• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الجهاز الحركي العضلي يزخر بالمعجزات

الجهاز الحركي العضلي يزخر بالمعجزات
  ◄تشكِّل العضلات حوالي (40%) من الوزن الكليّ لجسم الإنسان.

تتألف العضلة الواحدة من عدد كبير من الحزم العضلية، في كلِّ حزمة عدد كبير جدّاً من الألياف العضلية. يتراوح طول الليفة العضلية من بضعة ميليمترات إلى أكثر من (30) سم، وذلك بحسب طول العضلة. هناك عضلات صغيرة جدّاً كالتي نشاهدها في الوجه وبين عظام مشط اليد والقدم، بينما يزيد طول عضلات الفخذ والساق والظهر عن (30) سم. أمّا قطر الليفة العضلية فإنّه يتراوح بين (8-100) مايكرون.

تتألف الليفة الواحدة من عدد هائل من اللويفات Myofibrils، هذه اللويفات على نوعين:

-         ميوسين Miocene Filaments وهي دقيقة وعددها حوالي (1500) لويفة خيطية في الليفة العضلية الواحدة.

-         أكتين Actinia Filaments وهي أدقُّ بكثير من لويفات الميوسين وعددها (3000) في كلِّ خلية (ليفة) عضلية.

يتألف الأكتين والميوسين من بروتينات ذات قدرة كبيرة على البلمرة والزيادة، وقدرة كبيرة جدّاً على الانقباض والانبساط.

تبدو جزيئات الأكتين والميوسين بعد تكبيرها تحت المجهر الإلكتروني على شكل خطوط عريضة وأخرى ضيِّقة متناسقة بشكل يأخذ الألباب.

وبما انّها تبدو كنسيج مخطَّط تحت المُجْهِرْ، لذا سمّاها العلماء العضلات المخطَّطة. وبما أنّنا لا نرى هذا التخطيط الجميل في العضلات الموجودة في جدار الأمعاء والشرايين وغيرها من العضلات اللاإرادية، لذا أطلق عليها العلماء اسم العضلات الملساء.

تبرز من حواف كلّ خيط من خيوط الميوسين نتوءات صغيرة تدخل في خيط الأكتين. بهذه التصميم الرائع أضحت اللويفات متشابكة ببعضها بعضاً، وبذلك تصبح الحزمة اللويفية الواحدة وحدة واحدة تنقبض وتنبسط بكلِّ عناصرها في آن واحد.

هذا ومن ناحية أخرى فقد قدَّر العليُّ الحكيم ديسكات بروتينية دقيقة تربط مجموعات اللويفات ببعضها بعضاً، فتصبح الليفة (الخلية) العضلية الواحدة وحدة متكاملة تنقبض وتنبسط بأكملها بمجرد أن يتحرَّض أحد لويفاتها أو أحد مجموعاتها اللويفية، فتبدو وكأنها وحدة واحدة. وبما أنّ الألياف العضلية تسبح في وسط ناقل للتيار العصبي، لذا ما إن يصل التنبيه العصبي إلى أحد ألياف العضلة أو إلى جزء صغير من أجزائها حتى تتنبَّه وتتحرَّض العضلة بأكملها وفي آن واحد، فتنقبض كوحدة واحدة، وبذلك ستصبح حصيلة انقباض اللويفات الدقيقة المجهرية حركة قوية وفعّالة!! لله ما أروع هذا التصميم وهذا الخلق الفذّ.

ولولا هذا التصميم المذهل الذي جعل اللويفات تنقبض وتنبسط في آنٍ واحد، لما كان بمقدور أحدها أو بعضها أن يُحدث حركة واضحة.

وإنّ الأعصاب التي تأتي بالأوامر الحركية من الدماغ ومن النخاع الشوكي تحتوي على ألاف عدة من الألياف العصبية التي سينتهي كلّ منها بتفرعات نهائية كثيرة، ينتهي كلّ منها على سطح أحد الألياف العضلية. وبما أنّ الألياف العضلية متشابكة ومتَّصلة ببعضها بعضاً بمواد بروتينية ناقلة للتيار العصبي (الديسكات)، لذا فإنّ كلَّ نهاية عصبية ستحرِّض ما ينوف على (10.000) ليف عضلي، وبذلك فإنّ الألياف العصبية الكثيرة التي تشكِّل العصب الحركي ستحرِّض مجموعات كبيرة من العضلات لتحدث انقباضاً عضلياً وحركة كبيرة وفاعلة كالمشي والقفز وكافة الأعمال اليدوية والمهنية واليومية.

تعتبر الليفة العضلية وحدة البناء في العضلات، وهي تقابل الخلية في الأنسجة الأخرى. وكباقي خلايا الجسم تحتوي الخلية العضلية على غشاء يحيط بها ويحفظها، وفيها هيولى (سيتوبلازم) والتي سمّاها العلماء بالساكروبلازم، وهي غنيّة بالسكريات والبروتينات والأدينوسين ثلاثي الفوسفات ATP. كما تحتوي الليفة العضلية على البوتاسيوم والكالسيوم والمغنزيوم والفوسفات بكمية تفوق باقي خلايا الجسم، وفيها نواة وأجهزة وعضيّات دقيقة تماماً كما في غيرها من الخلايا.

وبما أنّ الخلية العضلية شديدة الحركة والنشاط، فهي بحاجة ماسة إلى كميات هائلة من الطاقة، لذا قدَّر الخالق العظيم في سيتوبلازمها عدداً كبيراً من الميتوكوندريا المتخصِّصة في صناعة الأدينسين ثلاثي الفوسفات، الذي يعتبر بمثابة البنزين للسيارة، والذي سيحترق عند الحركة والنشاط العضلي لينتج الأدينوسين ثنائي الفوسفات وطاقة هائلة صادرة على الجزيء المحترق.

كما قدَّر العليُّ القدير الشبكة الإندوبلازمية ومنحها قدرة هائلة على صناعة الأغذية اللازمة للنشاطات العضلية المختلفة، وقدرة مذهلة على تحويل هذه الأغذية إلى طاقة كامنة ومن ثمّ تخزينها في جسم الليفة العضلية لتستهلكها كلما دعت الحاجة إلى ذلك (في حالات الإجهاد العضلي).

الشيء المميّز للخلية العضلية طولها الكبير، فهي تمتد من إحدى نهايتيّ العضلة إلى نهايتها الأخرى مهما كانت العضلة طويلة، لذا قد يزيد طول الخلية العضلية (الليفة) عن (30) سم كما في عضلات الطرف السفلي والظهر.

أما آلية انتقال السيّالة العصبية من النهايات العصبية إلى العضلات فإنّها تجسيد حيٌ آخر لإعجاز إلهي فذٍ آخر.

بعد أن تصدر الأوامر من القشرة الدماغية ومن النخاع الشوكي تستقبلها مراكز حسية دقيقة في الألياف العضلية تدعى اللويحات الحركية Plates motor end.

تتشكّل هذه اللويحات من التقاء أحد التفرّعات النهائية للِّيف العصبي الحامل للشيفرة الحركية مع لويحة دقيقة خاصة في الألياف العضلية.

تصنِّع الميتوكوندريا الموجودة في النهاية العصبية مادة الأسيتايل كولين Acetyl Choline وتخزِّنها في الحويصلات الإفرازية الموجودة بغزارة في اللويحة الحركية. وبمجرد وصول سيّالة عصبية إلى النهاية العصبية سينطلق الأسيتايل كولين المخزون إلى صحن اللويحة، الذي هو في واقع الأمر جزء من جدار الخلية (الليفة) العضلية.

يلتصق الهورمون العصبي الناقل للتيار (الأسيتايل كولين) بمعايير بروتينية في اللويحة فيحرِّضها، وبتحريضها ستنفتح معابر الصوديوم التي ستسمح بدخول هذه الشاردة الموجبة إلى داخل الخلية فيغيِّر من شحنة جدارها. ينجم عن هذا التغيُّر سيالة عصبية تسري في أنحاء الليفة العضلية والألياف المتصلة بها فتتحرَّض كلّها في آن واحد. وبتحريض الليفة ستتحرَّض شبكتها الإندوبلازمية فتطلق كمية كبيرة من شاردة الكالسيوم المخزونة فيها. وببلوغ الكلس إلى خيوط أو لويفات الأكتين والميوسين فإنّها ستتحرَّض وتنقبض.

هذه الانقباضة بسيطة جدّاً وغير قادرة على إحداث حركة ظاهرة إلّا إذا حدثت وفي آن واحد في مليارات اللويفات في ملايين الألياف العضلية والحزم العضلية التي تشكل مجموعات عضلية متجانسة الوظائف.

بعد انتهاء الحركة وبسرعة البصر تعود شوارد الكلس إلى مخبئها في الشبكة الإندوبلازمية فتتلاشى الحركة وتهمد العضلة ومعها الطرف، ويحدث الانبساط أو الاسترخاء العضلي، كما تعود شحنة جدار الليفة العضلية إلى حال الهمود والاستقرار.

خلال هذا النشاط البيولوجي سيُستهلك الأسيتايل كولين الذي تمّ إفرازه، أمّا الذي لم يتمّ استهلاكه فيتحطم ويبطل مفعوله بواسطة إنزيمات خاصة موجودة في اللويحة الحركية.

بعد ذلك تصنِّع الميتوكوندريا الموجودة وبغزارة في التفرعات العصبية النهائية مادة النقل العصبي الفعّالة (الأسيتايل كولين) بسرعة مذهلة وتخزِّنها في الحويصلات الإفرازية Vesicles بانتظار مهمة أخرى، هكذا. ولكن الاحتياطي الإلهي من هذه المادة يكفي لإنجاز (10.000) تحريض عضلي في اللحظة الواحدة! وهذا ما يفسِّر قدرة الكائنات الحيّة على الكدِّ والعمل ساعات طويلة من دون كلل ولا نصب. فسبحان الخالق العظيم، وسبحان العليم الحكيم.

أمّا الطاقة التي لابدَّ منها لإنجاز هذه الأعمال الدقيقة والتي تعتبر بمثابة الوقود للآلات، والتي يجب أن تتوافر بغزارة في الأعضاء النشطة كالعضلات، فقد قدَّرها العلي القدير في الألياف العضلية وبكميات كبيرة تحت اسم الأدينوسين ثلاثيِّ الفوسفات الذي يُنتج عند احتراقه طاقة هائلة تحرِّك العضلات وتنجز الحركات والأعمال مهما كانت مجهدة.

أما التفاعلات التي تحدث عند احتراق هذه المادة وعند إصدار الطاقة فإنّها معقّدة ولا حاجة للخوض في الحديث عنها، ولكن وكفكرة عامة وباختصار كبير أقول: إنّ رأس لويفة الميوسين يتصرَّف وكأنّه إنزيم ATP-ase فيشطر جزيء الأدينوسين ثلاثي الفوسفات فيحوِّله إلى أدينوسين ثنائي الفوسفات. أما الجزيء الثالث فإنّه سيحترق ليطلق طاقة فاعلة وقوية تغطي حاجة العضلات.

أمّا آلية الانقباض فإنّها تتم بانزلاق لويفات (خيوط) الأكتين بين لويفات الميوسين فتتراكب اللويفات داخل بعضها وفوق بعضها بعضاً لتحدث التقلُّص المعروف في شكل العضلة وقوامها.

يتم جرُّ لويفات الأكتين بين لويفات الميوسين بواسطة زوائد أو كلّابات خاصة تبرز من الميوسين وتنغرس في الأكتين. تتركَّب لويفة الميوسين كيميائياً من (200) جزيء من بروتين الميوسين. يبلغ وزن اللويفة الجزيئي (480.000). أمّا بروتين الميوسين فإنّه يتألف من ست سلاسل: سلسلتان ثقيلتان، وزن الواحدة منهما (200.000)، وأربع سلاسل خفيفة، وزن الواحدة منها (20.000).

تتركَّب هذه السلاسل الست من عدد كبير من الببتيدات Polypeptides. تتحلزن السلسلتان الثقيلتان على بعضهما بعضاً لتشكِّلا جسم الميوسين، كما تلتفُّ عند إحدى نهايتيها لتشكِّل رأس الميوسين النشط. يبرز من جسم الميوسين أطراف أو زوائد تنتهي كلٌّ منها برأس صغير يلعب دور الكلّابة الذي سيمسك بلويفة الأكتين عند مراكز النشاط على سطح الأخيرة فيحرِّضها على النشاط والانقباض. يبلغ طول لويفة الميوسين (1.6) مايكروميتر. وبما أنّ رأسه مركز النشاط والحيوية، فإنّه يشطر جزيء الأدينوسين ثلاثي الفوسفات فيطلق طاقة كبيرة.

أمّا لويفة الأكتين فإنّها تتألف من ثلاثة أنواع من البروتينات هي: الأكتين – ف Actine-F والتروبوميوسين Tropomyocine والتروبونين Troponine.

يتركّب البروتين الواحد من عدد كبير من الـG-actine، يزن كلّ جزيء منها (42000) ويتصل بها جزيء من الأدينوسين ثنائي الفوسفات الذي يرتكز على مراكز النشاط المتوضِّعة على لويفة الأكتين، وهي المراكز ذاتها التي ترتكز عليها سيقان وكلّابات الميوسين أثناء الانقباض العضلي.

تتوزَّع هذه المراكز النشطة Active Sites على سطح الأكتين بشكل منتظم، وهي متباعدة عن بعضها مسافة (207) نانوميتر، فلا هي تزيد عن هذا البُعد ولا تقلِّل، لتؤكِّد من خلال هذا الخلق الدقيق المحكم أنّ يداً حكيمة قدَّرتها وأبدعتها، وبذلك تنفي عنها فكرة النشوء الذاتي العشوائي.

يبلغ طول لويفة الأكتين ميكروميتراً واحداً. ترتكز قاعدتها على الديسك الفاصل بين أجزاء الليفة أو بين المجموعات اللويفية في الليفة الواحدة Z-Disc، أمّا نهايتها الأخرى فإنّها طليقة وهي تمتد في جسم الليفة بين لويفات الميوسين.

يبلغ الوزن الجزيئي لبروتين التروبوميوسين حوالي (70.000) وطوله (40) نانوميتر وهو ملتف بشكل حلزوني حول جزيء الأكتين، وبما أنّه يلعب دوراً مثبِّطاً لنشاط الأكتين فإنّه يبقى ملتصقاً به ليغطي مراكزه النشطة في حالات الراحة والاسترخاء العضليين.

أما بروتين التروبونين فإنّه صغير جدّاً ويتمركز عند نهايتي بروتين التروبوميوسين ليدعم الأخير في دوره المثبِّط للأكتين ولرأس الميوسين.

ما إن تصل الأوامر الحركية من الدماغ والنخاع الشوكي عبر النهايات العصبية التي ستصبّ في لويحات الحركة حتى تفرز النهايات العصبية مادة الأسيتايل كولين الناقلة للتيار العصبي في صحن اللويحة فتحرِّض الأخاديد والمعابر البالغة الدقة التي قدّرها العلي الحكيم في جدار الألياف العضلية. ينجم عن هذا التحريض إفراز كميات كبيرة من شاردة الكالسيوم من الشبكة الإندوبلازمية الموجودة داخل الخلية (الليفة) العضلية، كما سيعبر الكالسيوم والصوديوم إلى جسم الخلية من الوسط المحيط بها عبر قنوات خاصة في صحن اللويحة الحركية.

يثبِّط الكالسيوم التروبوميوسين والتروبونين فيزول بذلك تأثيرهما المثبِّط على لويفة الأكتين وعلى رأس الميوسين الشديد النشاط والحيوية. وبتوافر الكالسيوم والمغنزيوم والطاقة (الأدينوسين ثلاثي الفوسفات) في جسم الليفة العضلية ستتفجّر الطاقة لتحدث نشاطاً حركياً في العضلات والأطراف المعنية من خلال انقباض مليارات المليارات من لويفات الأكتين والميوسين.

إذا تأملتَ في بنيان النسيج العضلي وفي تصميمه الرائع وفي الآلية الفذّة التي تحرِّكه وفي السيطرة الدماغية العليا التي تتحكم به وبالعضوية جمعاء فإنك ستخشع لعظمة الله وجلال قدره وعلمه الواسع وحكمته اللامتناهية، وستسخر في الوقت نفسه من فكرة النشوء الذاتي، الذي قيل عنه: إنّه ظهر نتيجة صدفة ونتيجة ضربة عشوائية تمخَّضت عن كلِّ ما في الكون من مخلوقات وسماوات ونجوم ومجرات وأنظمة بالغة التعقيد والدقة.

وإذا تأمّلتَ في السرعة الخيالية التي تتم فيها حركة من الحركات، فإنّك ستدرك روعة الخلق الذي سترى فيه آيات العلي القدير جليّة ساطعة، فينجلي الصدأ من نفسك الزائغة المتشكِّكة، وينجاب عن قلبك ما اعتوره من هواجس شيطانية وفلسفات مادِّية ملحدة، وسيشرق وجهك بنور الإيمان وستعود إلى ما كان عليه الآباء والأجداد.

ولكي تدرك مدى السرعة التي تتمُّ بها التفاعلات الحيوية في التشابكات العصبية الكثيرة التي تحدثها السيّالة العصبية ابتداءً من صدور الأوامر الحركية من القشرة الدماغية وانتهاءً بالحركة وانقباض العضلات فما عليك إلّا أن تضمر بينك وبين نفسك أنك تريد أن تحرِّك إبهام قدمك فبمجرد أن تضمر ذلك تتم الحركة بشكل تلقائي ومتزامن مع النيّة!! علماً أنّ الإبهام أبعد عضو عن الدماغ!

فهل هناك تفاعلات كيميائية تتم بهذه السرعة المذهلة؟ وهل هناك سرعة تعادلها؟ وهل يُعقلُ لهذه العضوية المعقّدة والتصميم الفذّ أن يظهر تلقائياً أو بمحض الصدفة؟ وهل بإمكان الطبيعة التي لا تعقل ولا تدرك أن توجِدَ مثل هذا الخلق العظيم؟ وهل بإمكان علماء الجن والإنس مهما ارتقوا على سلّم الحكمة والعبقرية والعلم أن يوجدوا بنياناً على شاكلة النسيج العضلي؟

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ) (الطور/ 35-36).

ولو كان هذا الخلق عشوائياً أو أبدعه أحد غير الله، لما جاء على هذا النحو من الكمال والبهاء والروعة:

(ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (الأنعام/ 102).

نعم إنّه الله ربي:

(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (السجدة/ 7).

لقد شاءت الحكمة الإلهية الرشيدة أن تجعل في أجسامنا عضلات إرادية (مخطّطة) نحرِّكها متى شئنا وأنّى شئنا لنتمكن من خلالها من الكدّ والسعي ولنمارس ما شئنا من عبادات ورياضات وهوايات وأعمال، وبعد أن يرخي الظلام أسداله وتسكن العباد استعداداً للنوم، تنشط الغدة الصنوبرية في الدماغ فتفرز الميلاتونين الذي سيثبِّط الجهاز العصبي المركزي فيهدأ ويستقر وتسترخي العضلات وتهمد.

أما العضلات اللاإرادية والتي نسميها في عالم الطب بالعضلات الملساء والتي قدَّرها الخالق الحكيم جلّ جلاله في أعضائنا وأحشائنا لتعمل من تلقاء نفسها دون سيطرة أو سلطان أو إرادة فإنّها تعمل دون توقّف ليل نهار، أثناء الحركات والسكنات، منذ نفخ الروح في الجسم وحتى نزعها منه.

تسيطر هذه العضلات اللاإرادية على عمل القلب والرئتين والشرايين والقناة الهضمية ابتداءً من المريء وانتهاءً بالشرج والمستقيم. وبما أنّها لا تخضع لسلطان الإنسان وإرادته، فهي تعمل ليل نهار، أثناء اليقظة وأثناء السبات، فلو كانت عضلة القلب وعضلات الجهاز التنفسي إرادية، لكان لزاماً على الإنسان أن يبقى مستيقظاً ويقظاً على الدوام، في الليل وفي النهار، منذ الولادة وحتى الانتقال إلى العالم الآخر ليسيِّر هذه العضلات وهذه الأجهزة ليبعد عن نفسه شبح الموت.

ولو كانت هذه العضلات إرادية لتوقَّفت وسكنت مع سكون النوم، إلا إذا كانت لدى النائم القدرة على الوعي والسيطرة، وهذا ضرب من المستحيل. ولو فرضنا هذا ممكناً فإنّه يعني حرمان الناس لذّة النوم والقيلولة:

(جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) (يونس/ 67).

أمّا مبصراً فإنّها تعني القيام والكدّ والسعي. وبما أنّ الكدّ النهاريّ والعناء بحاجة إلى راحة ليلية لتسترخي العضلات وتستجمّ ولتتجدّد قواها فتصبح قادرة على السعي بهمة وحيوية في اليوم التالي، لذا جعل الخالق الحكيم في دماغنا غدة صغيرة تدعى الغدّة الصنوبرية، التي تفرز مادة الميلاتونين في الليل من دون النهار، لتجعل النوم عميقاً هادئاً وممتعاً. لقد تأكّد للعلماء أنّ الظلام الدامس والسكينة والاستقرار تزيد من إفراز الميلاتونين، وأنّ الصخب والنور يحولان دون إفراز هذه المادة السحرية، لذلك يبقى النوم النهاري سطحياً مضطرباً وقصيراً ولا يُضفي على الجسم الراحة والاستجمام، وبذلك سيفقد من اعتاد النوم في النهار من دون الليل القدرة على التفكير والتركيز والإبداع.

هل بإمكان أحد غير الله أن يأتينا بليلٍ نسكن فيه:

(مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) (القصص/ 72).

وهل بإمكان عاقل أن يُبهت هذه النعمة العظيمة حقّها من الإجلال والتكريم؟

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (القصص/ 72-73).

فتبارك الخالق الحكيم، وتبارك المبدع العظيم، وتبارك الرّحمن الرحيم، وتبارك الذي بيده ملكوت كلّ شيء وهو على كلِّ شيء قدير.

لقد كشف لنا سبحانه وتعالى حجاب الغيب عن بعض آياته وآلائه لندرك وجوده ولنرى آياته الرائعة في كلِّ ما خلق وبرأ فنؤمن به إيماناً يقينياً ثابتاً ومحصّناً من الريب والهواجس، صامداً لا يتخاذل أمام شياطين الجنِّ والإنس ووساوسهم وفلسفاتهم بكافة انتماءاتهم الفكرية والإيديولوجية!

(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصّلت/ 53).

وقال سبحانه:

(قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (الأنعام/ 104).

فالحقّ سطع وبان، فمن تعامى عنه واتَّبع سبيل المجرمين الضالين المضلِّين من مستشرقين مارقين أو فلاسفة ماديين آثمين ملحدين أو ماركسيين متعنتين فإنّه آثم قلبه ظالم لنفسه ومفرِّط في جنب الله وجاحد لآياته وآلائه وربوبيته جلّ جلاله، وما يجحد بها إلّا كلُّ ختّال كفور. أولئك متبَّر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون، وأولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك الأغلال في أعناقهم، وأولئك هم وقود النار:

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ) (الحج/ 8-9).►

 

المصدر: كتاب الإعجاز الإلهي في خلق الإنسان وتفنيد نظرية داروين

ارسال التعليق

Top