قليلة هي الأبحاث التي تتناول الإتصالية في الشعر العربي.. فالشعر من أهم الوسائل الإعلامية والإتصالية، وكان الشعر في العصر الجاهلي من أكثر الوسائل الإتصالية تواصلية، وظلّ وسيلة اساسية للإعلام وذلك لسهولة حفظه بوصفه كلاماً موزوناً ومُوقّعاً في مقابل صعوبة الإعتماد على الكتابة النثرية لقلة أدواتها (الورق والأقلام).
لجأ الناس في الجاهلية إلى الكتابة الورقية في الشؤون الخطيرة جدّاً، كالمعاهدات والمواثيق. أمّا بالنسبة للشعر، فقد كان للعرب أسواق تجارية وأدبية في الوقت نفسه، وأهم تلك الأسواق: عكاظ وذي المجنة والمربد (فيما بعد في البصرة) وللشعر حظوة فيها. وكان الحضور إلى هذه الأسواق موسمياً، بما يشبه المهرجانات في أيامنا هذه، ويجيء إلى هذه الأسواق الشعراء الناطقون بأسماء قبائلهم بصحبة رواتهم، ومهمّة (الرواة) حفظ القصائد وإنشادها في غياب الشاعر. ولكل شاعر راويه يحفظ شعره وينشده ويذيعه بين الناس.
فـ(الراوي) – حسب الشاعر محمد عبيدالله – يشبه الوسيلة الإعلامية في أيامنا هذه، وهو الوسيلة أو القناة. ولكن ما وظيفة الشاعر إذن؟!
لا نختلف مع الرأي القائل بأنّ الشاعر هو الأساس في العملية التواصلية والإتصالية، فهو يمتلك القصيدة، وأشعاره التي تنشد في الأسواق هي من النمط الذي يدافع فيه الشاعر عن قبيلته أو التي يروي فيها بعض أخبار أهله وعشيرته. ففي القصائد التي يقدمها الشعراء مديح للقبيلة، ودعوات تحريضية (دعائية) للذود عنها والإقلال من شأنها.
وتظهر ملامح الإتصالية في القصيدة العربية القديمة أيضاً في صيغة (الإبلاغ) التي ترد أحياناً فيها، ويقول محمد عبيدالله: "ورد ذلك كثيراً في الشعر الجاهلي"، وضرب مثلاً: أبلغ بني شيبان مألك.. ففي هذا المقطع الشعري طلب الإبلاغ. أمّا مألك، فتعني الرسالة، وكأنّ القصيدة وسيلة إبلاغ وإتصال، ويأخذ بناء القصيدة شكل الرسالة. والشاعر يمثل المرسل. أمّا القصيدة، فتمثل الرسالة بكل ما فيها من تفاصيل والمخاطب أو الملتقي يمثل المرسل إليه، المستقبل من الجمهور أو الفرد المطلوب إبلاغه بأمر ما.
وعن القَصَص (أي السرد) في الشعر كشأن إتصالي، ذكر الكاتب عبيدالله: "إنّ السرد يُقرِّب النص من النفس"، وهو قريب فعلاً من نفوس الناس؛ فالأشخاص يحبّون الذين يسلِّيهم ويرفِّه عنهم ويطرد أحزانهم ويبعد عنهم شبح الوحدة، ووسائل الإعلام تلعب هذه الوظيفة. وجاء الشعر في السابق ليؤدِّي وظيفة الترفيه التي تقوم بها وسائل الإعلام في وقتنا الحاضر.
ونشير هنا إلى نمطية القصص الجاهلي، بمعنى أنّه متكرر عند سائر الشعراء، وهذا ما يجعل منه مادة معروفة من الناس وقريب من نفوسهم. فالشاعر الجاهلي كثيراً ما يكتفي بالإشارة إلى القصة دون أن يسردها لعلمه أنّها معروفة عند الجمهور أو عند المتلقين؛ كأن يكتفي الشاعر بومضة سريعة توخياً للإيجاز، ومثال ذلك البيت الشعري التالي:
وقد وعدتك موعداً لو وفت به/ كموعد عرقوب أخاف بيثرب
لقد كانت قصة عرقوب شعبية ومعروفة عند المتلقي قبل الإسلام، يضربونه مثلاً لإخلاف الوعد.
كما أنّ القصة المروية في الشعر بطبيعتها تعتمد على عنصري التشويق والتتابع في سرد الأحداث، مما يدفع المتلقي الذي يبدأ بالإستماع إليها أو بقراءتها أن يكمل تواصله معها حتى تصل الأحداث إلى غاية تطمئن (تتوقف) عندها نفسه.
والذات شيء جوهري في الشعر الجاهلي، فلم يكن الشاعر مستغرقاً فيما هو قبلي وعام مقابل التخلي عن ذاته ورؤيته الخاصة أو الشخصية للكون والحياة وللأشياء. ففي جانب واسع من الشعر الجاهلي نلمس تأملاً وجودياً فطرياً، يحاول الشاعر فيه أن يجد إجابات مقنعة لمعضلة المصير وما يتصل بها من قضايا الحياة والموت والخلود. لم يتوقف الشاعر عند الواقع فقط، بل تجاوزه إلى الهم الإنساني الشامل والعام.
ولم يكن مفهوم الأسطورة بالنسبة للشاعر الجاهلي كما هو عندنا اليوم، فقد كانت الأسطورة معتقداً للشاعر الجاهلي قبل الإسلام، ينطق به. أمّا نحن في أيامنا المعاصرة، فإنّنا نفهم الأسطورة على أنّها مرادفة لما هو خيالي وغير واقعي وغير صحيح. بينما عند الإنسان القديم، فقد كانت الأسطورة تمثل مجموع تصوراته للكون والحياة. كانت هي الدين نفسه.
ولعبت الأسطورة (الدين) دوراً مهماً – في الجاهلية – كونها كانت تمثل العامل المشترك في الوجدان الجمعي للإنسان العربي آنذاك. وبالتالي، لعبت الأسطورة دوراً إتصالياً أو تواصلياً. فقد كانت المشترك المتفاعل بين الشاعر والآخرين.
ولم يستطع الإنسان في العصور السابقة مخالفة الطقس مهما كانت دوافعه وخطورته، فلا يجوز تجاوزه. ولعبت الأسطورة أيضاً دوراً إتصالياً بين الناس كما الشعر أو من خلاله. وكانت الأسطورة ترتدي لباس الشعر لتكون أكثر تشويقاً وزخرفة وتزويقاً وكرنفالية.
وهناك أسطورتان لهما دلالات إتصالية كعلامات أو رموز إشارية:
الأُولى: وتتحدّث عمّا نُسمِّيه (طقس الميلاد الجديد) وهي طقس قديم موجود عند العرب والأُمم الأُخرى. فعندما يتعرّض شخص ما للخطر، ينفلت بإتجاه أقرب إمرأة كبيرة في السن، ثمّ يلقي بنفسه إليها، كأن يدخل في ثيابها. عند ذاك يُعد، بحسب التصوّر القديم، إبناً لها عندما يخرج من ثيابها. في هذه الحالة، ينبغي على أبناء هذه المرأة أو إخوانها أن يدافعوا عن الإبن الجديد.
مثل هذه الطقوس نلاحظها أيضاً في أيامنا الحالية عند الشركس والفلسطينيين. وهذا الطقس الأسطوري أصبح مألوفاً، حتى أنّه قام بوظيفة (إبلاغية) بالنسبة للمطاردين ولأهل المرأة نفسها. فعندما يستل الفلاح الفلسطيني منديل فتاة عن كتفيها أو رأسها تصبح له أو مستحقاً عليه الزواج منها حتى لو كان أهل الفتاة رافضين له في السابق.
الثانية: حكاية طائر العُقاب، الذي يستخدم كرمز من رموز الحرب. فراية المعركة كان إسمها عقاب (كراية الرسول محمد -ص-)، وكثير من الخيول المنحاربة أطلق عليها إسم عقاب، وظهر ذلك في شعر العرب قبل الإسلام. وكانت الخيل (خيول الغارة) تشبَّه بالعقاب في القصيدة الجاهلية من أجل إيصال رسالة ما إلى الأعداء، كون العقاب من أقوى الطيور ويحمل ثقلاً وجدانياً محملاً بالقوّة والنصر والبطولة.
على القصيدة أن تمتلك مفاتيح محددة كي تكون قريبة من المتلقي، ويظهر ذلك عندما يتمكّن الشاعر من تجاوز جزء من دائرة الآخر (أي البُعد الذاتي للمتلقي). وينبغي على الشاعر أن يعبر بذاته إلى الآخر، بحيث يصبح النص مشتركاً بين المبدع والمتلقي، ويتم ذلك عن طريق عدّة تقنيات:
- بإثارة قضايا عامة في الشعر من خلال رؤية ذاتية، كالقضايا الوطنية أو القومية. وهي وسيلة تواصلية، بحيث يحتوي النص على شيفرات مشتركة بين المرسل (الشاعر) والمتلقي (الجمهور).
- أو بنظم قصيدة (المفارقة) القصيرة التي تصدم وعي المتلقي، وشعر راشد عيسى ومحمد لافي يمتلك لهذه المواصفات. وأحياناً نجد أنّ الشاعر نفسه يكتب قصيدة ذات مواصفات تواصلية. فقصيدة المفارقة تحفِّز المتلقي على الإنشغال الذهني في مضامينها، وبالتالي تلقيها. وهناك مَن يستخدم السخرية والنكتة بإعتبارها أدوات لإلتقاط إنتباه المتلقي (القارئ أو المستمع).
هذا، ويحتاج الجانب الإتصالي والإعلامي في الأدب القديم والمعاصر إلى تسليط الضوء أكثر من لدن الباحثين، بالإستناد إلى منهج التفسير الإعلامي للأدب والفن والثقافة، الذي نطلق عليه المنور الإتصالي (الميديالوجي).
المصدر: كتاب (مبادئ في الإتصال)
ارسال التعليق