• ٢٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإسلام والتعايش السلمي مع الآخر/ ج2

الإسلام والتعايش السلمي مع الآخر/ ج2

إن عالميتنا ليست عالميَّة تعصب أو دعوة تنطلق من الخصوصية الجغرافية البشريّة لمضاهاة العالمية الغربية، إنها عالمية "الرحمة" لنا وللغربيّين على حد سواء وللعالم أجمع، ومن ثم لابد أن يتأكد لنا وللجميع ما تتميز به عالمية الإسلام في الوقت الراهن:

أولا: إنها عالمية إسلامية يفتقر العالم إليها للخروج من أزماته السياسية والاقتصادية والفكرية والبيئية، إذ أن ما يجري على الأرض- اليوم نقيض لقيم التوحيد والتزكية والعمران والعدل المطلق. ثانياً: إن الخطاب العالمي الذي ينبغي لأمتنا أن تخاطب به العالم وأن توجهه للحضارة المعاصرة بتفريعاتها الغربية وغيرها، ولأن الحضارة الغربية هي المهيمنة الآن على السلوكيات البشرية، فلا بد من إيجاد أفضل أجواء الحوار مع المدرسة الفلسفية والمعرفيَّة الغربيَّة المنتشرة في أمريكا وأوربا والتي نشأت وترعرعت فيها كل أنواع العقل المعاصر في الغرب ومنها وعنها انبثقت اتجاهات الحداثة وما بعد الحداثة. ثالثاً: إنها عالمية إسلامية منتظرة وحتميّة الوقوع، وقد ينهض بها المسلمون، وقد ينهض بها غيرهم لو تقاعسوا، وحين نبدأ العمل لها من الآن فإننا نفعل ذلك التزاماً بمسئولية الاستخلاف، ومسؤولية الشهادة على الناس. وقيامنا بواجبنا هذا نحو البشر نابع من التزامنا بمسؤلياتنا أمام الله سبحانه وتعالى. ومهمتنا نحن المسلمين – رغم سوء أحوالنا وظروفنا – أن نَدْخل ونُدخل الناس في مرحلة الهدى ودين الحق. فأوربا وأمريكا تدرك أنَّها لن تستطيع إخراج نفسها ولا العالم من المأزق الذي يتجه إليه، لأنّها تعاني المشكلات الجوهريَّة التالية: أولاً: إن الحضارة الغربية تعاني تدهوراً اجتماعيّاً وحضاريّاً وقيميّاً بشكل متواصل، ولم تستطع الحضارة الغربية – حتى الآن – حل هذا الذي يبدو لها وكأنَّه لغز حضاري: العلوم تتقدم والإنسان ينهار، وقيمه تتلاشى. ثانياً: إن كل محاولات السيطرة على "التاريخ" لم تعد مجدية بالرغم من المحاولات المتفائلة منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى وما قبل الثانية، وكل ما يحدث إنما هو تغير في الصراع ووسائله وأدواته، وليس ثمة منهج للسيطرة على التاريخ كالمنهج الربانيّ! ثالثاً: إن كل محاولات السيطرة على "الإنسان" في النظامين "الاشتراكي المقبور، والرأسمالي المنتظر" استتبعها ويستتبعها تمرد الإنسان، فالإنسان في إطار الشمولية المادية يبحث عن قيمته الذاتية، فيرتد إلى قوميته، ويبحث ذاكرته الوجودية فيرجع إلى دينه، والإنسان في إطار الليبرالية والوضعية الغربية يبحث عن ذاته فلا يجدها، فيفرغ ذاته في ذاته انهماكاً في الشهوات والجزئيَّات، ثم يتأزم ويفارق كل فالحرية بلا مضمون، والإنسان بلا التزام بشيء، هي حرية إلى حد الموت الذاتي. رابعاً: أنّ اللاهوت المسيحي: لم يعد قادراً على أن يمنح العقل الغربي رؤية كونية تتجاوز مفهوم الإله "المتجسد"، فأصبح الجهد العقلي الإنساني مقيداً إلى "وضعية ضيِّقة؛ لأنّ مفهوم "الألوهية" – الله – وهو أساس "الكونية والعالمية الأولى" قد اختزل إلى مستوى "الشيء" الطبيعي، فاللاهوت المسيحي نفسه يعد أحد أكبر مشكلات الفكر الغربي المعاصر، ولا خروج للفكر الغربي من أزمته إلا بالكشف عن نموذج "التوحيد الخالص" كما هو في القرآن المجيد ليتجاوز بذلك أزمته الخانقة مع لاهوته. خامساً: أنّ العقل الطبيعي ثمّ العلمي: انتهى إلى أن تبنت "الثقافة الغربية" (ونركز هنا على "مفهوم الثقافة") موقف القطيعة مع اللاهوت المسيحي أو موقف "الحياد"، لتكريس ولكن الظارهيتن التاليتين، وهما الأخطر. أ‌-      التكفيك، والعجز عن التركيب في كل من مرحلتي الحداثة وما بعد الحداثة: فبعد نمو العقليتين الطبيعية والعلمية في مواجهة اللاهوت المسيحي الضيق، اتجهت العقليّة العلميّة مزودة بطاقات النقد والتحليل إلى البحث في "ما ورائيَّات" كل شيء بتحليل عميق، وقد أفلحت الحضارة الأوربية الغربية، في ذلك التحليل والتفكيك، وحققت إنجازات كبيرة حيث توصل الغرب إلى ما عرف بـ"الغزو الفضائي"، وهو في مفهومنا الإسلامي "تسخير"، وليس غزواً، ولكن ماذا بشأن التركيب؟. ب‌- التنابذ والصراع: ثم تأتي من بعد ذلك المسألة الأخطر في تركيب الحضارة الغربية الأوربية، وهي الخاصة بمشكلة "النسق الحضاريّ وبنائية التطور التاريخي والاجتماعي"، حيث نجد أن النسق الحضاري الغربيّ، كوّن ذاته على أساس الصراع والاستعلاء على الآخرين، يعتمد على سيطرة القوى بعضها على بعض، والتحكم في كل شيء، بمنطق القوة، لذلك تصعب فيه ممارسة الدعوات الأخلاقية إلا أن تكون مفرَّغة من القوة والفاعليَّة "الإصلاحيَّة". وهنا تبدو القضية – أيضاً – قضية "نسق حضاري" وليست قضية دين أو أخلاق أو تعاليم، فالغرب بمعنى "النسق الحضاري الغربي" يسمح لنا بالتكلم في الدين كما نشاء في بلاده وخارجها، ولا مانع أن تدعو إلى دين آخر نحو الإسلام أو البوذية أو الزرادشتية أو السيخية – إن شئت – ، ولكن حين تتجاوز دعوتك هذه إلى النظام المسيطر، فإن الأمر يدرج في إطار "التعبئة السياسية المضاّدة أو الأصوليّة والتعصُّب والتطرّف والإرهاب". إن أزمات العالم قد صارت تتداخل، ومع تداخل الأزمات وتحويلها إلى أزمات عالميّة تصبح الحلول المطلوبة حلولاً عالميّة. لقد كتب صامويل هانتنجون "Samuel Huntington" دراسته أو رؤيته عن صراع الحضارات[1]، وتكهن أن العقود المقبلة ستشهد صراعاً حضارياً، سيكون ذلك الصراع هو المرحلة الأخيرة في نشوء وتطور الصراع في العالم الحديث. وقد رصد في مقالته الهامة التي صارت بعد ذلك كتاباً[2] جملة من الظواهر الحضارية الجديرة بالدراسة، لكن الذي فاته – سذاجةً أو قصوراً – نظرته إلى الإسلام وثقافته وحضارته التي تتسم بأنها استشراقية تقليدية، كما أن خلفيته الغربية وانتماءه إلى حضارة الصراع والتنابذ الغربية الأمريكية، حرمه ذلك كله من رؤية أي جانب من جوانب الحضارات والأديان والثقافات غير الجانب الصراعي التنابذي الغربي الأمريكي الذي هو محور ارتكاز الحضارة الغربية. وحين نقارن بين جارودي "Garaudy" وهو غربي طهَّره الإسلام، وهانتنجتون؛ نجد أن جارودي قد تأثر بالمنظور العمراني الإسلامي فلم يتوقع صراعاً بين الحضارات بل حواراً بينها يمهد للعالمية ويهيئ لها، فهو يؤكد ويقول: "إن ما اصطلح الباحثون على تسميته بالغرب إنما وُلد في "ما بين النهرين" وفي "مصر"، فهو لم يولد من فراغ، ويحاول أن يدعو الغرب من خلال تجربته الذاتية إلى محاولة اكتشاف الخصائص الحضارية الإسلامية، فإن اكتشاف الغرب للإسلام – في نظره – كفيل بمعالجة أزماته، ثم يقدم دليلاً عمليّاً لإحداث "ثورة ثقافية" على مستوى عالمي. لكن جارودي وأمثاله إذا كانوا قد عالجوا أزمتهم مع الفكر الغربي بالإسلام، فإنهم لم يتمكنوا من معالجة أزمتهم الجديدة كمسلمين، "لم يرثوا[3] الإسلام مثلنا، بل جاءوا إليه من نسق ثقافي حضاري مغاير" للتراث الإسلامي، والذي يلاحظ أزمة هذا النوع من المسلمين، الذين يمثلون أوائل ثمار عالميتنا المرتقبة، مع تراثنا الذي صار تراثهم الجديد يشفق عليهم كثيراً، وهو يلاحظ ويرى كيف تضمحل طاقتهم بعد الإسلام حتى تتلاشى في بحر "تصوف غنوصي" لا يختلف كثيراً عما كانوا عليه قبل أن يكتشفوا الإسلام، وذلك لأنهم لم يستطيعوا من خلال ذلك التراث المتراكم أن يكتشفوا حقائق الإسلام وخصائصه العالميّة بشكل شامل، ولا الفكر الإسلامي المعاصر المكبَّل بكل تلك القيود الموروثة عن عنصر التدوين تمكن من أن يقدم لنفسه ولهم تلك الخصائص. إذن، فماذا ينبغي علينا أن نفعل لإيجاد تفاعل بين عالمية الإسلام والغرب بقيادة أمريكا ومركزيتَّها بعد كل هذه المعطيات،!! إن ما نحتاج أن نفعله ليس يسيراً للأسباب التالية: أولاً: إن الغرب سيقاوم بشدة أي إصلاح، خصوصاً إذا صدر هذا الإصلاح عن فكر "ديني"، وبصورة أخص حين يصدر عن تفكير ديني إسلامي، فللغرب ميراث عقلي طبيعي، وميراثه ضد اللاهوت الديني وله ذاكرة تاريخية مترعة بعوامل الصراع مع الإسلام بالذات. ثانياً: إن نسق الغرب الحضاري لا يتقبل دعوات أخلاقية وقيمية تخل بنسقه الحضاري المهيمن على مجتمعاته وعلى الشعوب المندرجة تحت نفوذه السياسيّ والاقتصادي، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث عدَّ انهياره شهادة صحة للنظام الليبرالي، ومن هنا نرى الهستيريا التي تحدث عندما تطبق بعض العقوبات الدينية على أحد، فالأمر ليس أمر "حقوق الإنسان"، بقدر ما هو تنافٍ حضاريٍّ. ثالثاً: إن أي دعوة إصلاحية تصدر عن عالم المسلمين بالذات، يعتبرها الغرب طبقاً لذاكرته التاريخية، صادرة عن طرف معادٍ، يرى الكثيرون من أولياء الأمور في الغرب أنه يجب الوقوف ضدها ومحاصرتها مهما بذلنا في إقناعه من جهود.   - إذن ما العمل؟ رغم كل ما ذكرنا فإنه لا تزال هناك بعض المسالك المفتوحة، منها: أولاً: أننا نملك – بالقرآن المجيد – القدرةَ على "التركيب" عبر "المنهج المعرفِّي القرآني" فمهمتنا الأوليّة والأساسيّة جدّاً، والضروريّة جداً، أن نقيم أقوى العلاقات مع مدارسة التحليل الغربي، أيّاً كانت اتجاهاتها وتوجُّهاتها. فهذه المدارس هي مداخلنا إلى الاتصال المعرفي بالغرب. ثانياً: أن نمنح كل الطاقات الممكنة لمدرِّسي المنظور الحضاري الإسلامي وتأصيل المعارف والعلوم وتوجيه المعرفة وَجْهةً إسلامية أو "أسلمة المعرفة"، خاصةً في مجالات المناهج والنماذج وتوجيه العلوم الطبيعية وإعادة بناء العلوم الاجتماعية والإنسانية. وإنَّ تطور هذه العلوم في وحدتها الكونيّة سوف يشكل حافزاً لمعظم الغربيين على الانفتاح على منهجنا أو اكتشافه أو الإفادة منه، ثم السمو به إلى مستوى اكتشاف القرآن المجيد. ثالثاً: وذلك سوف يمهّد الطريق – أمامنا – للوصول إلى الملأ الغربي والنخبة الغربيَّة، والتحاور معها في إطار منهجيٍّ علميٍّ لا نحتاج فيه إلا إلى التسلُّح بوعي مفاهيميٍّ على القرآن المجيد، وبذلك سيكون المدخل الجديد "للعالميّة الإسلامية الثانية المرتقبة" مدخلاً معرفيّاً ومنهجيّاً. وينبغي أن نتلافى ونحن نحاول أن نشق طريقنا إلى العقل الغربي خطاب الدعوة المثيرة للحساسيات، ونتخلص من هيمنة "الخطاب الإسلامي الأيديولوجي"، ونرتقي إلى مستويات صياغة "الخطاب الإسلامي المعرفي". وهنا لا بد من الالتفات مرة أخرى إلى معظم الحركات الدينية والداخل الإسلامي للنظر في مدى قدرتهما على تفهم هذا الدور الخطير، ثم مدى قدرتهما – بعد ذلك – على ممارسته. إذا كانت الأزمة في دائرتها الغربيَّة أزمة تفكيك عاجز عن التركيب لاستبعاد الإيمان بالله والوحي والغيب، فإنَّ الأزمة في دائرتها الإسلامية تبدو واضحة في افتقاد منهجية ضابطة للتعامل مع تراث ذي شمولية لها ما يبررها، لنقد ذلك التراث وتحليله وتحديد ما يصلح للاسترجاع والاستبعاد منه، ثم هيمنة القرآن عليه، وأخيراً التركيب – المفتقد – علميّاً لتكوين مداخل منهاجيّة للتغيير. وإذ تعجز الحركات الإسلامية عن التغيير بمنهجيّة معرفية إسلامية فإنها قد تلجأ إلى العنف التكفيريِّ، والتشبُّث بمعطيات الواقع التاريخيّ الإسلاميّ في امتداد الدعوة الأولى، كما أن هذه الحركات قد خلطت خلطاً عجيباً بين قضايا الإسلام وبين قضاياها الوطنيّة والقومية، فمرة تحول الإسلام إلى دين قوميّ فتحصره في تلك الشعوب الأمية التي حررها وهو يبني عالميّته الأولى، ومرة تحوله إلى برنامج سياسي لحزب أو فئة، ومرة ثالثة تحوله إلى دين يمكن أن يتجسّد في مجموعة من قضايا إقليمية مثل قضية الوجود الأمريكي في السعودية والخليج العربي، أو مثل قضية فلسطين في حدود ما قبل الرابع من حزيران، أو في قضية حصار العراق أو كشمير أو سوى ذلك، وقد تكبره هذه القضايا في فكر هؤلاء حتى يصبح الإسلام مجرد سلاح من أسلحة المعركة التي تدار ببلاده. إنّ إسرائيل بعد أن نجحت في بناء كيانها، تتقدم بخطوات مدروسة في تقديم أفكار عالميتها، ففكرة "النظام الإقليمي" الذي توجد من خلالها "نظام القاعدة" للانطلاق، فشيمون بيريز يتحدث عن المنطقة العربية و"النظام الإقليمي" فيقول: "مشكلة هذه المنطقة من العالم لا يمكن أن تحل على يد دولة منفردة أو حتى على مستوى ثنائي أو متعدد!! إن التنظيم الإقليمي هو المفتاح إلى السلام والأمن.....، إلا أنّ هذا التحول لن يتم بسحر ساحر، أو بلمسة دبلوماسية فتوطيد السلام والأمن يقتضي ثورة في المفاهيم، وهذه ليست بالمهمة السهلة هدفنا النهائي هو خلق أسرة إقليميّة من الأمم (أي: التي تكون الشرق الأوسط) ذات سوق مشترك، وهيئات مركزية مختارة على غرار الجماعة الأوربية"[4]. إنّ التراث الفكري الغربي في مجال العلاقات الدولية والقانون الدولي، والاتجاه العالمي رغم ما يبدو من ثرائه الظاهر في المفاهيم والنظريات إلا أنّه في جوهره فقير جدّاً، ولذلك بدأت موجة من البحث الجاد عن التراث الذي يمكن أن يثري الاتجاه العالمي لدى العالم المعاصر، ولو باقتباس هذا الاتجاه من الحضارات القديمة، لكن الإسلام للأسف الشديد بعيد أو مستبعد من دائرة البحث هذه ولأسباب كثيرة، لذلك فإن مهمة العلماء والمفكرين المسلمين كبيرة وهامة وشاقة في الوقت ذاته. فلابدّ لهم من إبراز القدرات الإسلامية الهائلة في مجال "العالميّة"، فقيم الإسلام العليا ومقاصد الشارع والرؤية الإسلامية الكلية للكون والإنسان والحياة – كلُّها – كفيلة بتقديم منهج منضبط ونماذج معرفية قادرة على إبراز وتقديم القواعد الأساسية، والقيم المشتركة التي يمكن للإنسانية أن تجتمع عليها، وهي قيم الهدى والحق والتوحيد والعمران والتزكية والعدل والحرية والمساواة في ظل الأخوة الإنسانية، والتي تستند وتقدم عالمية الخطاب وحاكمية الكتاب، وختم النبوة، وشريعة التخفيف والرحمة، والقدرة على توظيف سنن الكون من صيرورة جدلية، وتحوّل نوعي، ومنهجية معرفية قرآنيّة مع توظيف سائر مؤثرات الزمان والمكان، بكل ذلك يمكن لأُمّة الإسلام أن تقدم النموذج المرتقب، ولو على مستوى المنظور والإطار النظري. المطلوب إعادة قراءة شاملة لنصوص الكتاب الكوني "القرآن المجيد"، ودراسة لكيفية معايشة رسول الله (ص) لهذا الكتاب العظيم، وربطه بين قيمه وواقع عصره لتحويل تلك المعايشة التي تمثلت بالسنة النبوية إلى منهجية في ربط قيم القرآن بالواقع، ثمّ دراسة الفروق بين العصر المرجعيِّ والعصور التالية، وما طرأ عليها من تغيُّرات نوعيّة للكشف عن طرائق المنهج، ومنهجية التنزيل على الواقع المتغير نوعياً لنتمكن من جعل "عالميتنا الإسلامية" قادرة على استيعاب الأنساق الحضارية والثقافية المتنوعة، وقادرة على إنقاذ العالم من اتجاهات التنابذ. إنّ "عالمية الإسلام" – وهي تحمل قدراً عميقاً من الرصيد التاريخي – لا تخشى عملية استحواذ أو مصادرة من المركزية الغربية الأمريكية لها، لأنّها تدرك أنها مركزية غربية، بل أمريكية، وأنها في "عولمتها" شكلت ما يقرب من أن يكون إجهاضاً للاتجاهات العالمية، فالمركزية ليست بعالمية، وما كان لها أن تكون، ولذلك فإنّها لن تؤدي بالبشرية إلى حالة اندماج وتوحد. أما على مستوى الأفكار والنظم، فإنّ "العولمة" وقيادتها الأمريكية تعاني من أزمات عميقة جدّاً، وإن اختلفت عن أزمتنا، فللتقدم أزماته وللتخلف أزماته. إنّ الحضارة الغربية نفسها بحاجة إلى إنقاذ، لقد عمت الأفراح ساحات الأنظمة الغربية الليبرالية والرأسمالية عندما انهار الاتحاد السوفيتي واعتبرت ذلك انتصاراً لفكرها ونهجها الذي لولا أزماته لما قامت الماركسية، وما علمت تلك الأنظمة أن ذلك راجع إلى أن أي نهج وضعي يتجاوز الله – تعالى – والغيب لابدّ أن ينتهي إلى ذات النهاية وأن جدلية الإنسان الممتدة إلى الغيب والطبيعة تصرع كل نظام لا يستجيب لصيرورتها أياً كانت طبيعة ذلك النظام سواء أكان نظاماً لاهوتيّاً يتجاوز أو يتجاهل قوانين وسنن الطبيعة الكونية، أو لاهوتيّاً وضعياً مثاليّاً يجعل الإنسان موضوعاً لآلية مقولة الزمان، أو لاهوتية دينية لا تلتفت إلى حقائق الدين ومداخله وأبعاده المنهاجية وحقائقه التي لا تجمع بين القراءتين.   - الفهم المنهجي والجمع بين القراءتين: إذن فنحن في حاجة ماسة إلى تعلم كيفية قراءة القرآن في كليته في تماثل وانسجام مع قراءة الكون الطبيعي في كليته، فهناك آيات طبيعية مبثوثة يكشف العقل نظامها الكلي، وقوانين ارتباطها وصولاً إلى منهجها، وكذلك الأمر مع آيات القرآن حيث يكتشف نظامها الكلي ووحدتها العضوية المنهجية. من هنا نبدأ السير في الطريق إلى مغادرة أزماتنا الفكرية وما ترتّب عليها لنستعيد ارتباطنا المنهجي بـ"الكتاب الكريم" المطلق في وحدته المنهجية، وذلك بتناول الوحي المحدود الآيات عدداً للكون اللامتناهي في جزئياته، وتناول المطلق للنسبي. ولكي نصل إلى هذه النتيجة التي نبدأ بها تعاملنا مع القرآن والسنة تعاملاً منهجيّاً كان منطلقنا يقوم على ضرورة "أسلمة مناهج العلوم الطبيعية والإنسانية" بالقرآن نفسه، لنجعل منها مداخلنا إلى فهم القرآن فهماً منهجياً، وهي عملية مزدوجة ومتبادلة التأثير، فالقرآن يقوّم مناج المعرفة ويصحح مسارها ويصدق ويهيمن عليها. ومناهج المعرفة المقوّمة تساعد على الدخول بشكل أعمق في عالم القرآن الرحيب من ناحية أخرى، وتعين على حسن فهمه، وذلك بمنطق "الجمع بين القراءتين"الربانية والقلميّة، أو الغيبية والموضوعية، أو قراءة الوحي وقراءة الكون، فمن خلال القراءة الجامعة بين آيات الوحي وآيات الطبيعة تتكشف أبعاد "التفاعل والصيرورة" المزيلة لكل سكونيّة – في الفكر الإسلامي البشري – لا تأخذ بسنن الكون ومنطق المتغيرات.   - منهجية القرآن: إنّ منهجية القرآن هي حل لـ"إشكاليات العلم المعاصر" نفسه وترقية لبحوثه المنهجية، وجعلها قادرة على أن تنتج فهماً كونيّاً جديداً لفلسفة العلوم الطبيعية، فهماً يرتبط من خلال العلم بعقيدة التوحيد حيث يتأصل ويتضح معنى الآية (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر/ 28). ولا تقتصر منهجية القرآن على دراسة الظواهر الطبيعية التي تستمد مؤشراتها الكونية من القرآن، إنما تمضي لتمد نطاق البحث إلى الظواهر الإنسانية التي تتفاعل مع الظواهر الطبيعية. وبهذا نصل إلى البشرية بالطريق العلمي وفي دائرة النسق الحضاري، فهذا الدين قائم على كتاب منهجيٍّ مطلق، ودعوة عالميّة شاملة، إنّه لابدّ لنا من اكتشاف ذاتنا، والوعي على ما أنعم الله به علينا من إمكانات عالمية ومنهجيّة قرآنيّة، لا تسمح أيّ منهما أن ننغلق على أنفسنا، أو نتخلى عن مهمة الشهادة على الناس. من هنا تبدو أهمية القول بضرورة "الاجتهاد الجماعي" لا باعتباره مفهوماً يفترض إلغاء المميزات الإدراكية والاستنباطية الفردية بين الباحثين، فكلٌّ ميسر لما خلق له، ولكن باعتباره مفهوماً قائماً على تكامل فروع البحث المعرفي ضمن الإطار الكلي لمعالجة الظواهر الإنسانية والطبيعية، فالباحث اللُّغويّ الذي ينفذ إلى دلالات النص ويراجع استخداماته في مراحل تاريخية مختلفة يغني جماعية الاجتهاد ويضيف إليها، كما يغنيها الباحث الآخر في الإنسانيّات، وذلك في بحثه في ثقافات المجتمعات الرعوية والزراعية جنباً إلى جنب مع المحقق التاريخي وعالم الآثار وغيرهم حين يختص الأمر بمراجعة تجارب الأقوام والأمم والحضارات البائدة. وعلى هذا النحو نأمل أن تشكل جهودنا قناة قادرة على ربط الجهود العلمية المتنوعة والمتعددة، والتنسيق بينها لتؤدي ثمرة جماعية أوّلاً في تحقيق التوجه القرآني داخل الفروع العلمية المختلفة وانطلاقاً من الوحي، كأسلمة علم النفس، والاقتصاد، والاجتماع، والعلوم الطبيعية، بمنهجية القرآن، والجمع بين القراءتين وفي أسلمة هذه المناهج والعلوم بالقرآن ومنهجه، والدخول بها إلى القرآن فتستفيد العلوم من الوحي حلولاً لمشكلاتها، ويحسن المتعاملون مع النص فهمه وإدراكه من خلال تلك الأبعاد المعرفيّة وملاحظتها. إنّ هذا "الاجتهاد الجماعيَّ" المتَّسع لكل مركبات الواقع ومناهج المعرفة يقلص لدينا حالات الشعور بإمكانيّة الإصلاح بالجهود الجزئية، مثل إصلاح القضايا الاقتصادية في واقع مركب وشديد التعقيد، أو معالجة بعض القضايا الاجتماعية، أو تحويل عمليات الإصلاح إلى عمليّات فردية.   - قضايا المفاهيم (الجهاد كمثال): إنّ معالجة أيّة أزمة من أزمات أمتنا والعالم – اليوم – لابدّ أن يتم من داخل "البنائية القرآنيّة فهو "تبيان لكل شيء"، ثمّ من "منهاجية السنة النبوية الكلية" في الفهم والبيان والتطبيق، فمفاهيمنا التي تجتالها "العولمة" واحداً بعد آخر، وتحاول تدميرها يجب الكشف بالقرآن عن أهميتها وترابطها، ومنها مفهوم "الجهاد". فهو مفهوم عبقري كسائر مفاهيم القرآن يمتد ليغطي مساحة كبيرة جدّاً من المعاني والمحددات والوسائل والأدوات والمراتب والمستويات حتى ليكاد يزاحم مفهوم "الإيمان" في اتساعه وشموله، وإذا كان الإيمان بضعاً وسبعين شعبة – كما في الحديث الشريف – فإن شَعَب الجهاد تكاد لا تنزل عن ذلك كثيراً، فهو يتسع، قرآنيّاً ويتسع حتى يغمر السلوك الإنساني – كلِّه – للأسرة والمجتمع والدولة والفرد. ويضيق في بعض النصوص والمواقف حتى يصير مرادفاً للقتال، ولذلك كان "الجهاد" فريضة محكمة، وسنّة دائمة إلى يوم القيامة، لا يمكن أن تخلو الحياة من بعض أنواعه ومراتبه مهما كانت الظروف ومهما تغيرت الأحوال، وهو لا يتوقف على القتال والسلم ولا على الحرب، إذ هو سارٍ وجارٍ في سائر الأحوال. إنّه مفهوم متصل تمام الاتصال بمقاصد الشريعة وبالقيم العليا الحاكمة: التوحيد – التزكية – العمران. فكل قصد، أو نية، أو فكر، أو اعتقاد، أو عمل، أو قول، أو تخطيط يصدر من أهله يستهدف تعزيز هذه القيم الحاكمة أو المقاصد العليا فهو "جهاد" ولذلك فإنّه لا يندرج بأيّة حال في إطار قضايا الاستعلاء الذاتي لقوم أو دولة أو حكومة أو جماعة سياسية. والجدل التاريخي الذي دار ولا يزال دائراً حول ما هو الأصل في العلاقات الإسلامية أهو الحرب أم السلام، القتال أم السلم، يبدو آنذاك – قليل الأهمية – لأن كلّاً من الحرب والسلم حالات متداولة في إطار "جدليّة الحياة" كالصحة والمرض. والجهاد يستوعب الحالتين ويتجاوزهما. والتزام الفقهاء بتحديد "الأصل" في كل شيء التزام اقتضته الصناعة الفقهية، وذلك فإن تحديد ما هو أصل، وما هو غير أصل كان ينبغي أن يرتبط بـ"القيم الحاكمة"، والقيم المبنية عليها، والمنبثقة منها. وكذلك المحدّدات المنهجية القرآنية من "عالمية الخطاب" و"حاكمية الكتاب" و"ختم النبوة" و"شريعة التخفيف والرحمة". فالأرض من حيث كونها ميداناً لفعل العمران واحدة، والبشر من حيث كونهم مستخلفين لتحقيق العمران أمة واحدة، ثمّ تنقسم الأرض من حيث كونها داراً إلى "دار إجابة" و"دار دعوة" وكلاهما "دار إسلام"، ينقسم البشر من حيث موقفهم العمراني، وتوافر شروط العمران فيهم إلى "أمة إجابة" و"أمة دعوة" يسود بينهما التفاهم والانسجام، ويكون "الجهاد" آنذاك هو ذلك التفاعل والجدل المستمر بين "الإجابة والدعوة"، والحركة الدائمة بين الفريقين لتحقيق "القيم الحاكمة"، و"المقاصد العليا" في التوحيد والتزكية والعمران.   الهوامش:
[1]- راجع مجلة "Foreign Affairs" عدد صيف عام 1993، مقالة "Samuel Huntington". [2]- عنوان الكتاب "The Clash of Civilizations" والمؤلف هو "Samuel Huntington" مطبوع في New York، سنة 1996. [3]- فالذين ورثوا الإسلام وراثة يجدون راحتهم أحياناً بالتقليد وأحياناً بالقياس، وأحياناً بالفهم الخاطئ للقدر، وأحياناً بالاستعلاء بالإيمان، استعلاءً لا تتوافر فيه الشروط الموضوعية، وكل ذلك من خصائص "العقلية السكونية" التي لا تعرف إلى القلق المعرفي سبيلاً. أما هؤلاء فقد جاءوا من خلفية أخرى لا تسمح كثيراً باللجوء إلى الأساليب التي ذكرنا، لذلك فهم يتجهون إلى نوع من التصوف قد لا يندرج في دوائر "التصوف السني" مما يخلق – في كثير الأحيان – بينهم وبين المسلمين الذين ورثوا الإسلام إرثاً شيئاً من الجفاء أو الشك أو عدم الثقة بحسن إسلامهم، واستقامته. فندفعهم إلى الانزواء عنا، والانفصال عن دوائرنا "انظر: الجدل الذي أثير حول صحة إسلام جارودي في الأزهر وغيره" وكان علينا أن نستفيد من طرائقهم في طرائقهم التعامل مع تراثنا وتراثهم، صورة عن مسلم الغد ابن العالمية الثانية، القادم من مختلف الثقافات العالمية البائدة منها والسائدة، إضافةً إلى القادمين من ثقافتنا وتراثنا وخصائصه التراثيّة.

[4]- راجع كتاب "الشرق الأوسط الجديد" لشيمون بيريز، طبعة القاهرة، 1995، الفصل الرابع. ويلاحظ أن أمريكا بعد أحداث سبتمبر أمكن استدراجها، واستغلال صدمتها وفجيعتها باختراق أمنها، وتهديد شعبها لتنفيذ هذه الخطة بحذافيرها، فهل أدرك بن لادن وأبو غيث والملا عمر ذلك؟!

المصدر: كتاب خطابات عربية وغربية في حوار الحضارات

ارسال التعليق

Top