◄ليس نادراً أن تستوقف الأدعية القارئ أو المستمع لها بجمالية صيغها وأبنيتها، فضلاً عن مضامينها، ويمكن اعتبار الأدعية – من هذه الزاوية للنظر – نصوصاً تتجسد في الكثير منها أهم مقومات الأدبية، وتساهم في تلبية حاجات الإنسان الروحية التي نقيس بها الأدب حسب الناقد (ميخائل نعيمة) في مقالة (المقاييس الأدبية) في كتابه (الغربال) المخصص للنقد الأدبي:
1- (حاجتنا إلى الإفصاح عن كلّ ما ينتابنا من العوامل النفسية): وهو ما يحققه الدعاء بما هو إفصاح عما يعتمل في النفس وما يشغل الفكر، وكثيرة هي الأدعية أو المقاطع؛ منها التي يجد فيها الإنسان تعبيراً عن حقيقة نفسه بخطاياها ونجاحاتها، وبخيباتها وآمالها، وكما يقول ميخائيل عن وحدة النفس البشرية: (إنّ عواطفنا وأفكارنا مشتركة، لأنّ مصدرها واحد، وهو النفس، وإنّ في الواحد منا ما في الآخر من العواطف والأفكار، لكنها قد تكون مستيقظة في بعضنا غافلة في الآخر.. أنا وأنت غريبان نحنُّ إلى وطن واحد، وفيّ ما فيك من الحنين، غير أن حنيني أبكم أصم وحنينك ناطق ومجنح، لذلك إذا سمعت حنينك متكلماً تحرّك حنيني وتكلم، لأنّه قد وجد في حنينك لساناً له).
2- (حاجتنا إلى نور نهتدي به في الحياة، وليس من نور نهتدي به غير نور الحقيقة – حقيقة ما في أنفسنا وحقيقة ما في العالم من حولنا): والدعاء قراءات تتميز بالصدق مع النفس، وهي تحاول تفكيك الواقع المعيش، أو تراجع واقع النفس ومسيرتها في الحياة.
3- (حاجتنا إلى الجميل في كلّ شيء، ففي الروح عطش لا ينطفي إلى الجمال): فهل ينبع الجمال في الدعاء من الصدق الساكن فيه؟ أم من التلقائية؟ أم من جلال الموقف بين يدي الله المفجر لكل ملكات الإبداع لدى الإنسان؟ أم فيما يعبر عنه من توق مفارق متعال عن هذا العالم نحو عالم أفضل؟
4- (حاجتنا إلى الموسيقى، ففي الروح ميل عجيب إلى الأصوات والألحان لا ندرك كنهه): ولنا أن نصغي إلى ابتهالات النقشبندي مثلاً لنلتمس هذه النوعية من الجمال، ولكل شخص أن يبذل ما لديه وهو يناجي.
5- الإيقاع: تتكرر الأدعية، ولا ينفك الداعي عن العودة إليها من حين لآخر، ممثلة بذلك نوعاً من الإيقاع الذاتي للحياة (متعلقاً بحياة الفرد) بالتوازي مع الإيقاع العام للحياة، ومع غيره من الإيقاعات، ممثلاً بذلك أحد العناصر الجمالية لكل من الذات والدعاء، هذا إلى جانب أدبية نص الدعاء، وعذوبة الصوت، ورقة الابتهال، وشفافية الروح عند المناجاة والذراعة إلى الله... دون أن ننسى إيقاعات التأمين في الدعاء الجماعي.
دوافع الدعاء:
إنّ علينا أن نتذكر أنّ الدعاء عنوان عن رحيل لا ينقضي عن الشخص، وعن ضعن من واقع مغترب، طلباً لوضع جديد يتسع للحلم وإليه السفر، وهذا يعني أنّ الداعي يقف موقف الغربة عن وضعه القائم، والرغبة فيما يؤمل، ويرتجي، وأنّه يخاف على نفسه تحمل بؤس الواقع وسلبياته الجمة، وكذلك المشاعر السلبية التي تسكنه إزاء هذا الواقع الذي يعيش حالة اغتراب فيه، كما يخاف على نفسه تضييع سنين عمره في أوضاع هو أهل لغيرها، وأقدر على نوال ما هو أحسن منها، كما أنّه لا ينقصه الخوف من تحمل مسؤولية التقصير عن بذل الجهود التي من شأنها أن ترفعه، وما يعنيه ذلك من إخلاد إلى الأرض وركون إلى الدعة المهلكة، ومقابل هذه المخاوف تقوم رغبة في النفس في بلوغ أوضاع معيشية وحياتية أفضل، أو على الأقل أقل بؤساً من سابقاتها، ورغبة في أن تكون الأوضاع التي يحيا فيها الإنسان في مستوى قدره وقيمته المادية والمعنوية، ورغبة في أن تكون الذات في مستوى أحلامها ومطامحها من تحمل للمسؤولية، ومن اقتدار وتطور إيجابي، ورغبة في أن يكون الإنسان في مستوى الخلافة عن الله، وما يعنيه ذلك من رغبة في شدة القرب من الله، قرب مكانة لا قرب مكان، وما يصحب ذلك من رغبة في أوفر الجزاء وأحسنه في دار الخلد والنعيم المقيم.
وهكذا فإننا لا نرى الخوف أو الرهبة قاصرين على شيء واحد مثل الخوف على أن يكون المصير هو جهنم وبئس المصير، كما أنّنا لا نرى الطمع والرغبة قاصرين على التطلع إلى جنة النعيم، لا نرى مبرراً لهذا الاختزال لاحتمال الرهبة والرغبة والخوف والطمع، فهذا التوسع في الفهم تتحمله اللغة، وتشهد التجربة البشرية بصدقه، ويؤكده القرآن نفسه في مثل قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (الصف/ 10-13).
فنحن هنا إزاء جهاد في سبيل الله من جهة أولى، وجزاء أوفى في جنات عدن من جهة ثانية، ونصر وتمكين ورخاء في هذه الحياة الدنيا التي تحبها الأنفس وتشتهى من جهة ثالثة، وتبقى البشائر بكل خير وعلى كلّ صعيد فاتحة للآمال، ومحركة للعزائم والرغبات عنصراً قاراً من جهة رابعة.
أمّا الآية (59) من سورة التوبة فتؤكد أنّ الرغبة إنما هي في الله أساساً، ومن وراء ذلك سعة فضله ورحمته (قَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ).
أمّا الآية (32) من سورة القلم فتكشف عن الترابط بين الرغبة في الله، وبين تحسن الأوضاع الحياتية؛ لأنّ التقدم نحو الله جل في علاه؛ لابدّ أن ينعكس على الواقع بتطور إيجابي: (عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ)، فالعلاقة تفاعلية بين العبادة لله والسيادة على العالم، ولكن فهمنا هذا للأمور لن يخفي عنا حقيقة أنّ الناس درجات في سرعة رحيلهم سواء على مستوى الإعراض عن الراهن بكل أوجه سلبياته؛ التي أتينا على ذكر طرف منها، أو على مستوى الإقبال على المستقبل والكدح إلى الله بكل التعبيرات المحتملة.
ولذلك فإننا نميل إلى اعتبار الرهبة والرغبة أعلى مقاماً من الخوف والطمع، لأنّ الثنائي الأخير أقرب للتعبير عن انفعال عاطفي متوسط بالجوانب السلبية للأوضاع الراهنة والمسمى خوفاً مشفوعاً بآمال عريضة، دون خطوات عملية كبيرة تتناسب مع هذه الآمال، ولذلك أطلق عليها مصطلح الطمع، وعلى كلّ حال فهذا الوضع (الخوف والطمع) أحسن بكثير من الركون إلى الراهن من الأوضاع، أما الثنائي الأوّل فالرهبة أشد حدة من الخوف؛ الأمر الذي يزلزل النفس ويخرجها من سكونها وسلبيتها بكل قوة، فتترتب عن ذلك الرغبة بما هي عزم أكيد وناجز، ولذلك نجد القرآن الكريم يحفز بالخوف والطمع الراقدين والمصابين بلوثة العدوان على أنفسهم أو على غيرهم: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف/ 55-56).
ونجده بالمقابل يصف دعاء الصالحين من الناس بالرغبة والرهبة: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (الأنبياء/ 90).►
المصدر: كتاب فلسفة الدعاء
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق