• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المراهقة والشباب وعلم النفس التحليلي

رينيه دياتيكن/ ترجمة: د. غسان السيد*

المراهقة والشباب وعلم النفس التحليلي
◄إنّ الطب النفسي والتحليل النفسي يشكلان موضوع عدد من الأبحاث التي كتبها مختصون في علم النفس المرضي، لهذه المرحلة من الحياة. إنّ صعوبات التكيّف، واستعدادات الاكتئاب، وظهور أشكال مرضية خاصة، والتهميش، والإدمان على المواد السامة، هذا كله يسوّغ بشدة هذا الاختصاص. إنّ مهمة مركز ألفريد بينيه هي دراسة الأطفال من دون تحديد للعمر، ويندرج نشاطه ضمن كادر الصحة العقلية في الدائرة الثالثة عشرة. الفتوة (المراهقة) هي الموضوع الأساس بالنسبة إلى كل من يشتغل في هذا المركز، ولدراسات الطفل غاية مزدوجة: فهي تهدف، من جهة، إلى الحصول على تغيّر مباشر، يساعد على التخفيف من الألم، والضيق، والكبت، والمصاعب في العلاقات الحالية، وتهدف، من الجهة الأخرى، إلى إعطاء الشخص بعض الوسائل النفسية الإضافية كي يواجه التغيرات الحتمية التي ستواجه المراهق في يوم من الأيام، ضمن أفضل الشروط. وفيما وراء هذه المرحلة من التغيرات، من المؤكد أنّ هذا البحث يهدف إلى متابعة دخول المراهق مرحلة الشاب اليافع. ضمن النظرية النفسية التحليلية، يطرح هذا الاهتمام المستقبلي التحليلية، يطرح هذا الاهتمام المستقبلي مشكلة، على الرغم من مشروعيته. إنّ الوصف المرحلي الثنائي للتطور النفسي – الجنسي الذي تواصل في (ثلاث دراسات حول النظرية الجنسية) لفرويد (1905)، هو الاستخدام الأوّل لنموذج من العمل النفسي في زمنين، والذي يبقى نموذجاً من التفكير الأساس في التحليل النفسي. وجاء زمن ثانٍ، محدد جزئياً بفاعلية التجارب السابقة. لقد أعاد تنظيم الأطر النفسية التي تركتها هذه التجارب. إنّ تحليل تناقضات الحياة الجنسية عند المراهق التي تسمح بالتعرف على الحياة الجنسية الطفلية. يفرض هذا المنطق من التطور فاصلاً، وزمناً وسيطاً بين المرحلتين غير واضح. وهكذا تشكل مفهوم (مرحلة الكمون)، وقد احتفظ هذا المفهوم بكل معناه في الفهم النفسي التحليلي للمرضى اليافعين. يعالج المحللون النفسانيون في مركز ألفريد بينيه أطفالاً، القسم الأكبر منهم تجاوز (زوال عقدة أوديب). وهم مازالوا بعيدين عن التغيرات الجسدية لسن البلوغ، ومع ذلك، لا يبدو عليهم أنهم قطعوا مرحلة هدوء بين مرحلتين عاصفتين، سواء كان نموهم مناسباً أم غير مناسب. ومع أنّه لا يوجد انقطاع بين الوظيفية العقلية الحالية، وبين المراحل السابقة، فإنّ الكبت فعل فعله في التسبب في تغيرات بنيوية، من دون أن تتوقف الصراعات والإبداعات النفسية. إنّ تطور لعبة التصوير والترميز يبقى خاضعاً لاستقصاءات دقيقة مرتبطة بعود المكبوت. إنّ هذه المرحلة الوسيطة هي اللحظة التي تظهر فيها أشكال عدة من القلق، من الصعب غالباً. تفسير معناها ومصيرها: هل هي لحظات من الضيق ضمن نمو شامل مقبول. أو هي مؤشرات على معناة لا تنتهي إلا بعلاج خاص؟ بعيداً عن المناقشات النظرية بين أولئك الذين يستلهمون ميلاني كلاين، إنّ التنبؤ بما ستكون عليه مراهقهم هو زمن جوهري من أجل تأسيس استراتيجية مناسبة. إنّ دراسة الأطفال قبل الدخول في المراهقة تنظم "زمناً ثانياً" لما جرى حتى هذا الوقت، ولتناقضات التوظيف، والآليات الدفاعية التي ترتبط بها، سواء تعلق الأمر بالكبت، أم بالنكوص، أم بأي تطور آخر يخفف من الإثارة الداخلية. يشارك المحلل النفسي للطفل بحركة تشبه التحويل في التحليل النفسي عند البالغين. إنّ "عصاب التحويل" هو، إذا استخدمنا مصطلح فرويد، نتاج جلسة معالجة، بعد انقضاء ما نظم حتى هذا الوقت، بما في ذلك المراهقة، إذا تعلق الأمر بإنسان بالغ، وتستبعد المراهقة إذا تعلق الأمر بطفل، ولكن عندها يحمل هذا العصاب شبهاً فعّالاً واقتصاديّاً مع المراهقة المستقبلية، من خلال الإثارة الداخلية التي يتعرض لها الشخص الموضوع. تقود ممارسة جلسات المعالجة مع الأطفال إلى توسيع دائرة التجارب المرحلية الثنائية، إما كزمن أوّل لا نفهم معناه إلّا بعد فوات الأوان، أو كزمن ثان يعاد فيه تمثيل كل ما جرى مع الطبيب المعالج، بالنسبة إلى الأحسن أم بالنسبة إلى الأسوأ. يتعلق الأمر دائماً بأحداث نفسية أو بلقاءات سمحت للشخص الموضوع بتجنب الإنقطاعات في الاستمرارية، إما من خلال التفسير أو من خلال أخذ الحياة النفسية للطفل بعين الاهتمام، أو من خلال عون يساعده في تجاوز كبت، أو يجد في نفسه إمكانية التصور، أو الفعل الذي لا يعرفه في نفسه. (أفكار هنا بصورة خاصة بالتأثيرات الداعمة الممكنة لعلاجات اللغة). إنّ مواجهة المراهقة قبل حصولها ليس، إذن، تمريناً خطراً، وليس نشاطاً خيالياً، تسقط القسم الأساس منه استيهامات الطبيب المعالج. إنّ هذا النشاط بناء يشبه بناء الأطباء النفسانيين الذين يعيدون تشكيل المراهقة التي مرّ بها مرضاهم، كي يكتشفوا معنى مشكلاتهم الحالية. على الطفل الذي نفحصه أن يتخلى جزئيّاً، في مستقبل قريب إلى حد ما، عن منظومة قيمه القديمة، وأن يحقق رغباته بطريقة جديدة، والتعرّف على انكسارات جديدة. سيعالج هذا الوضع بوسائل نفسية تتشكل خلال هذه المرحلة التحضيرية، تسمح بالانتقال من الإشباع الخيالي للرغبة إلى التمتع بالرغبة. تثير الاستشارة أو جلسة معالجة نفسية تحليلية، الغريزة الجنسية، أو تحيين القلق من الموت، من خلال مواجهة الطفل بشخص بالغ فقط. تسبب هذه الحركة تفعيل الآليات التي تجلب الهدوء عبر التوظيف الفرعي للآليات النفسية، أو أنها بالعكس، تسبب الاضطراب، والنكوص، والانكسار. يعطي التكهن بالمراهقة معنى للاضطراب الذي ينظمه كل نشاط عيادي، أو علاجي، من دون أن يكون هناك ضرورة للعودة إلى صور جاهزة حول التصرفات الاجتماعية للمراهقين. يتحدث البالغون عن المراهقين، غالباً، بإطلاق تعميمات لا تنطبق بسهولة على ضيقهم، لأنّهم لم يكونوا (ومازالوا) غير مطلعين على مراهقتهم الخاصة بصورة كافية. بعضهم يطابق بينه وبين هؤلاء المراهقين، فيحرمهم من تجاربهم الأكثر أصالة، وآخرون يقللون من شأن اضطرابهم، وينظرون إلى قدراتهم الخيالية الأكثر إبداعية كأخطاء في الحكم، ونزوات. على الرغم من التغيرات الظاهرة، تتحول التجارب الحيّة للطفولة إلى المراهقة، لكي تبقى وتعطي معناها الشعري لحياة البالغين، ضمن الحماسة أو الحنين، والسعادة أو الكآبة. لنذكّر الآن بالطريقة التي يأتي فيها المراهقون إلى مركز ألفريد بينيه. عولج بعضهم في هذا المركز منذ الطفولة، ومازال هؤلاء يراجعون أطباءهم النفسيين، أو معالجيهم الذين استطاعوا أن يحددوا بدقة تغيراتهم النفسية خلال مرحلة المعالجة. إنّ مثال المعالجات النفسية يوضح ما أقصده "بالتحديد الدقيق". يعبر المريض عن نفسه، في مرحلة الطفولة، بواسطة الألعاب أو الرسم، مما يسمح له، على كل حال، بإعداد موقف متوازن مع طبيبه النفسي. سيأتي وقت يتوقف فيه اهتمام المريض بهذه الطرق من التعبير لأنها تبدو له أشكالاً طفولية، في حين أنّه في كل سنة، وقبل البلوغ والمراهقة، ينتابه إحساس، أو على كل حال، رغبة في قلب الصفحة وبدء حياة جديدة. إذا نال موقف المعالج وملاحظاته اهتمام المريض، وجعله يكتشف جوانب جديدة من ذاته، فإن هذا الحكم على ما قدمه "عندما كان طفلاً" لا يسبب قطيعة مع معالجة. تمر المعالجة أحياناً بأوقات صعبة، ولكن، في النهاية، المريض يتكلم، ويوسع دائرة خطابه، ويبدأ في العودة إلى "فضائه الداخلي الحميم". عندها بعد التحليل النفسي، أو المعالجة النفسية للمراهق تأتي معالجة الطفل، يستند المريض إلى ما جرى معه خلال السنوات السابقة، ويبدأ، فجأة في التساؤل حول هذا الموضوع. ولكن الأمور، لسوء الحظ، ليست دائماً بهذا الشكل. إن أحد الاهتمامات الحالية لمركز ألفريد بينيه هو التعرّف على مخاطر هذا الانتقال الصعب من مرحلة إلى مرحلة أخرى. قالت فتاة عمرها خمسة عشر عاماً أتت، بإرادتها، لتراجع الطبيب الذي عالجها في طفولتها: "لم أفهم كل ما جرى بيننا". "ولكن ما حصل أنّه منذ ذلك الحين، ما قلناه جعلني أفهم، بصورة أفضل، أن أفراد أسرتي هم صلاتي مع الآخرين. ولهذا السبب جئت ثانية". أظهرت خلال المحادثة التي جرت، أنها تتذكر بدقة رسوماتها الأولى، وبنت، بطريقتها، التفسيرات التي أعطيت لها قبل أربع سنوات. قال شاب بالغ مكتئب ومهمّش: "لا أتذكر أي شيء من طبيبتي النفسية في مرحلة الطفولة". "لا أرى إلّا باب بيت الشخص الذي كنت أذهب إليه، ولديّ إحساس أنني، خلال أربع سنوات، رسمت له الرسم نفسه دائماً، وكان يقول لي إنّه رسم جيِّد". وخلال المراحل الحادة من مراهقته، وكان تلميذاً ذكياً حتى ذلك الوقت، توقف عن ممارسة أي نشاط، وغرق في مرحلة كآبة تشهد على معاناة لا جدال فيها، ولم تخطر على باله قط فكرة مراجعة طبيبته النفسية القديمة. إن تفسير هذا النسيان من خلال الكبت، ليس موضع شك، ولكن من الممكن، اليوم، عدم الاكتفاء، هنا، بهذا الظرف الشامل. إنّ الرغبة في مراجعة المعالج النفسي لمرحلة ما قبل المراهقة لا تهم إلّا المحللين النفسيين. يمكن لبعض اللقاءات الجديدة أن يكون لها تأثيرات حاسمة بعد إعادة تأهيل، أو بعد تجارب مؤسساتية. بعض المراهقين يستشيرون مركز ألفريد بينيه للمرة الأولى. إنّهم يريدون التحدث إلى شخص ليس أستاذاً، أو قريباً، وقرروا أن يأتوا لرؤيتنا لأنهم يعرفون طفلاً، أو مراهقاً تمّت متابعته عندنا ولم تكن هذه الحالات هي المقلقة أكثر. تظهر طبيعة طلبهم أنهم مستعدون لقبول لعبة التناقضات التي تثيرهم، في حين أنّ الاتجاهات المرضية النفسية العابرة، أو التصرفات العدوانية الذاتية تترافق، غالباً، بإنكار لهذه الصراعات النفسية الداخلية. ولهذا يجب عدم الاستهانة بأي إشارة على خطر الانهيار. تأسس فريق، بإشراف آلان براكونييه Alain Branconnier، مهمته التفرغ الكامل لتقديم استشارات سريعة للمراهقين. وهذا ليس عملاً مزدوجاً، لأنّه من الضروري أن تتعدد طرق الدخول، وأماكن الاستقبال. إنّ هذه الوحدة التخصصية مشتركة بين أقسام البالغين، وأقسام الأطفال. المراهقة مرحلة انتقالية، ويمكن أن تشكل شاشة أخرى، يجب، من خلالها، إعادة بناء مرحلة الطفولة. إنّ تاريخ الكائن البشري لا يبدأ عبر انقطاع مرحلة المراهقة. وكما قلت سابقاً، يظهر الفراغ العاطفي لمرحلة الكمون، بعد المراهقة. في الواقع، إنّ المرضى الراشدين المصابين بالفصام الشخصي، والذين يحتاجون إلى عناية طبية، ومساعدة لوقت طويل، يبدو أنهم فشلوا في مراهقتهم. إن عدم الفهم الظاهر للبالغين الذين كانوا يحيطون بهم، يمكن أن يفيد في التفسير. إن إنكار الحياة النفسية للمريض الداخل في سن البلوغ، هو نتيجة الحركة الأولى التي يساعد على إعادة بنائها العمل المشترك للمحللين النفسيين للبالغين وللأطفال. ما هو القسم الذي يبرز في المراهقة، وما هو القسم الذي سيبرز، والذي برز فيها؟ هل النموذج المستخدم من قبل بعضهم، قابل للاستخدام من قبل أولئك الذين يواجهون هذه الأزمة من زاوية مختلفة؟ إنّ الرغبة في التوقف عند المراهقة حاضرة في ذهن كل واحد، ولكن زيارة لموز Moses، ولأيغل لوفير Egle Laufr، في مركز ألفريد بينيه، عام 1987، سرّعت من الحركة. ومثلما نعرف، فإن تجربة هذين المحللين النفسيين من الجمعية البريطانية للتحليل النفسي، قدمت توضحاً جديداً حول الاستعدادات اللاواعية عند المراهقين. ينتسب هذان العالمان إلى مجموعة تلاميذ آنا فرويد Anna Freud، وقد استطاعا أن ينظما شروط معالجة استثنائية. وبفضل مؤسسة تمنح مساعدات مالية لمعالجة المرضى الشباب، فإنّ هؤلاء المرضى يستطيعون القيام بجلسات تحليل نفسي عن محللين أصحاب خبرة، ضمن شروط طبيعية في المراجعة (خمس جلسات بالأسبوع)، يجتمع المحللون النفسيون بانتظام من أجل مناقشة هذه الجلسات فيما بينهم. يصف موز وأيغل لوفير المرضى الخاضعين للمعالجة ضمن هذه المجموعة بأنهم يعانون من صعوبات تتمحور حول قبول، أو بصورة أدق، حول رفض الشكل الجديد الذي اتخذه جسدهم الجنسي. وتذهب القائمة من الهذيان الصوفي "بروز جسد جديد"، إلى محاولات الانتحار، والتشويه الذاتي، وانعدام الشهية والهزال، والاضطرابات النفسية، والصمت، والإنطواء على الذات، أو الأزمات التدميرية. هناك نقطة أساسية في موقفهما، بدت لنا، في البداية، مغرية جدّاً، وهي أنهما يعدّان مسألة معرفة إذا كان هؤلاء المرضى مصابين، أو غير مصابين، بالفصام الشخصي، غير مجدية. كان موز لوفير يقول، غالباً، وهو يستشهد بـ جيلسبي Gillespie، إنّ مشكلة الذهان، في المراهقة، بوصفه نوعاً تصنيفياً مرضياً، هي مسألة تكهن أكثر مما هي مسألة تشخيص. لقد أكد موز وأيغل لوفير، بصورة خاصة، على الانكسار الذي تسببه، عند هؤلاء المرضى، التغيرات الجسدية المرتبطة بالبلوغ، وعلى الاستيهام المركزي المرافق للعادة السرية. يقدم إسهام هذين العالمين وفريقهما فائدة واضحة، من خلال شروط تجربتهما نفسها. وفي الوقت نفسه، أدخلنا هذا الإسهام في حيرة واضحة على صعيدين: 1-    إنّ شروط العمل، في مركز ألفريد بينيه، مختلفة، بصورة انتقائية، وإذا كان كثير من المحللين النفسيين أصحاب الخبرة يعملون فيه، فإن إمكانية القيام بجلسات تحليل نفسي تشبه من حيث الشكل الجلسات التي ينظمها زملاؤنا في لندن، هي إمكانية استثنائية. ومن جهة أخرى، إذا كان كثير من المراهقين يطلبون مساعدتنا، فإنهم غير مستعدين، في المقابل، القيام بجلسة تحليلية، ومبدؤنا ليس الاختيار، مثلما يستطيع أن يفعله محلل نفسي في ممارسته الخاصة، وعليه القيام بذلك. ولأنّ هذه المسألة طرحت، ما هو مكان فرضيات هذين العالمين ونتائجها ضمن عملنا الخاص الذي يتشكل من أنواع عدة من التدخلات النفسية العلاجية؟. 2-    يعود المستوى الثاني من النقاش إلى وجهة نظرنا في الإختصاصيين بالطفولة. يشير وصف العالمين موز وأيغل لوفير إلى أهمية انقطاع البلوغ، إن ما نفهمه من هذا أكثر، هو أنّ الجداول العيادية التي يعتمدان عليها، بصورة أساسية، خاصة بالمراهقة، مهما كان الحدس على المدى المتوسط، والطويل. إنّ ما قيل سابقاً عن وجهة نظر المحلل النفسي للأطفال، الذي يعد أنّ المراهقة هي الأفق التي تسقط عليها صور التوازنات غير المستقرة التي تتشكل منذ عقدة أوديب، إلى التشكلات الجسدية المتعلقة بالبلوغ، يتطلب نقل مفهومات العالمين موز وأيغل لوفير إلى منظومة أخرى من الإحداثيات. إنّ تتابع هذه الإسقاطات مهم جهداً بمقدار أهمية تشكّل الخطط التي تقوم عليها، في حين أنّه في نهاية الأمر، تدخل انقطاعات المراهقة مفهوم مرحلة الكمون التي تظهر فيها، جانبيّاً، الجنسانية الطفلية. إنّ قصة استشارة حديثة ستسمح لي، بتوضيح أفضل لطريقتنا في مقاربة المراهقة. يتعلق الأمر بالاستشارة الأولى. حضر أب وأم برفقة ابنهم الصغير آبيل. عمره سبعة عشر عاماً، وهو في المرحلة الإعدادية فقط. بدأت أموره تسوء، منذ سنتين، على كل الصعد. يشتغل آبيل بعناء، ونتائجه المدرسية من سيئ إلى أسوأ، لم يعد يهتم بشيء، إنّه حزين، ومعزول، ولم يعد يتكلم تقريباً، كما أنّه فقد اصدقاءه. علمت أيضاً أنّه يتناول عقاقير نفسية، منذ أكثر من سنة، وبكميات تدل اليوم على ارتباك المعالجين. وكان الدواء، في البداية، مضاداً للاكتئاب، ثمّ مهدئاً للأعصاب. ولم يكن لأي من الدوائين أثر حاسم، ولكن لم يجرؤ أحد على توقيفهما. اليوم، آبيل منهك جدّاً، وليس في استطاعتي أن أعرف إذا كان هذا بتأثير الأدوية، أو بتأثير مشكلات نفسية. يشتغل الأب أعمالاً حرة، والأُم ربة منزل. يرتجل الأب كلاماً، وهو يحدثني عن نظريات التربية، في حين أنّ الأُم تكتفي بموافقته رأيه. لقد قدما ليعرفا رأيي، وأنا أشعر بضيق شديد كوني لا أستطيع قول كلمة واحدة. في الواقع، لقد كانا مهتمين بالحياة المدرسية لآبيل، عبر السؤال عمّا يجب فعله إذا لم يقبل في الأوّل ثانوي، السنة القادمة. كان الأب يتحدث عن نفسه، بصورة خاصة، وعمّا قاله لابنه، وعن وسائل الضغط التي استخدمها كي يحث ابنه على العمل. وفجأة علمت أنّ الابن البكر كان يحظى، باستمرار، برضى والديه، وأنّه دخل مدرسة عليا منذ وقت قريب، وعندما طلبت إليهما، كيف كان ولدهما قبل هذا الانهيار الواضح، فأجابني الأب والأُم بأنّه حتى السنة الثالثة، في المدرسة، لم يكن هناك مشكلة، إنها النغمة نفسها تتكرر بصورة مملة كلما بدا عليّ الاهتمام بشيء آخر غير الحياة المدرسية وجرعة الأدوية. عرفت فقط أنّه في المدرسة الابتدائية، قدمت نصيحة لهم بأن يعاد تأهيله ليلفظ الكلمات بصورة صحيحة لمدة امتدت على أربع سنوات، ولكنه، مع ذلك، لم يتوقف عن ارتكاب الأخطاء في الكتابة والهجاء. لا يعرف الوالدان شيئاً آخر عن هذه المرحلة. في المرحلة الأولى من اللقاء، كان يبدو على آبيل البؤس الشديد، والانطواء على نفسه، كان يبدو غائباً تماماً. بعد ذلك، بقي آبيل وحيداً معي. كان بعيداً جدّاً، في عالم آخر. وكي أقطع الصمت، قلت له إنني أجد بائساً ما سمعناه سوية، أنا وهو، ولكن عليه أن يكون قد تعودّ على هذا كله. فرد عليّ مباشرة: "نعم، الشيء الأساسي، بالنسبة إلى والديّ، هو الدراسة باستثناء ذلك، لم يهتم والدي بأي شيء قط". وبعد قليل من الصمت، تابع: "أمي، لا أعرف.. أعتقد أنني كنت، دائماً، حزيناً". لقد عانيت من الصعوبات التي واجهتها عند تعلّم الكتابة. عندها سألته عمّا جرى معه عندما كان في المدرسة التحضيرية. أجابني بأنّه كان يعرف القراءة قبل أن يدخل السنة التحضيرية، وكان والداه سعيدين جدّاً لهذا. ثمّ بدأت بعض الصعوبات أمام النصوص المكتوبة، وبدأ يعاني من قلق خفي لا يعرف سببه أوصله إلى كره حقيقي للقراءة. في المقابل، لم يحتفظ بذكرى جيدة أو سيئة من إعادة تأهيله في الكتابة والقراءة. وكان غيرَ أستاذ اللغة مرات عدة، ولا يستطيع تذكر أي اسم من أسماء هؤلاء الأساتذة، ولا يعرف السبب. لم يهتم قط بالقصص الخيالية، التي كان يفك رموزها منذ وقت طويل دون صعوبة، ولكنه لم يدخل إليها. ولم يكن يجد هذه الصعوبة في كتب العلوم، ولا في التمرينات القصيرة التي كان يحللها من دون صعوبة. أصبحت الصعوبة مزعجة في مدرسته عندما انتقل إلى الصفوف العليا، واشتداد هذا الفشل، الذي لم يكن يتوقعه هو والأساتذة والعائلة، أثّر فيه وعجل من إحساسه بأنّه غير محبوب. له رغبة قوية في الانعتاق، والعيش لوحده بعيداً عن عائلته، ولكنه ما إن يبتعد أياماً قليلة عنها حتى يصبح قلقاً ومتوتراً. كي لا تصبح هذه الاستشارة "خارج المركز"، والتي تتعلق بعائلة تسكن بعيداً عن باريس، عديمة الفائدة، شرحت لهم ما فهمته حتى هذا الوقت، وهو الصعوبة التي يجدها كل فرد منهم في فهم ما يمكن أن يحدث في الحياة النفسية للآخر. في دخيلتي، كان تدخلي يهدف، خاصة، إلى الخروج من هذه الحلقة المفرغة: إنقاص المشكلات المدرسية، أو تأكيد السمة المرضية لتصرفات آبيل، وهي حلقة مفرغة يتخبط فيها الوالدان منذ أن استشارا طبيباً نفسياً لأوّل مرّة. أثارت ملاحظتي، الثانوية جدّاً في مضمونها، عرضاً جديداً للموقف، واتخذت أزمتهم منحى آخر أصبح واضحاً. خرجت الأُم من سلبيتها وهاجمت الزوج بعنف. إنّه لا يهتم إلا بنفسه، وبحياته المهنية، ولم يكن مستعداً قط للاهتمام بعائلته. لقد كانت لديه آراء قطعية لا تقبل النقاش حول كل القضايا إلخ. أصبح الزوج، في هذا الوقت، قلقاً ومتوتراً، ونظر إليّ نظرة عتاب، وكأنّه يريد أن يقول لي "هل ترى الآن كيف تسير الأمور حقيقة؟" عاد آبيل إلى وضعية الشرود الكامل. وكي أنتهي، وأخرج من حالة الإحساس المزعج الذي انتابني، اتخذت موقف الناصح، ورفضت بشدة الحلول التي اقترحها الأب في بداية الاستشارة، خاصة ما يتعلق منها بدخول آبيل في مدرسة من المدارس الثانوية الفرنسية في الخارج، وعندما جاءت لحظة الاستراحة، أبدى ثلاثتهم الرغبة في عدم التوقف عند هذه المرحلة، وفي رؤيتي من جديد كي نتابع هذا النقاش الصاخب. بعد هذا القرار، ومنذ عدة أشهر، يأتي آبيل ووالده لرؤيتي في استشارات متباعدة. إن ما يبدو لي اليوم علاجياً، هو أنني تركت الإشكالية التنازعية للجميع مفتوحة. إنّ هذا المقطع الصغير من معاينة، أرجو أن يأتي الوقت لتطويرها، يقدم المراهقة كنقطة انطلاق لعلم النفس المرضي عند البالغ، وفي الوقت نفسه، يضع موضع اختبار تتابع الأحداث النفسية عند الطفل. كان الأطباء النفسيون الذي عاينوا آبيل يعتقدون أن إمكانية تطور مرض الفصام الشخصي كانت، بالتأكيد، حاضرة في أذهانهم منذ البداية، وعلى الرغم من أنّ الموقف أفضل اليوم، ويشير الحدس إلى أنّ الوضع أقل خطورة، إلّا أن هذا الاحتمال مازال قائماً. وفي الوقت نفسه، إنّ الانقطاع الحاصل حاليّاً، ضمن حركة أوضحتها هذه الاستشارة الأولى في وضعها المأساوي، هو نتيجة لطفولة آبيل، وهي طفولة نتكهن بأحداثها بالاستناد إلى ما يرويه الجميع. يعبر آبيل عن رغبته في ترك والديه، وتجعله فكرة الابتعاد عنهما قلقاً بشدة. إننا نرى هنا تناقضات المراهقة الأكثر ابتذالاً. لم يعد باستطاعة الوالدين أن يكونا موضوع حب بالنسبة لابنهما، وكل ما يقوله موز وأيغل لوفير منذ زمن بعيد، حول الأثر الحاسم للتغيرات الجسدية في سن البلوغ في العلاقات بين الأطفال وأهلهم، صحيح وغير قابل للمناقشة. تأخذ كل مقاومة جسدية صفة الحرام، ويصبح الحنان نفسه لا يمكن تحمله إلا بصعوبة. ولكن انسحاب الشخص الموضوع، الذي يكون عنيفا إلى حد أنّ التوازن النفسي له يصبح في خطر، لا يشكل، في ذاته، عنصراً جديداً. وإذا كان يشتد ويتسارع بفعل الإمكانيات الجنسية التي تنفتح، من الآن فصاعدا، أمام المراهق، فإنّه ليس إلا نتيجة لسيرورة طويلة بدأت منذ نهاية السنة الأولى، وتأخذ بعدين متكاملين. يمكن أن يتحدد البعد الأوّل من خلال ضرورة تطوير وسائل نفسية ضد إمكانية ضياع الموضوع. ويندرج البعد الثاني ضمن ضرورة تطوير نشاطات نفسية بعيداً عن تدخل الآخر، وخاصة الأبوين. لهذه النشاطات النفسية، التي يمكن أن يتحدد محورها الواعي كفضاء داخلي للمراهق، تأثير اقتصادي وعملي محدد: فهي تسمح بتعميم موضوعي يساعد على تحمل الغياب، عبر تجنب تجربة "ضياع الموضوع" والانهيار الذي يسببه. يريد آبيل ترك والديه، وهو يعلم أنّه لا يستطيع تحمل اختفائهم من حياته. وبالاستناد إلى هذا الموقف، الذي أعطى لوضعه بعداً مأساوياً، يستطيع المعالج أن يتخيل القرارات الفعالة التي عليه تجنبها، وليس البرنامج. ضمن هذه الحالة العاطفية المؤثرة جدّاً لهذا الفتى المريض، الذي يعيش بين ضيق مقلق شديد وبين انطواء على الذات، لاحظ المعالجون أن عنفاً، بسبب الانفصال عن الوسط العائلي، يمكن أن يؤدي إلى نتائج ليس من السهل التنبؤ بها، ولكنها تهدد بإعطاء منعطف حاسم للعزلة النفسية. إنّ العودة إلى حركة إثارة، وظهور هذيان صوفي يبقى الحل الأقوى والشائع، مثلما تظهر قصص الفصام الشخصي التي جمعها زملاؤنا في قسم البالغين. ولكن هذه الإشكالية للفقد والفضاء الداخلي الذي يجب ألا يدخله الوالدان، تطرح نفسها بدءاً من السنة الأولى للحياة، ويمكننا أن نقبل، دون خطأ، أن ما يحصل في المراهقة يعتمد، في قسم كبير منه، على التشكل الذي يتم منذ هذا الوقت البعيد. إنّ المولود الجديد، ينجذب من الساعة الأولى من حياته، نحو أمه ونحو رائحتها، وصوتها، أكثر من انجذابه نحو أي شخص من الشخصيات التي تحيط به، ولكن الأمر يتعلق، ولمدة طويلة، باختلافات كمية. وخلال النصف الثاني من السنة يتحول هذا التفضيل المتميز باختلافات في الشدة إلى تعارض متقطع، أي كيفي. عندما يظهر الطفل، من خلال تصرفاته، أنّه يستطيع أن يعارض بين الحضور العقلي لوالدته وبين إدراك شخص آخر غير أمه، فإنّه يعرف من هذا الفعل، أن أمه، في هذه اللحظة، لم تعد موجودة هنا، فهي إذن، ليست تحت تصرفه بصورة متواصلة. انطلاقاً من هذا التنظيم، تتغير تصرفاته، ويصبح متقلب المزاج. يمكن أن ينطوي على نفسه مع شخص آخر، ولكنه قد لا يعود بالضرورة إلى هدوئه عندما يرى أمه من جديد. تحتاج الأُم أيضاً إلى وقت، مثل أي شخص آخر، كي تصبح تصرفات الطفل منسجمة. إن إدخال جريان الزمن النفسي أكثر دلالة، عندما يترافق بتطور يجري في الفضاء. إنّ الحضور العقلي للأُم مصدر معاناة، ويتخذ شكلاً سلبيّاً، وهذه السلبية تسقط على الشخص الآخر، أو على الأُم. وتجيب طريقة الفهم لما يجري، عند ذلك، على إعادة بناء سيرورة التعيين الإسقاطي بالاستناد إلى التجربة النفسية التحليلية. هذا كله معروف جيداً اليوم. لن أؤكد هنا إلا على نقطتين خاصتين ستتخذان موقعاً معيناً في إعادة تشكيل مرحلة المراهقة. يمكننا، ضمن البعد الزمني الذي توطد، أن نتصور أنّ الحرمات المرتبطة بحقيقة أنّ الأُم موجودة عندما تكون غائبة، تنطوي على حنين للزمن الذي كان فيه الطفل لا يعرف هذا الفقد. هناك صورة خيالية لأُم مثالية تتطابق مع تجربة افتراضية لم تحدث قط، تتشكل بالضرورة معارضة لردات الفعل المسقطة على الآخر. يصبح البحث عن هذه التجربة المثالية أحد محاور الحياة النفسية، وأحد محركاتها. النقطة الثانية هي التثليث الحتمي والمبكر جدّاً لتشكيل صورة الأُم عند الطفل: هي جيدة أو سيئة. إذا كانت الأُم لا تنظر دائماً إلى الطفل، فهي تنظر، بالضرورة، إلى شخص آخر يسيطر على الطفل وعلى الأُم، في الوقت نفسه. إن استيهام هذا المشهد الأولي، وإسقاط العلاقة الجيدة بين الأُم والطفل على فضاء فارغ من الغياب وعدم الرؤيا، وهذا التثليث البدئي، يقدمون، مسبقاً، صورة عن عقدة أوديب، في حين أن تناوب الإثارة وعدم الإثارة لمناطق جنسية هو المسبب لقلق الخصي. يتعلق الأمر هنا بتمهيد لمرحلة المراهقة. تتطور بعض الفعاليات النفسية في وقت مبكر، تجعل الطفل أقل اعتماداً على حضور الأُم أو من ينوب عنها وغيابهم. لن أستخدم هنا مفهوم الاتحاد الوثيق، أو مفهوم الحالة الاندماجية، كما أنني لن أتكلم عن سيرورة الإحساس بالتفرد والانفصال، كي لا أتسبب بتشويش كان طبيعياً في بداية تطور التحليل النفسي، ولكن أعمال فرويد ساعدت على تجاوزها. توحي هذه العبارات كلها بالاعتماد المادي للطفل الصغير على الشخص الذي يقدم له العناية الامومية، وهذا عامل لا يمكن مناقشته. مع ذلك فهي تشير إلى أنّ التجارب الأولى من الإشباع هي، حصراً، التجارب التي تتعلق بالحاجات المرتبطة في الاستمرار في الحياة، وبصورة خاصة، الحاجات الغذائية، والحماية من البرد. بدأ المحللون النفسيون يلاحظون، في مرحلة لاحقة، أنّ التنظيمات الأولى من الحياة النفسية ترتكز إلى تبادلات أكثر تعقيداً، وقد أفدنا كثيراً، في هذا الموضوع، من ميلاني كلاين التي تبينت الظهور المبكر للتناقضات النفسية عند فينيكو. وقد أظهر هذا الأخير، من خلال رأيه الغامض في الرضيع الذي لا يوجد وحيداً أبداً، ومن خلال شروحاته عن "الموضوعات الانتقالية"، واللعب، أهمية الأشياء التي تتطور خارج حاجة التقليدية للرضيع. وهذا هو ما يوضع موضع الشك في المراهقة. يتطور الوسط النفسي الداخلي منذ أن يكون على الكائن أن يحافظ بصورة كاملة على البحث المهم جدّاً عن الموضوع المثالي، على الرغم من التغيرات التي تطرأ على نظرته إلى الوالدين تحت التأثير المضاعف لتطور إشكالية الصراع الداخلي، والنمذجة المرتبطة باستيهامات الوالدين، والغثارات والمواقف المحيطة المهدئة، بالإضافة إلى عدم كفايتها، ومحدوديتها. إنّ الظاهرة التي وصفها فينيكو تحت اسم "القدرة على الوجود وحيداً أمام الأُم" تشكل علامة هذه الحاجة إلى الاحتفاظ بفضاء على الوالدين أن يعرفا حدودهما فيه. يتعلق الأمر هنا بفضاء للحلم، وتطوير حياة خيالية ممتلئة بالصور، وظيفتها الوحيدة إشباع رغبة الطفل. من المؤكد أن هذه الصور هي صور أشخاص، مشتقة من صور شخصيات عقدة أوديب دون علم الطفل، منذ أن يتعرض هذا التشكل النفسي للكبت، ولكن هناك أيضاً أشخاص لا يوجد لديهم رغبات خاصة ولا تاريخ، شخصيات من المشهد الباروكي، ليس لديها حقيقة إلّا الحقيقة التي تربطها بالطفل. على الرغم من ذلك، فإنّ الفضاء الداخلي ليس فضاء استيهام الرغبة فقط، ولكنه أيضاً الفضاء الذي تظهر فيه جوانب أخرى من النرجسية، وهذا المفهوم أساسي من أجل فهم كيف تتشكل المراهقة، وكيف تنجح، وكيف تفشل. في كتابه "من أجل تقديم النرجسية" (1914)، استغرق فرويد في تفكيره حول ازدواجية الغرائز وتساءل، فجأة، عن توازن ليبيدو الموضوع، الليبيدو المستغرقة في الأنا، بالاستناد إلى ما يجري في المراهقة تحديداً، أي التناقض بين العصاب والذهان (العصاب هو مرض نفسي، أو مجموعة أعراض نفسية تصحبها أحياناً مظاهر جسمية شاذة ناشئة عن عوامل نفسية كالانفعالات المكبوتة، والصدمات، والصراع بين الدوافع المتناقضة. والذهان مرض نفسي مصحوب بخلل من وسائل التكيف الاجتماعي والمهني والديني، وباضطراب عام في الوظائف العقلية، كالإدراك والحكم والاستدلال وغيرها، ويصحبه في العادة اضطراب عميق في السلوك والشخصية. وهو أعظم خطراً من العصاب) وتساءل عن الاختلافات بعد تنظيم علم النفس المرضي، وليس عن النماذج التطورية التي تقود إليه. الموضوع في فكره خارجي بالنسبة إلى الحياة النفسية، في الأصل، لهذا فهو مناقض لموضوعات الهذيان، في حين أنّه (فرويد) قدم، منذ عام 1899، فرضية استيهام موضوع الإشباع، بوصفه لحظة حاسمة بالنسبة إلى الرغبة، أي إلى الموضوع الدافع. ومن دون الدخول هنا إلى عمق نقاش نظري، ضروري مع ذلك، كي لا نقع في تناقضات ما وراء – نفسية، سأقترح فرضية أنّ الموضوع الموظف، والقدرة على التوظيف يشكلان وحدة لا تنفصل، تشكل استمراريتها أحد جوانب الأنا. وبدءاً من التناقضات النفسية الأولى، يصبح البحث الحنيني عن الموضوع المطلق هو محرك توظيف الشخصيات (الأُم والأب)، وتشكيل عقدة أوديب. هذه القدرة على التوظيف، في شموليتها، هي، في الوقت نفسه، نرجسية الطفل، وتسمح بتحمل الانقطاعات الإجبارية والدائمة، دون هذه الفاجعة النرجسية التي هي تجربة فقد الموضوع. بعد كبت عقدة أوديب، يتكامل الاستعداد، وهنا يوازن توظيف القدرة على الرغبة، بصورة طبيعية، الحرمان الأساسي لعقدة أوديب، والقلق من الخصي. عند ذلك يمتلئ الفضاء المخفي بأحلام اليقظة التي تشكل تحولاتها، والآثار الجانبية، وتعاقب الانغلاق والانفتاح، موضوع دراسة مفصلة عند طبيب الأطفال النفسي. في الواقع يمكن تتبع كيفية الاستعداد للدخول إلى مرحلة المراهقة بالاستناد إلى آلاف الصور النابعة من هذا اللعب. يمكننا أن نعدّ أحلام اليقظة التي تتطور بالاستناد إلى الجنسانية الذاتية، منتمية إلى المجال النرجسي سواء تعلق الأمر باستيهامات العادة السرية، أم بظهور جنون العظمة حيث يقدم الطفل نفسه على أنّه الأوّل الوحيد، ضمن حاضر دون تاريخ، أو ضمن مستقبل غير محدد. إذا كان الشكل يعتمد على النماذج المثالية الثقافية الشاملة، ويمكن أن ينظر إليه على أنّه قابل للتحقق، (زعيم شعبي، قائد فرقة موسيقية، نجم معروف في عمل استعراضي، أو في رياضة معيّنة) فإنّ هذا الحلم يفرض أن يكون الموضوع المطلق معروفاً من قبل، حيث لا يكون الطفل الحالم وحيداً أبداً، ويكون معه، أو لا يكون، شخصيات أخرى في حلمه، ويفرض الحلم، في الوقت نفسه، أن يكون الموضوع المطل متماهياً. إنّه الموضوع المطلق. ولهذا فإننا نزعج الطفل بشدة عندما نطلب منه أن يقوم بواجباته المدرسية، أو أن يلبي خدمة بذريعة أنّه يبدو غير مشغول. ولكن الحكم على أن هذا النشاط الخيالي الذي يعود إلى السجل النرجسي، سيكون حكماً عديم الفائدة، إذا لم نتساءل، في الوقت نفسه، عن الاتجاه الذي يأخذ فيه الحياة النفسية كلها. الملاحظة الأولى: دون هذه القدرة عند الطفل على الحلم لا نستطيع أن نفهم قدرته على إعطاء لون للأشكال المحيطة به، ولا ينفصل اللعب عن مستوى التأرجح، أو المتع الأولية الانطوائية الطفلية المبكرة. إنّ الركض مع التخيّل أننا آلة قوية وسريعة هو نوع من الإحساس بجنون العظمة الذي يدونه لا يمكن لأي إنسان أن يستمر في الحياة. من الطبيعي أن تنمذج استيهامات الآباء أحلام اليقظة عند الأطفال، وتمدهم بمواد خاصة. إنّ التخيل بأن استيهامات الآباء يمكن أن تدخل في الحياة النفسية للطفل، يعود إلى عدم الاهتمام بالخصوصية النفسية الداخلية لما أفضل أن أسميه، مؤقتاً، الموضوع المطلق الأولي، أي عدم الاهتمام بالآلية النرجسية واقتصادها. عند طرح هذا الموضوع يجد الطبيب السريري نفسه أمام اختلافات في التوازن بين مواقف الموضوع، وليس أمام اختلافات كيفية له. يعتمد استخدام النشاط الخيالي كآلية دفاعية مغلقة، أو كمصدر لتلوين التجارب المفتوحة، على الحركة العامة للحياة النفسية، وليس على النوعية "الذهانية أو العصابية" للعناصر صاحبة العلاقة. من وجهة النظر هذه، تعد ملاحظة آبيل، التي ليس لها قيمة حاسمة في ذاتها، على الأقل مثلما قدمتها، مقدمة جيدة لهذا النقاش حول مرحلة ما قبل المراهقة. لم يكن يهتم بالنصوص المكتوبة، ومنذ أن تعلم القراءة، ابتعد عن هذه النصوص. ثمّ من خلال هذه الذكرى، طرح مشكلة عائلية أمام المحللين النفسيين للأطفال. كيف يستطيع طفل أن يستقبل قصة يرويها شخص آخر؟ أصبح معروفاً اليوم أن كثيرين يستطيعون القيام بذلك بصورة مبكرة جدّاً، وهذا يشير إلى أن ترابط أفكارهم الاستهامية تتحمل تقديم حكايات من قبل شخص آخر، تظهر دراسة منهجية أنّ الأمر لا يتعلق بأي حكاية، أو بأي شخص. إنّ انتقال الأب أو الأُم إلى راو آخر يتواصل، من خلال انتقال الراوي إلى هاتين الشخصيتين المتميزتين، إلى حد ما، وهما القارئ، الشخصية الحية، والراوي، الشخصية الحاضرة التي تعرف، على الرغم من أنها تكون مجهولة أحياناً، كيف تنتهي القصة، وبهذا تكون مسيطرة على قلق الموت عند الطفل. على هذا المستوى تختلط الأدوار – إنّ الخوف من أن تنتهي القصة نهاية سيئة، وهو ما يعرفه الراوي لوحده، الخوف من أنّ الرغبة، الأوديبية أو ما قبل الأوديبية، في الموت لا تتحقق، يتوازن من خلال الحضور الحي للقارئ. عندما يجرب الطفل بنفسه قدرته الخاصة على ألا ينهار على طريقة النهاية السيئة، يصبح هو نفسه قارئاً. يمكنه عندئذٍ أن يتماهى، بواسطة اللعب، بالراوي أو كل شخصيات القصة، عبر إخراج مسرحي يسمح بظهور كل المسائل المتفرعة عن عقدة أوديب، مثل موضوع الحب، أو موضوع التماهي، أو أنا الراغبة والموضوع المثالي، والأنا الأعلى المراقبة والمانعة، وذلك لأنّ الراوي هو رمز التوليفة الظاهرة التي ينتجها مجموع الوظيفة العقلية، أي التي ينتجها ما وصفه فرويد، منذ المرحلة الثانية، بمشكّل الأنا. إن عدم حب القراءة يمكن أن يعود إلى أخطاء تربوية، ويعبر هذا عن موقف مؤقت قابل للتعديل نسبياً. إنّ الإمساك بكتاب والتفرغ لقراءة القصة التي يتضمنها، وفتح لعبة تقميصة، هذا كله يعد تطوراً للفضاء النفسي الحميمي الذي طرح سابقاً. عندما يمارس بعض الآباء ضغطاً على الأطفال لكي يقرؤوا، فإنهم يتعدون على دخيلة الطفل، ويدمرون، بصورة كلية، الرغبة في القراءة. ويظهر مثل هذا التعدي أحياناً في النصف، عندما تفرض قراءة ضمن زمن محدد، وتطرح أسئلة عن المشاعر الأكثر سرية للشاب القارئ. يكشف الفحص السريري لعدد من الأطفال الذين لا يستطيعون أبداً الدخول ضمن القصة الخاصة بهم، والذين لا يجدون شخصاً راشداً يساعدهم عبر القيام بدور المرافق المساعد على التخلص من الرهاب، عن تنظيم مقلق جدّاً أحياناً. لا يشكل بناؤهم النفسي بنية مستمرة تساعدهم، دون ضرر، على تجاوز تدخل الراوي، والقلق من الموت، وفقدان الموضوع الذي تطرحه الحكاية، مثلما أنها لا تسمح بانتظار أن يعيد الموضوع النهائي للحكاية تشكيل الموقف الأولي. إذا فحصنا الطفل، عند هذا، فإنّه يبدو غالباً غير قادر بنفسه على ابتكار قصة منسجمة. إذا رسم، تكون الصور، في البداية، ساكنة، ومنذ أن تظهر حركة معينة، يختفي عمل التصوير من أجل مواجهة فعل عنيف، فتنفجر الألوان والأشكال، وتمتلئ الورقة بخطوط قلم الرصاص، التي هي نفسها تدمير. هؤلاء الأطفال يعدون، بصورة سيِّئة، قدرتهم على تجنب الضياع ضمن اضطرابات مراهقتهم. لا يهمنا أن نفهم هذا الضعف في توظيف الاستعداد الثانوي إلا إذا انتبهنا إلى نوعين من العوامل: العوامل الأولى تاريخية، والثانية آنية. إنها في الواقع استعدادات خاصة تظهر منذ التطورات النفسية الأولى. إذا لم يصب الأطفال، الذين نقصدهم هنا، بالذهانات الطفولية، ولم يكن الفصام الشخصي عند الكبار ذهانات طفولية قديمة، فإن إعادة توظيف تصوراتهم تظهر، تحت تأثير التطورات الأولية، منذ أن يصبح التوتر النفسي الملازم لا يمكن معالجته من خلال الانتقالات العادية. هذا ما يوضحه طفل قبل المراهقة. يجب البحث عن هذا الإخفاق في الإعداد في الأوقات الأولى من الإعداد العقلي. في المقابل، إنّ عدم اعتراف الوالدين بالخصوصية النفسية لأطفالهم هي قلب الإشكالية الحالية للطفل المصاب بالفصام الشخصي. تنضوي هذه الخصوصية النفسية تحت تتمة العوامل التفاعلية، في السنوات الأولى من الحياة، ولكنها تتخذ شكلاً مختلفاً في السنوات التالية. وهي تعيق غالباً كل عمل علاجي. "لقد نصح، في المدرسة الإبتدائية، بإعادة التأهيل النطقي".►     *د. غسان السيد: باحث من سورية، دكتوراه في الأدب العربي. أستاذ في كلية الآداب بجامعة دمشق. له عدة أعمال منشورة.   المصدر: مجلة المعرفة/ العدد 464 لسنة 2002م

ارسال التعليق

Top