إنّ التأريخ نظرٌ لا مجرد رواية هكذا عبّر المؤرخ العربي ابن خلدون عن نظرته للتاريخ وما يحمل من أحداث وتفاصيل عن الأُمم والشعوب السابقة، وقد يبقى التأريخ جامداً غير قابل للعبر إذا ما ظل محافظاً على نمطية الكتابة التي وُجد عليها. فإطلالة على الكتب التاريخية القديمة من الأُمم والملوك للطبري والبداية والنهاية لابن كثير وأسد الغابة لابن الأثير، لن تصادف هناك إلا ذكراً مجرداً للأحداث التاريخية متبعة لأسلوب الجرد الزمني فيما تخلوا أغلبها من بناء ثقافي يختم بنتيجة لتلك الأعمال المدونة.
هذه المقدمة وإن لم تكن ضمن صلب ما نريد تناوله في مقالنا هذا إلّا انّها مدخل جدي للإطلالة على عالم الكتابة الروائية موضوعها التاريخ تعتمد على أسلوب الجرد التاريخي إلّا انّه ادخلت عالم الحوار واطبعته بسيناريو تعيش من خلاله سرد الأحداث بأسلوب يجعلك تدرك كلّ الأحداث بتفاصيلها وماوراء خلفياتها. فنموذج الرواية هذا وإن اعتمد الكتابة باللغة الفرنسية إلّا انّ مواضيعه تناولت مواضيع الشرق بدلاً عن الغرب. فالكاتب الذي نقصده هو الروائي اللبناني أمين معلوف، الكاتب الذي اشتغل في أوّل حياته كصحفي مهتم بالشأن الاقتصادي انسجاماً مع تخصصه العلمي إلّا انّ انتقاله إلى فرنسا تحت ضغط الحرب الأهلية اللبنانية وعيشه هناك في بيئة قد لا تعرف من تأريخنا إلّا مصطلح البربر الذي لقبنا به أثناء المرحلة الاستعمارية أو الكفار وأصحاب الهرطقات أثناء الحروب الصليبية، قد تكون الدافع لرسم معالم الحضارة الإسلامية في ذهن القارئ الغربي وخاصة الفرنسي. فمنذ الثمانينيات تفرغ للأدب وأصدر أوّل رواياته "الحروب الصليبية كما رآها العرب" عام 1983 عن دار النشر "لاتيس" التي صارت دار النشر المتخصصة في أعماله. ترجمت أعماله إلى لغات عديدة ونال عدة جوائز أدبية فرنسية منها جائزة الصداقة الفرنسية العربية عام 1986 عن روايته "ليون الإفريقي". وفي منتصف التسعينيات اعتبرته الصحف الفرنسية أحد محيي الأدب الفرنسي بعدما كان في طريقه إلى الموت. إذن مقولة وعلى حد قول شهد شاهد من أهلها تكشف عن قيمة المنتوج الأدبي لأمين معلوف كأحد أهم وأشهر الكتّاب الفرانكفونيين، وبلغ الإنتاج الأدبي لمعلوف سبع روايات: الحروب الصليبية كما رآها العرب، ليون الأفريقي، سمرقند، حدائق النور، القرن الأوّل بعد بياتريس، موانئ الشرق، وصخرة طانيوس.
خزانة أمين معلوف وإن لم تكن غزيرة إلّا أنّها تشكل طفرة في الأدب فكلها أرخت لمراحل من تأريخ الحضارة الإسلامية بمالها وما عليها.
بغداد آب/ أغسطس 1099م: دخل القاضي أبو سعد الهروي ديوان الخليفة المستظهر بالله الفسيح صائحاً حاسراً حليق الرأس علامة على الحداد وبعد سرد لحاله يذكر المؤلف ما صدر منه من كلام... كم من دماء سفكت! ... أيرضى العرب البواسل بالمهانة ويقبل الأعاجم الشجعان بالذل؟!
بهذه الكلامات مهد معلوف أوّل إنتاجه الأدبي (الحروب الصليبية كما يراها العرب ades vue par les arabes les croi) الرواية في مجملها تعتمد على فكرة بسيطة وهي جرد أحوال العالم الإسلامي أثناء الحرب الصليبية. فعلى المستوى التأريخي ليس هنا من جديد في الرواية فكلّ الأحداث لها احالتها في أحد المراجع التأريخية القديمة، لكن التركيبة الأدبية التي ميزت العمل جعله أكثر تميّزاً ربّما حتى عن من دونوا لحقبة الحروب الصليبية. ويبقى السؤال الأهم إذا كانت هذه الأحداث معلومة بالضرورة للقارئ العربي فما الفائدة من إعادتها حتى ولو بصيغة أخرى. هنا يأتي طرح فكرة الكتابة بالفرنسية.
فيبدو انّ المخاطب الأوّل للكاتب هم الغرب الذي غابت عنهم حقائق تلك الفترة. فالحقبة رسم لها الأدب الغربي آنذاك حيزاً مهماً، كون تلك الحروب مقدسة وترمي إلى استرجاع قبر المسيح (ع) والصليب الخشبي الذي صلب عليه عيسى (ع).
والرواية حاولت أن ترسم صورة للعالم الإسلامي المتجزء على بعضه والصراع ينخر حكامه في بغداد ودمشق والقاهرة و... وهو ما قد يحاول من خلاله الكاتب التقليل من مزاعم بطولات الفرنجة التي دخلت في وقت حيث لا حكومة مركزية قوية ولا بطل نافذ القول بين المسلمين. وعلى الجانب الآخر فهو يرسم دهاء رجال الدين المسيحيين الذي حركوا الحرب وكان معهم راهب وكان داهية من الرجال فقال لهم انّ المسيح (ع) كان له حربة مدفونة بالقسيان الذي في أنطاكيا فإن وجدتموه فانّكم تظفرون وإن لم تجدوه فالهلاك محقق وصورة أخرى رسمها لجنود الفرنج وهم يدخلون الحواضر الإسلامية "ولبث الفرنجة في البلدة أسبوعاً يقتلون فيه المسلمين... وقتل الفرنجة بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفا" وربّما هي نقاط ربما دفعت الكاتب نفسه إلى التساؤل عن مدى صحتها ليكون الجواب من عند الفرنجة أنفسهم "وكان جماعتنا في المعرة يغلون وثنيين في القدور ويشكون الأولاد في السفافيد ويلتهمونهم مشويين" مجريات سرد الأحداث تحاول أن تضع القارئ الغربي، وهو المعني بالرواية في واقع الإنسان الأوروبي خلال مرحلة من الزمن، ربما هو اليوم غافل عنها. إذن رواية الحروب الصليبية كما رآها العرب وإن كانت ترصد حركة الشرق في وقته، إلّا أنّها تحاول أن تعيد للإنسان الغربي حقيقة تاريخه وتضعه أمام حقيقة ما أخفي عنه. لذا فالحروب الصليبية كما يراها العرب ويتحدث معلوف من خلالها إلى المجتمعات الأوروبية مناقشاً المفاهيم الأساسية للحضارة ذاتها، فالحروب الصليبية في الذهنية الأوروبية تعني فعلاً إيجابياً، إلّا أنّه عند العرب والمسلمين تعتبر استعماراً. وربّما ما يريده معلوف تحديداً هو تجنب مثل هذا الاستخدام، وكأنّه يقول للغرب: في الوقت الذي تتكلمون فيه عن إلغاء المركزية الأوروبية، لابدّ من إعادة النظر في المفاهيم التي تعتبرونها بديهية، وإعادة النظر هي بداية الطريق للتسامح. أما على الضفة الثانية، وهو عالم الشرق فالرواية ترسم للإنسان الوضعية السياسية والثقافية التي قد تجعل منه عاجزاً، لكنه في الوقت يكلم العرب ويكلم الغرب بالأساس عن رموز المسلمين وسلوكياتهم، عن ابن منقذ الطبيب والشاعر والفقيه وعالم اللغة، وعن معين الدين السياسي والدبلوماسي، إنّه يقول لهم: لقد أقام الأجداد علاقات رغم الأحقاد، فلماذا لا نفعل مثلهم؟ فقراءة الرواية من حيث الأهداف التي قد ترسم ربما تؤدي أهدافها، وهو دفع الغربي إلى إعادة النظر في التعامل مع محيطه والخروج من البرج العاجي الذي رسمه لتأريخه. لكن ما يمكن أن يؤخذ على الرواية انّها اكتفت بسرد تأريخي تتخلله بعض تعليقات الكاتب وهو عكس ما اتبعه في رواياته اللاحقة مثل بالدسار أو ليون الأفريقي وسمرقند، لذا تحس بالكتاب خال من أي لمسة فنية تجمع تسلسل الأحداث، بل يمكن القول إنّ الرواية لم تكن إلّا شبه نسخة عصرية من كتاب تاريخ دمشق أو الكامل في التأريخ، فأسلوب الكتابة واعتقد أنّ السبب في ذلك انها أوّل أعمال أمين معلوف خلت من حبكة السيناريو والحوار التي تربط القارئ بالقصة، فمجريات الأحداث حافظ فيها معلوف على نسق الرواية التأريخية ولا تعيش فيها أي حركة وتغيب الإثارة باستثناء انتظار ما ستسفر عنه موقعة المعرة أو حرب طرابلس أو ما تستقر عنها خيانة أمراء الولايات الإسلامية لكربوقا حاكم الموصل على مشارف أنطاكية.
أمّا النظرة العامة لرواية الحروب الصليبية كما رآها العرب فقد تحكمها العديد من الثنائية: الغرب والشرق، العنف والتسامح، الاستعمار والحروب المقدّسة، وقد يرجع ذلك إلى عدة عوامل مرتبط بشخصية الكاتب نفسه. فالثنائية هنا قد تلخص في المسيحي والمسلم باعتبارها عنصري الصراع ولأنّ الكاتب أمين معلوف من بيئة مسيحية وعاش في غرب مسيحي فهو يحاول أن يقارلاب بين المجتمعين، فمرجعيته المسيحية لم تسحب عنه انتمائه الشرقي المفعم بحرية دينية، ولدى الدفاع عنه هو يحاول ردم الهوة بين الشرق الذي ينتمي إليه عرقاً والغرب الذي يعيشه ديناً. حتى لا يظل الشرق شرقاً والغرب غرباً ولا يتلقيان على حد قول الشاعر البريطاني كبلينج: إلى متى يظل الشرق شرقاً والغرب غرباً. ويعتبر معلوف ومعه الكثير من الكتّاب العرب الذين كتبوا باللغات الغربية هو محاولة ردم الحاجز بين التجمعين الشرقي والغربي وإقامة جسر حقيقي للتواصل بين الحضارات. ►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق