اعتنى الإسلام بتغذية الروح، بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الإنسانية، لقد وفّر الإسلام للأرواح أجواء المتعة والرفاهية، وأطلق لها العنان لتسبح في ملكوت الله وبديع صنعه، ولتنظر في عظيم قدرته، ولتجول في أنحاء التاريخ وتقلبات الأيّام، لتَسْتَسْلم لملكه وقدرته ولآلائه ونعمه سبحانه وتعالى، فتقر له بالعظمة والجلال والكمال، ولتعترف لذاتها بالقصور والضعف والإنكسار والذل، ولتعلم أنّه لا مقام لها في هذا الوجود إلا مقام العبودية لله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران/ 26).
إنّ الحج رحلة الروح إلى باريها وخالقها ومليكها، ولذا أضاف الله تعالى البيت الحرام إلى نفسه فقال عزّ وجلّ: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة/ 125).
وقال تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (الحج/ 26).
قال العلامة ابن القيم (يرحمه الله): "وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه، وسلبت نفوسهم حباً له وشوقاً إلى رؤيته، فهو المثابة للمحبين يثوبون إليه ولا يقضون منه وطراً أبداً، كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له حباً وإليه إشتياقاً، فلا الوصال يشفيهم ولا البعاد يسليهم كما قيل:
أطوف به والنفس بعد مشوقة **** إليه وهل بعد الطواف تداني
وألثم منه الركن أطلب بردّ ما **** بقلبي من شوق ومن هيمان
فوالله ما أزداد إلا صبابة **** ولا القلب إلا كثرة الخفقان
فيا جنة المأوى ويا غاية المنى **** ويا منيتي من دون كل أمان
أبت غلبات الشوق إلا تقرباً **** إليك فما لي بالبعاد يدان
(بدائع الفوائد: 2/281).
- التعرف على الأُمم:
إنّ الحج رحلة عظيمة في أعماق التاريخ؛ حيث يتجاوز الحجيج الحقب والدهور ماضياً ومستقبلاً ليتعرفوا على أُمم قد خلت وانتهت وانقرضت، ولكن بقي لنا منها الذكرى والعظة والإعتبار، ولتعرف البشرية من ذكراها مكانة طاعة الله والإنقياد لأمره، ووبال عصيانه ومخالفة نهيه.
من تلك الأُمم، أُمّة أبي الأنبياء إبراهيم (ع)، الذي جعل الله قصته ذكرى للأجيال إلى قيام الساعة، كما قال تعالى: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ) (الصافات/ 102-108).
فترك الله من تلكم الأحداث – فقط – ذكرى الطاعة والإستسلام والإنقياد لأمر الله، والتسليم الكامل لأمره سبحانه وتعالى.
- توافد الملايين:
وأُمّتنا اليوم حين يتوافد منها الملايين إلى تلكم البقاع الطاهرة والأرض المباركة، تُرى هل استسلمت لأمر الله فوحّدته وأطاعته وخضعت له واجتنبت نواهيه وزواجره؟ هل أغلقت أُمّتنا دور العصيان، وفتحت دور الإيمان؟!
بربك هل حُكمت فينا شريعة الإسلام وحنيفية إبراهيم؟ وأين أُمّتنا من تلكم السيرة العطرة في الإنقياد والإستسلام التي كان عليها أبو الأنبياء إبراهيم (ع)؟!
إنّ تطواف الحاج وتجواله بمكة وفجاجها، وطوافه بالبيت العتيق ووقوفه بعرفة ونحره الهدي ومبيته بمنى، كل هذه الأنساك، إنّما هي تذكرة للأُمّة بطاعة ربها، ودعوة لها للإستمساك بهدي ربها، والإلتزام بسنّة إبراهيم (ع) وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام في التوحيد الخالص والإنقياد الكامل لأمر الله عزّ وجلّ.
وفيها إشارة واضحة جلية أن دين الأنبياء واحد، وهو ما يجهله جل بني آدم اليوم، إلا من رحم ربي.
ولله در الشاعر عبدالرحيم البرعي حين قال:
يا راحلين إلى منىً بقيادي **** هيجتمُ يوم الرحيل فؤادي
سرتم وسار دليلكم يا وحشتي **** الشوق أقلقني وصوت الحادي
حرمتم جفني المنام ببعدكم **** يا ساكنين المنحنى والوادي
ويلوح لي ما بين زمزم والصفا **** عند المقام سمعت صوت منادي
ويقول لي: يا نائماً جد السُرى **** عرفات تجلو كل قلبٍ صادي
من نال من عرفات نظرة ساعة **** نال السرور ونال كل مرادِ
تالله ما أحلى المبيت على منىً **** في ليل عيد أبرك الأعيادِ
ضحوا ضحاياهم وسال دماؤها **** وأنا المتيم قد نحرت فؤادي
لبسوا ثياب البيض شارات الرضا **** وأنا الملوع قد لبست سوادِ
يا رب أنت وصلتهم صلني بهم **** فبحقكم يا رب فك قيادي
فإذا وصلتم سالمين فبلغوا **** مني السلام أهيل ذاك الوادي
قولوا لهم: عبدالرحيم متيمٌ **** ومفارق الأحباب والأولادِ
صلى عليك الله يا علم الهدى **** ما سار ركب أو ترنم حادي
حفظ الله حجاج بيت الله الحرام، وجعل حجهم مبروراً وسعيهم مشكوراً، ووفق المسلمين أجمعين استلهام دروس الحج والعمرة، وأنعم على الأُمّة بالوحدة والسلام والنصر والتمكين، والله من وراء القصد، والحمد لله رب العالمين.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق