• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العلم والتغير الاجتماعي

د. زكي حسين جمعة

العلم والتغير الاجتماعي
◄تمثل المدرسة، مرحلةُ انتقال الطفل من مجتمعه المحلي الصغير (الأسرة) إلى مجتمع أكبر (المدرسة) تحوّلاً كبيراً في حياته النفسية والاجتماعية. فبعد أن كانت الأسرة ساحة التدريب الوحيدة للطفل، وبعدما كان الآباء مصدراً شبه وحيد لتعلم الطفل إستعمال اللغة بصورة جيِّدة، صار آباء كثيرون يعتقدون أنّ الأطفال الصغار سيفيدون إفادة كبيرة أكثر من قبل المدرسة، التي تستطيع أن تؤدي دوراً مؤثراً إيجابياً في شخصية الطفل، وأن تقوم بدور أكبر في عملية التنشئة الاجتماعية عن طريق تأديتها جملة من الوظائف.
ومع ذلك، فإنّ تقلص نسبة الأمية، في عدد من البلدان، يواجه صعوبات كثيرة منها موقف الأهل من تعليم الأبناء خصوصاً البنات، وإن توقع نجاح المدرسة في إستمالة أعداد أكبر من الأطفال يبقى وقفاً على تغير وجهة نظر الأهل أوّلاً، في ما يتعلق بهذا الأمر. فمع ما تحققه المدرسة من مساهمة فاعلة في عمليات التنشئة الاجتماعية، فإن أعداداً لا بأس بها من الأسر لا تزال تمتنع عن إرسال أولادها إلى المدرسة، لأسباب تتعلق بالمهنة والعمل والوضع الاجتماعي والاقتصادي للأهل.
تضع هذه الملاحظات الموقف من المدرسة في موضع الصدارة. في عمليات البحث والتخطيط لتطوير دور المدرسة في عمليات التنشئة الاجتماعية في غير مجتمع وفي عمليات تطوير النظام الاجتماعي والثقافي المعمول به. وقد يكون تناول موقف تنتهجه أسر معينة في مجتمع معيّن حيال المدرسة مدخلاً إلى تحليل وقع ثقافة هذا المجتمع وعمقه وأثره.
إنّ للموقف الذي تنتهجه أسر في مجتمع ما حيال المدرسة دلالة خاصة في إطار تبيان المدى الذي بلغه تبلور ثقافة المجتمع. ذلك أن ما ينبغي للمجتمع أن يمتاز به، لكي يستقل بثقافته، يتهيأ بهيئة أفراد المجتمع، ويتصور بتصورهم ووعيهم.
ما الذي يدفع الأهل للامتناع عن إرسال أولادهم إلى المدرسة (بعيداً عن البعد الاقتصادي وعن سياسة الدولة حيال التعليم)، مع أن تعليم الأولاد يوفر للأهل أموراً عديدة من مثل تأثر الآباء كثيراً بأي قسط من التعليم يحققه أطفالهم في سن مبكرة، وتأثرهم بشهادة أصدقائهم بشأن مكاسب أطفالهم من دخول المدرسة؟
سؤال قد تسهل الأجابة عنه بالنظر إلى خصوصيات المجتمعات التي تعيش فيها مثل هذه الأسر وفي خصوصيات هذه الأسر الثقافية.
فالطفل يمثل مستقبل الأسرة، قبل أن يمثل مستقبل المجتمع، وتنشئة الطفل ينبغي أن تفضي إلى تأدية دورٍ هام في تحديد هذا المستقبل، وهذا عنصر مهم في تحديد سلوك الأهل تجاه المدرسة.
وقد عرض د. مصطفى حديه بكتابه لاختلاف التنشئة الأسرية والمدرسية حسب المجال الذي تمارس فيه، وأنّ الطفل القروي المتمدرس تنمي التنشئة المدرسية عنده، بفعل اكراهاتها، نوعاً من المسؤولية الحادة، في حين نجد التنشئة الأسرية لهذا الطفل في المناطق النائية البعيدة، ونظراً لثقلها ولهيمنتها على التنشئة المدرسية، تخلق لديه تناقضاً وجدانياً بين القيام للالتزامات والمهام المدرسية أو الخضوع لها، وبين المشاركة في الأشغال اليومية الأسرية مثل الأعمال الحقلية والرعوية وغيرها، مع غياب عناية الآباء بالطفل ذاك.
وهكذا، فإنّ المناخ الثقافي والاجتماعي للأسرة يحضر بقوة في واقع عملية التنشئة الاجتماعية وحضور المدرسة التي ستساهم بقوة في عملية التغير الاجتماعي لموقع الأسرة ومواقع أفرادها الذين يحصلون على التعليم خاصة أنها:
أ- يمكن للمدرسة أن تعمل وتنجح في محو أثر بعض العادات والقيم التي اكتسبها الطفل من أسرته أو أنّه تدعم كثيراً منها، خصوصاً أنّ الطفل ما زال في مرحلة المرونة العقلية والطبائعية والنفسية.
ب- تستطيع المدرسة تعليم الطفل طرق التفاعل الإيجابي مع الآخر وتكوين علاقات اجتماعية مع الآخرين.
ج- يمكن للمدرسة أن تزيل، ومن خلال الأنشطة التربوية الهادفة، بعض ما يعلق في نفس الطفل من صراعات نتيجة لما يحصل في البيت، خصوصاً في حال وجود مشكلات بين الأبوين وتظهر أمام الأطفال.
د¬- يمكن للمدرسة أن تدرب الطفل على ممارسة العلاقات الإنسانية بطريقة منظمة ومخطط لها.
ويمكن القول إنّ المدة الزمنية التي يقضيها الطفل في المدرسة خلال اليوم أو الأسبوع والشهر والسنة إلى انتقاله منها، تمثل مرحلة متميزة تترك آثارها في نفسه، وتبرُز فيها لديه إمكانيات كثيرة كما تبرز فيها حاجيات ملحة (كالعلاقة مع الأصدقاء)، مقابل مناخ اجتماعي أكثر محدودية داخل الأسرة.
تنشئ المدرسة أمكنة متباعدة من جسم الأسرة، ومختلطة، يتيح تباعدها واختلاطها غربة فعلية ينشأ عنها تعارف جديد ومتغير. وإذا نشأ مثل هذا التعارف، كان عليه أن يجد متسعه ومرتعه خارج البيت وبعيداً منه. ومعنى ذلك، أنّ الأطفال الذين يرتادون المدرسة، يبتعدون نسبياً من الأهل، مجازاً أو حقيقة، نفسياً أو فكرياً أو مادياً، لكن، ومع ذلك كله، لا تنتزعهم المدرسة من نسبتهم وانتمائهم إلى الأهل.
عادة ما توفر المدرسة مجموعةً من الشروط التي تساعد الطفل في الابتعاد عن كل ما يعوق نموه جسمياً وعقلياً واجتماعياً وانفصالياً، وتزويد الطفل بالخبرات اللفظية والحركية والعقلية والاجتماعية ومحو أثر القيم والعادات السيئة التي يكون الطفل قد تعلمها في أسرته قبل الذهاب إلى المدرسة.
وهذه الشروط هي:
أ- عدم التركيز على تلقين المعلومات فحسب، وإنما يجب التركيز على تنمية شاملة للطفل (عقلياً، جسدياً، إنفعالياً وإجتماعياً).
ب- التركيز على التلميذ وليس على المنهج.
ج- مراعاة أن يكون الجو الاجتماعي في المدرسة هو الجو الأسري.
وفقاً لذلك، نصبح أمام ضرورة حضور المدرسة بوصفها مؤسسة إجتماعية، تسهم في تنشئة الفرد بشكل منظم وهادف.►

المصدر: كتاب (مساهمات في التنشئة الاجتماعية)

ارسال التعليق

Top