◄نأتي إلى الدنيا ونحن نملك بُعدين: أحدهما حيواني، والآخر روحي نفسي.. فالبشرة والطول ودرجة الذكاء ومستوى المرح وصفاتنا الجسمية والنفسية وقابلياتنا الأُخرى موروثة ومحدّدة بطقم الجينات الوراثية للحيوان المنوي والبويضة الذين تشكّل منهما كلّ واحد منّا؛ ولكن ليست صفاتنا وقابلياتنا فقط هي التي نأتي بها إلى هذه الدنيا، وإنّما نأتي أيضاً بطقم من القيم الموحّدة المغروسة فينا جميعاً، والتي تشمل معرفة الله والتعلّق به وحبّه وعبوديته «الفطرة».
قال تعالى: (فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) (الرُّوم/ 30).
صفاتنا وقابلياتنا وفطرتنا ليست ثابتة، فهي تتغير، وتنمو أو تضمحل حسب حركاتنا وقراراتنا اليومية في عالم الدنيا.. فحركتنا في هذه الدنيا هي الأحرف التي ترسم صفاتنا النفسية من علم وإرادة وعزيمة وحكمة وحبّ وتقوى وجمال وخير وشجاعة ويقين، إلى آخر القائمة، التي نعجز عن تحديدها، لأنّ عالم الدنيا بطبيعته المادّية أقل من أن تظهر فيه جميع صفاتنا النفسية.
نأتي إلى الدنيا، بحاجاتنا الناشئة من كلا البعدين فينا: الجسد والروح، فنحتاج أن نأكل وأن نشرب وأن نلبس وأن نمرح وأن نحبّ وأن نفكِّر وأن نتعلّم وأن نتفاخر، وهلمّ جراً.
فنتفاعل مع الدنيا سعياً وراء سد هذه الحاجات، فندرس، ونبحث، ونصنع، ونكدح فيها، فنسد حاجاتنا، فتنشأ لدينا حاجات أُخرى، ونظل هكذا في سعي دائم منذ طفولتنا لسد هذه الحاجات التي لا تنتهي.
وفي جميع هذه المراحل أنت تواجه الكثير من المواقف اليومية، ويكون عليك اتّخاذ العديد من القرارات، وهذه هي التي تحدّد صفاتك وقدراتك، ومن ثمّ تشكّل وجودك وذاتك.
عندما تأتي للدنيا تملك رصيداً من مستوى الشجاعة ورثته من والديك، والآن في هذه الدنيا أنت تبني عليه، فإذا تعودت أن تأخذ مواقف خائفة، فأنت تكوّن في ذاتك الخوف إلى أن يصب الخوف جزءاً من كيانك النفسي، بينما لو اتّخذت مواقف شجاعة، فأنت تكوّن في ذاتك الشجاعة، إلى أن تصبح الشجاعة جزءاً من كيانك النفسي، وإن تضاربت مواقفك، فتارة خائفة، وأُخرى شجاعة، فأنت تزيد وتنقص من رصيد الشجاعة لديك وفق قراراتك ومواقفك.
والأمر نفسه يتكرّر مع جميع الصفات النفسية الأُخرى، كالعلم، والإرادة، والتقوى، واليقين، والحكمة، والحلم، وغيرها.
- بناؤنا النفسي:
إنّ التكامل الذي نسعى له هو تطوير ذواتنا، بجميع قيمنا ومَلَكاتنا الإنسانية معاً بانسجام وتناسب، لا تتخلف واحدة عن أُخرى، حتى تبلغ أعلى مستوياتها، وبحيث تتأصل وتستشري في عقلنا الواعي واللاواعي، وفي كلّ حركاتنا وسكناتنا، إلى أن تصير جزءاً منصهراً في بنائنا النفسي، ويستحيل انفكاكها عنه.
بناؤنا النفسي هذا – بما يمتلكه من مَلَكات وخرائط ذهنية – هو العدسة التي ننظر من خلالها للعالم، ونتفاعل معه على مستوى الحياة اليومية، فهو الذي يحدّد استجاباتنا بتلقائية في مختلف القضايا التي نواجهها، رغم أنّنا نستطيع بإرادتنا القيام بممارسات مغايرة لما تمليه علينا نفوسنا، سلباً أو إيجاباً.
ولهذا اهتمّ الإسلام أكثر شيء ببناء النفس، لدرجة أنّ الله ربط مساعدته للإنسان بقيامه بتغيير نفسه: (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرَّعد/ 11). كما نجد أنّ الرسول الأكرم (ص) قد أمر المسلمين بجهاد النفس، وأطلق عليها «الجهاد الأكبر» حرصاً لتحقيق النفس المطمئنة (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر/ 27-30).
من هنا أتى اهتمام الإسلام على تغيير خرائطنا الذهنية، وعقائدنا وجعلها إيجابية صحّية، تتسم بوحدانية العبودية لله عزّوجلّ، ونبذ جميع أنواع المشاعر السلبية، ومصادر الخوف والضعف، والقلق! (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) (البقرة/ 257).
- منهجية السير إلى الله تعالى:
إنّ النهج الذي وضعه الله لبناء النفس المطمئنة يكمن في ممارستك الإيجابية لحياتك اليومية في الدنيا من خلال الكدح فيها والسعي لزينتها من أموال وبنين وراحة مادّية ومعنوية، بما ينسجم مع الفطرة، وفق إرشادات الشريعة الإسلامية، واضعاً الله ورضاه وحبّه نصب عينيك في كلّ حركة منك وسكون. قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك/ 15)، وقال: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص/ 77).
هذا من حيث المنهج العام.. وأمّا تطبيقاته (الطُّرق الموصلة لله)، فهي بعدد أنفاس الخلائق، فكلّ إنسان له تركيبته الخاصّة من الاستعدادات والصفات التي ورثها، وتختلف بيئته المحيطة به والتحديات والأحداث التي يواجهها عن أي إنسان آخر.
إنّنا بممارسة الحياة بإيجابية ننضج ونكتسب الحكمة فنسمو وتسمو أخلاقنا وأرواحنا، فنحبّ الله، ونحبّ صفاته وجلاله وجماله، ونشعر بعبوديتنا تجاهه بسبب الفطرة المغروسة فينا، فنغدو أكثر إيجابية في الحياة، وممارسةً لعبوديتنا لله على مستوى التفاصيل اليومية، فنقابل مسؤولياتنا تجاه أُسرنا ووظائفنا ومجتمعاتنا وأنفُسنا والإنسانية كلّها بإيجابية، ويزداد حبّنا لكلّ البشر، ولكلّ المخلوقات، وبالتالي نزداد سمواً واستعداداً لقبول الأخلاق الفاضلة، وتزول الأدران من نفوسنا، فتزداد معرفتنا بالله، ويزداد عشقنا له، ولحبّه لنا، فنخشع، ونفنى فيه فلا نرى في الكون غيره (هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) (الحديد/ 3)، ونرى كلّ شيء من خلاله سبحانه، لاسيما عندما ندرك أنّنا تجلياته وخلقه، وأنّه يحبّنا ويعتني بنا فرداً فرداً.
كما أنّنا بممارستنا لإراداتنا وعزائمنا في حياتنا اليومية تشتد قدرتنا على مجاهدة أنفُسنا وتشكيلها كما يحبّ الله.
- الزُّهد:
إذاً فعزوفنا عن الدنيا، وتفرغنا للصلاة والصوم، إنّما يحرمنا من فرصة السمو بأنفُسنا وتزكيتها، وبالتالي القرب إلى الله سبحانه، فالهدف ليس هو أن تعيش حالة كمال الانقطاع إليه سبحانه وتعالى، وأنت في خلوة، وتتعبّد في محرابك! وإنّما الهدف أن تعيش حالة كمال الانقطاع إليه سبحانه وأنت تعيش معمعة الحياة بكلّ تناقضاتها وتحدّياتها، فتتفاعل معها، فتدفعها وتدفعك؛ لكنّك بالرغم من كلّ ذلك لا ترى غير ربّك، وغير عبوديتك له! في الوقت الذي لا تشغلك حالة الانقطاع هذه عن الحياة، وإنّما تدفعك إليها بإيجابية، وبطاقة إلهية تفوق كلّ تصوّر!
الهدف أن تعيش حالة الانقطاع وأنت تأكل وتشرب وتنام وأنت تدرس وتعمل، وتلعب مع أطفالك، وتمزح مع أصدقائك، وأنت تمارس حياتك اليومية بكلّ تفاصيلها، فلا يشغلك الانقطاع عن الحياة، ولا تشغلك الحياة عن الانقطاع، لأنّه ليس هناك من تعارض بينهما، فهما ليسا في عرض واحد، وإنّما في طول واحد! وممارستك للحياة وفق ما أمر الله، هي عبوديتك لله (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (الأعراف/ 32).
المطلوب هو أن تكون لديك طموحات وأهداف تريد تحقيقها في عالم الدنيا، ثمّ تكدح فيها بما أُوتيت من قدرات لتحقيقها وإنجازها. فليكن هدفك (إن شئت) أن تكسب المال من أجل أن تستمتع به وتوسّع على أهلك، وتسجل أولادك في أحسن المدارس وتسكن في بيت واسع ومريح وتقود سيارة من الطراز الأوّل. لا بأس بذلك ما دامت حركتك ضمن الإطار الشرعي؛ ولكن عليك ألا تقع أسيراً لهذه المتع واللذائذ، بل عليك أن تزهد فيها، فلا يؤثِّر عليك نفسياً إذا فقدتها، واضطررت أن تعيش الفقر؛ ولكن بحيث لا يؤدِّي عدم تأثرك إلى النيل من سعيك الإيجابي لتحسين ظروفك المالية؛ لكن ليست الدنيا وحسب هي التي يريدنا الله أن نستمتع بها من دون أن تأسرنا وتتحكّم بنا، وإنّما حتى أنفُسنا، فالله يريدنا أن نطوِّر أنفُسنا، وأن نحبّها ونرعاها؛ لكن بحيث لا تتحكّم بنا مطلقاً (إنكار ذواتنا لأجل الله)!
وبتعبير آخر، فالله يريدنا أن نفنى فيه سبحانه، فلا تكون لنا كينونة غير إدراكنا التام لعبوديتنا له عزّوجلّ.
- محاور حركتنا إلى الله:
لقد حدَّد الإسلام لحركتنا التكاملية إلى الله أربعة محاور متداخلة، بسلوكنا إيّاها بجدية واتزان وفق الفطرة وتعاليم الإسلام وإرشادات العقل نظل نقترب إلى الله إلى أن نصل إلى مرحلة العبودية المطلقة له سبحانه.
هذه المحاور هي:
1- السعي لإشباع حاجاتنا الجسمانية والنفسية بتوازن واعتدال.
2- تطوير الذات.
3- إنكار الذات لأجل الله من خلال غرس ثقافة العطاء، وحمل رسالة الخير والصلاح للبشرية جمعاء.
4- ذكر الله وعبادته.
لكن الله سبحانه لم يكتفِ بدفعنا نحو هذه المحاورة الأربعة نظرياً من خلال التشريعات، وإنّما أسّس العديد من الآليات والممارسات التي تقودنا نحو هذه المحاور، بل وقبل ذلك كلّه خلقنا وخلق الكون بالشكل الذي يقودنا تلقائياً إليه سبحانه وتعالى – ما لم يختر الإنسان بإرادته أن ينحرف عن درب الله – وهذا ما يُسمّى في الفكر الاسلامي باللُّطف الإلهي.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق