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ) (البقرة/ 13). إذا راجعنا المعاجم اللغوية نجدها ذكرت استعمالات ومعاني متعدّدة لكلمة "الناس". فمن معاني الناس في اللغة الحركة. كقول أم زرع "أناسَ من حلي أذني" يعني: أنّ زوجها أكرمها بحلي حتى أنّ هذه الحلي قد ملأت أذنيها فأصبحت هناك حركة لهذه الحلي قالت: أناس يعني: ظهرت حركة من هذه الحلي. ومنها: النسيان. ومنها: الأنس لأنّ بعضنا يأنس ببعض. منها: الظهور البروز لأنّنا نبرز ونظهر، قال عزّ وجلّ عن موسى: (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا) (النمل/ 6)، يعني أبصرت ورأيت ناراً قد ظهرت.
- خَلَقْناكُم: هو إيجاد شيء على كيفيّة مخصوصة وبما أوجبته إرادته واقتضته الحكمة. والفرق بين الخلق والإيجاد والأحداث والإبداع والتقدير والجعل والاختراع والتكوين: أنّ النظر في الإيجاد إلى جهة إبداع الوجود فقط، وفي الأحداث إلى الإيجاد من جهة الحدوث وكونه حادثاً، وفي الإبداع إلى الإيجاد على كيفية لم يسبقها غيرها، وفي الخلق إلى كون الإيجاد على كيفية مخصوصة، وفي الاختراع إلى جهة الاشتقاق بسهولة، وفي التقدير إلى جهة التحديد وتعيين الحدود فقط، وفي التكوين إلى الإيجاد ومن جهة حالة الكون والبقاء إجمالاً، وفي الجعل إلى جهة إحداث تعلُّق وارتباط.
- جَعَلْناكُم: إضفاء حالة وهيئة وتقدير وصيرورة معيّنة على الخلق. ثانياً: تحويل المخلوق من هيئة لأخرى. فالمعنى المحصّل من الجعل هو ما يقرب من التقدير والتقرير والتدبير (ويجمعها تصيير الشيء على حالة) بعد الخلق والتكوين.
- شُعوباً وقَبائِلَ: الشعوب هو ما ينشعب من أصل نوع الإنسان، كالأسود والأحمر والأبيض والأصفر. الشعوب باعتبار الامتيازات الطبيعيّة الخارجيّة، والقبائل باعتبار الخصوصيات الحاصلة بالنسب، وهذه الامتيازات لا توجب فضيلة ولا شرفاً في مقاماتهم المعنوية. (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
- أكْرَمَكُمْ: الأصل في الكرم هو ما يقابل الهوان، كما أنّ العزّة ما يقابل الذلّة، والكبر ما يقابله الصغر. والذلّة هو هوان بإذلال مَن هو أعلى منه، بخلاف الهوان، فيعتبر في العزّة مفهوم الاستعلاء والتفوّق، بخلاف الإكرام.
- أتْقاكُم: وقى: كلمة واحدة تدلّ على دفع شيء عن شيء بغيره، ووقيته أقيه وقياً، والوقاية: ما يقي الشيء. واتّق الله: توقّه، أي اجعل بينك وبينه كالوقاية.
المعنى التفصيلي:
نفي التفاخر:
التفسير الأوّل: الآية مسوقة لنفي التفاخر بالأنساب، وعليه فالمراد بقوله: (من ذكر وأُنثى) آدم وحوّاء.
على التفسير الأوّل معنى الآية: أنا خلقناكم من أب وأُمّ تشتركون جميعاً فيهما من غير فرق بين الأبيض والأسود والعربي والعجمي وجعلناكم شعوباً وقبائل مختلفة لا لكرامة لبعضكم على بعض، بل لأن تتعارفوا فيعرف بعضكم بعضاً ويتم بذلك أمر اجتماعكم فيستقيم مواصلاتكم ومعاملاتكم فلو فرض ارتفاع المعرفة من بين أفراد المجتمع انفصم عقد الاجتماع وبادت الإنسانية، فهذا هو الغرض من جعل الشعوب والقبائل لا أن تتفاخروا بالأنساب وتتباهوا بالآباء والأُمّهات.
التفسير الثاني: وقيل: المراد بالذكر والأنثى مطلق الرجل والمرأة، والآية مسوقة لإلغاء مطلق التفاضل بالطبقات كالأبيض والأسود والعرب والعجم والغني والفقير والمولى والعبد والرجل والمرأة.
وعلى الثاني معنى الآية: يا أيّها الناس إنا خلقناكم من رجل وامرأة فكلّ واحد منكم إنسان مولود من إنسانين لا تفترقون من هذه الجهة، والاختلاف الحاصل بالشعوب والقبائل – وهو اختلاف راجع إلى الجعل الإلهي – ليس لكرامة وفضيلة وإنّما هو لأن تتعارفوا فيتمّ بذلك اجتماعكم.
1- قوله: (إنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ):
فيه تأكيد لمضمون الآية وتلويح إلى أنّ الذي اختاره الله كرامة للناس كرامة حقيقية اختارها الله بعلمه وخبرته بخلاف ما اختاره الناس كرامة وشرفاً لأنفسهم فإنّها وهمية باطلة فإنّها جميعاً من زينة الحياة الدنيا قال تعالى: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت/ 64). وفي الآية دلالة على أنّ من الواجب على الناس أن يتّبعوا في غايات الحياة أمر ربّهم ويختاروا ما يختاره ويهدي إليه وقد اختار لهم التقوى كما أنّ من الواجب عليهم أن يختاروا من سنن الحياة ما يختاره لهم من الدين.
2- قوله: (يا أيُّها النَّاسُ):
النداءات التي تكرّرت في الآيات السابقة كانت بلفظ (يا أيُّها الذينَ آمنوا) وفي هذه الآية الكريمة جاء الخطاب بلفظ (أيّها الناس). والسبب في تبديل الخطاب هو:
أوّلاً: هو تعقيب عام على هذه الأحكام وتلك الآداب، التي كانت خطاباً للذين آمنوا، ليرتّلوها، ويأخذوا أنفسهم بها.. وليس هذا فحسب، بل إنّ عليهم أن يراعوا هذه الأحكام وتلك الآداب مع غير المؤمنين.. مع الناس جميعاً، من كلّ أُمّة، ومن كلّ دين.. إنّها أخلاق إنسانية، يجب أن تكون طبعاً وجبلّة في المؤمن، يعيش بها في الحياة كلّها، ومع الناس جميعاً، فلا تكون ثواباً يلبسه مع المؤمنين، حتى إذا كان مع غير المؤمنين نزعه فإنّه بهذا إنما ينزع كمالاً خلعه الله عليه، ويتعرّى من جلال كساه الله إياه..
ثانياً: الخطاب هو للإنسانية جمعاء، فإنّ كلّ الناس لهم مرجعية واحدة وهم خلقوا من ذكر وأنثى ولا تفاضل بينهم من هذه الجهة أصلاً، وهذا يدلّ على الوحدة الإنسانية وهي قاعدة مهمة في فهم كلّ التشريعات الإسلامية فأنتم أيّها الناس – مؤمنين وغير مؤمنين – إخوة في الإنسانية. كما كان المؤمنون إخوة في الإيمان. بناء على هذه القاعدة فإنّ علاقة المؤمنين بغيرهم ينبغي أن تقوم على أساس هذه الوحدة الإنسانية، فلا يجوز أن يتعالى العرب على العجم منهم بلغتهم أو عنصرهم، لأنّ هذه العقيدة الجاهلية ستُشكّل حاجزاً دون دخول سائر الشعوب في دين الله.
تنفي العنصرية:
هذه الآية الكريمة تهدينا إلى الأمور التالية:
أوّلاً: إلى مشروعية هذه التقسيمات الطبيعية وأنّها – في الأساس – نافعة، وعلينا أن نُعيدها إلى طهرها، بعيداً عن كلّ ألوان العصبية والتعالي لنجني ثمارها الطيبة. وهذا ما يدعو إليه الإسلام كما جاء في النصوص الدينية من ضرورة صلة الرحم والتواصل مع العشيرة وما شابه ذلك.
ثانياً: أنّ التعارف بين الناس واحد من أهم مقاصد الشريعة الغرّاء، لماذا؟. لأنّه لولا معرفة الناس لما اكتملت حكمة الابتلاء في الخلق؟ أو لأنّ الابتلاء لا يتم إلّا بالحرّية والمسؤولية فلو اختلط الناس ببعضهم كيف يميز الصالح فيثاب عن المجرم فيعاقب؟ أم كيف تتراكم مكاسب المحسنين وتحصّن من أن يسرقها الكسالى والمجرمون؟ كلا. لابدّ أن يُميَّز الناس عن بعضهم تمييزاً كافياً ليأخذ كلّ ذي حقٍّ حقّه، فيشجعه ذلك على المزيد من العطاء، ويأخذ التنافس دوره في دفع عجلة الحياة قدماً إلى الأمام.
ثالثاً: إنّ حكمة الاختلاف هو التكامل – بعد التنافس على الخيرات – وليس الصراع والتطاحن، وقد قال ربّنا سبحانه: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة/ 2)، ومن دون التعارف كيف يتمّ التعاون، إنّ على الناس أن يكتشفوا إمكانات بعضهم ليتبادلوا الخيرات، أما إذا تقوقعت كلّ طائفة في حدودها الجغرافية أو الاجتماعية ولم يتعارفوا فكيف يمكن التعاون بينهم؟.
قيمة التسابق على العمل الصالح:
ونفهم من هذه الآية: إنّ التنافس على العمل الصالح والتسابق في الخيرات هو هدف اختلاف الشعوب، وإنّ لكلٍّ منهم شرعة ومنهاجاً، بل إنّ هذا الاختلاف والتنوّع مطلوب إذا كان وسيلة للتنافس البنّاء، والتعارف والتعاون، كما أنّ الاختلاف بين الناس في مجتمع واحد هدفه التسارع إلى الخيرات، والتعاون فيها، كذلك التفرع بين الشعوب والمجتمعات المتنوعة أليس يقول ربّنا سبحانه: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف/ 32). وإذا كان الهدف من هذا التنوّع التسارع في الخيرات، فإنّ أكرم الخلق عند الله من استبق إليها، فالأقرب إلى الصراط المستقيم، والأسبق في الصالحات هو الأكرم، لأنّه الذي يُحقّق الهدف دون غيره، وإلى هذه تشير كلمة التقوى.. أليست التقوى هي المعرفة بالله والعلم بشريعته، والاجتهاد في تنفيذها؟. وأصل الكلمة من الوقاية، أي التحصّن ضدّ أسباب الهلاك ولا تحصل هذه الوقاية من دون معرفة الطريق والاستقامة عليه، بعيداً عن أمواج الفتن، وضغوط الهوى ورياح الشهوات، لذلك كانت التقوى أرفع درجة من الإيمان، كما إنّ الإيمان أرفع درجة من الإسلام. وإنما رفع الإسلام قواعد المجتمع الفاضل على أساس التقوى، لأنّه من دونها تُمزّق العصبيات الجاهلية التجمّع البشري، ولا تدعه يتكامل، بل في كثير من الأوقات يتقابل مع بعضه، ويسير في طريق الهدم.
قال الله سبحانه: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (الفتح/ 26).
إنّ كلمة التقوى هي صبغة التجمُّع الإيماني ومحوره، وعماد تماسكه، ومبعث قوّته، بينما العصبيات الجاهلية هي صبغة سائر المجتمعات غير الإيمانية.. وحين حارب الإسلام هذه العصبيات استطاع أن يصهر المجتمع الجاهلي المتشرذم في بوتقة التوحيد، ويبني منه تلك الحضارة التي لم يشهد التاريخ لها مثيلاً.
وظيفة التقوى في الإسلام:
1- حقيقة التقوى: التقوى من الوقاية بمعنى: التوقّي. وفي عرف المتشرّعة يقصد بها: التوقّي من عذاب الآخرة، أو من غضب الرحمن، أو من الابتعاد عن الله تعالى أو ما إلى ذلك.
ويستفاد من مجموع الآيات القرآنية أنّ التقوى هي الإحساس بالمسؤولية والتعهُّد الذي يحكم وجود الإنسان وذلك نتيجة لرسوخ إيمانه في قلبه حيث يصدّه عن الفجور والذنب ويدعوه إلى العمل الصالح والبرّ ويغسل أعمال الإنسان من التلوّثات ويجعل فكره ونيته في خلوص من أية شائبة. وحين نعود إلى الجذر اللغوي لهذه الكلمة نصل إلى هذه النتيجة أيضاً لأنّ "التقوى" مشتقة من "الوقاية" ومعناها المواظبة والسعي على حفظ الشيء، والمراد في هذه الموارد حفظ النفس من التلوُّث بشكل عام، وجعل القوى تتمركز في أمور يكون رضا الله فيها.
2- مراتب التقوى: وقد قسّمها العلامة المجلسي (رض) إلى ثلاث مراتب:
- حفظ النفس من "العذاب الخالد" عن طريق تحصيل الاعتقادات الصحيحة.
- تجنُّب كلّ إثم وهو أعمّ من أن يكون تركاً لواجب أو فعلاً لمعصية.
- التجلُّد والاصطبار عن كلّ ما يشغل القلب ويصرفه عن الحقّ، وهذه تقوى الخواص بل خاص الخاص.
- واستظهر أن يكون المقصود بالتقوى في الروايات التي جعلتها فوق الإيمان وجعلت اليقين أعلى منها: المعنى الثاني؛ إذ لو كان المقصود هو الأوّل لمّا صحّ جعلها فوق الإيمان، ولو كان المقصود الثالث لأشكل الفرق عن اليقين وكون اليقين فوقه. ثمّ قال: لكن درجات المرتبة الأخيرة – أيضاً – كثيرة، فيمكن حمل اليقين على أعلى درجاتها، فيجتمع مع تفسير التقوى بالمعنى الثالث أيضاً.
نماذج من موارد التقوى في القرآن:
إنّ القرآن جعل التمايز الأكبر بين البشر هو للتقوى، وعدّها معياراً لمعرفة القيم الإنسانية فحسب!. والعناوين التي تحدّثت عنها الآيات عن التقوى كثيرة منها:
1- خير الزاد: عدها خير الزاد إذ يقول: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ) (البقرة/ 197).
2- اللباس: فقد عبّر عنها باللباس: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (الأعراف/ 26).
3- أسس الدعوة: كما أنّه عبّر عنها في آيات أخرى بأنّها واحدة من أوّل أسس دعوة الأنبياء.
4- نسبها الله إلى نفسه: ويسمو بها في بعض الآيات إلى أن يُعبّر عن الله بأنّه أهل التقوى فيقول: (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) (المدثر/ 56).
5- التقوى باب العلم: والقرآن يعدّ التقوى نوراً من الله، فحيثما رسخت التقوى كان العلم والمعرفة إذ يقول: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة/ 282).
6- التقوى والبر: ويقرن بالبر في بعض آياته فيقول: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة/ 2). أو يقرن العدالة بالتقوى فيقول: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة/ 8).
يعدّ القرآن كلّ عمل ينبع من روح الإيمان والإخلاص والنية الصادقة أساسه التقوى، كما جاء في وصفه في شأن "مسجد قبا" في المدينة حيث بنى المنافقون في قباله "مسجد ضرار" فيقول: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) (التوبة/ 108).
تلازم العمل والتقوى:
عن مُفضَّل بن عُمَرَ قال كنت عند أبي عبد الله (ع) فذكرنا الأعمال فقُلتُ: أنا ما أضعَفَ عملي فقال: "مَه استغفِرِ الله ثم قال لي إنّ قليل العمل مع التقوى خيرٌ من كثير العمل بلا تقوى، قُلتُ: كيف يكون كثيرٌ بلا تقوى؟ قالَ: نعم، مثل الرّجُل يُطعِم طعامه ويَرفُقُ جيرانه ويُوَطِّئ رحلَه" كناية عن كثرة الضيافة وقضاء حوائج المؤمنين بكثرة الواردين إلى منزله "فإذا ارتفع له الباب من الحرام دخل فيه فهذا العمل بلا تقوى ويكون الآخر ليس عنده فإذا ارتفع له الباب من الحرام لم يدخُل فيه".
وقد بيّن القرآن الكريم هذه الحقيقة وهي أنّ العمل يُتقبّل من المتقين، ومَن يسلب صفة التقوى لا يُقبل عمله قل أم كثر فلا عبرة بذلك قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة/ 27).
واعلم أنّ الصادق (ع) سُئل عن تفسير التقوى فقال (ع): أن لا يفقدك الله حيث أمرك ولا يراك حيث نهاك. وهذا هو بعينه قوله (ع) في أوّل الباب: ولكن ذكر الله عندما أحلّ وحرّم، فإن كان طاعة عمل بها، وإن كان معصية تركها. وهذا هو حدّ التقوى وهي العدّة الكافية في قطع الطريق إلى الجنّة، بل هي الجنّة الواقية من متالف الدنيا والآخرة، وهي الممدوحة بكلّ لسان. والمشرِّقة لكلّ إنسان، ولقد شُحن بمدحها القرآن، وكفاها شرفاً قوله تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) (النساء/ 131)، ولو كان في العالم خصلة أصلح للعبد وأجمع للخير وأعظم في القدر، وأنجح للآمال من هذه الخصلة التي هي التقوى لكان الله سبحانه أوصى بها عباده لمكان حكمته ورحمته، فلما أوصى بهذه الخصلة الواحدة جمع الأولين وآخرين واقتصر عليها علم أنّها الغاية التي لا يتجاوز عنها ولا مقتصر دونها.
الدروس المستفادة من الآية:
1- الذكورة والأنوثة والأعراق والقبائل وما شابه ذلك ليست مورد افتخار وتفاضل بين الناس "خلقنا، جعلنا".
2- إنّ الحكمة من خلق البشر مختلفين في الأجناس والأعراق والألوان واللغات هو التعارف لا التفاخر. (لِتَعارَفُوا).
3- إنّ الكرامة الظاهرية التي يكتسبها الإنسان في المجتمع من خلال بعض العناوين الاجتماعية هي زائلة لا محالة ولا ثبات لها، إنّما العبرة بالكرامة الحقيقية التي يكتسبها الإنسان عند الله تعالى ومدى قربه منه، (أكرُمَكُم عِندَ اللهِ).
4- القرآن الكريم لا يعترف بأي تميُّز عنصري أو قبلي أو اقتصادي أو ثقافي أو اجتماعي أو فكري أو سياسي بل يعتبر كلّ هذه الأمور وغيرها ليست مورداً للتمايز والتفاضل، إنما ملاك التمايز والتفاضل عنده هو التقوى، (إنّ أكرَمَكُم عِندَ اللهِ أتْقاكُم).
5- إنّ التمايز موجود في الفطرة الإنسانية والقرآن الكريم حدّد المسار التصاعدي لهذا التمايز الفطري بالتقوى، (إنّ أكرَمَكُم عِندَ اللهِ أتْقاكُم).
6- لا يمكن ادعاء التقوى لأنّه حالة باطنية تتجسّد بالأعمال الصالحة، لأنّ الله (عَلِيمٌ خَبِيرٌ).
ربط آية التقوى بالمحور:
إنّ المقطع السابق تضمّن المنهيات التي لا تتناسب مع أخلاقية المؤمن والمجتمع الإيماني، وهذه الآية الكريمة دعت إلى التقوى وجعلته المعيار الأساس للتفاضل بين البشر، وبيّنت أنّ أصل البشر واحد وهو الإنسانية، فترك المنهيات السابقة والعمل بما يوجب التقوى هو الذي يُجسّد الأخلاق في مجتمعنا الإسلامي وهذا ما دعت له سورة الحجرات في كلّ آياتها.
رسالة آية التقوى:
إنّ على الناس أن يتقرّبوا إلى الله تعالى كما يريد وذلك من خلال العمل الصالح في المجتمع وأن يسارعوا إلى عمل ما يُقرّبهم من الله تعالى وأن يعلموا أنّ الأساس في علاقتهم مع بعضهم بعضاً هو تقوى الله وأن لا يتفاخروا ويتفاضلوا بالأعراق والأجناس والألوان والتي لا قيمة لها عند الله تعالى لأنّ (أكرَمَكُم عِندَ الله أتقاكُم).
(خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) + (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) + (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) = التربية الأخلاقية للمجتمع. ►
المصدر: كتاب أسوار الأمان (صيانة المجتمع من الانحراف على ضوء سورة الحجرات)/ سلسلة الدروس الثقافية
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق