• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الذِّكر (supplication)

الذِّكر (supplication)
يقول العلامة الراغب الاصفهاني: "الذكر تارة، يقال ويراد به هيئة للنفس، بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة، وهو كالحفظ، إلا أنّ الحفظ يقال اعتباراً بإحرازه، والذكر يقال اعتبارا باستحضاره. وتارة يقال لحضور الشيء القلب أو القول، ولذلك قيل الذكر ذكران: ذكر بالقلب، وذكر باللسان، وكل واحد منهما ضربان: ذكر عن نسيان، وذكر لا عن نسيان بل عن ادامة الحفظ. وكل قول يقال له ذكر، فمن الذكر باللسان قوله تعالى: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ) (الأنبياء/ 10). والذكر هو القرآن كما في قوله تعالى: (هَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ) (الأنبياء/ 50)، (هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) (الأنبياء/ 24)، (أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا) (ص/ 8). وهو الشرف الجامع للمحامد والثناء، وهو الصيت الذائع، كما في قوله تعالى: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) (ص/ 1)، (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (الزخرف/ 44). وأما في قوله تعالى: (قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولا...) (الطلاق/ 10-11)، فالذكر ههنا، وصف للنبي (ص)، كما انّ الكلمة وصف لعيسى (ع)، من حيث أنّه بشر به في الكتب المتقدمة، فيكون قوله، رسولا، بدلاً منه. والذكر في قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) (النحل/ 43)، (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) (الأنبياء/ 105)، هو الحي عامة، والكتب المتقدمة خاصة. ويقول العلامة الراغب الأصفهاني أيضاً: "ومن الذكر عن النسيان قوله تعالى: (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) (الكهف/ 63). ومن الذكر بالقلب واللسان معاً، قوله تعالى: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) (البقرة/ 200)، (فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) (البقرة/ 198)". ولعل من أدق مدلولات الذكر هو الوجود، الذي يعني الحضور الدائم ذاتا وصفة، وقد أشار إلى ذلك الراغب الأصفهاني في قوله تعالى: (هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) (الإنسان/ 1)، فقال: "أي لم يكن شيئاً موجوداً بذاته، وإن كان موجوداً في علم الله تعالى". وكلما إزداد الذكر عند الذاكر المخلوق إزدادت عنده نسبة الحضور والوجود، وهنا نجد أسباباً خفية وروابط تلمح من بعيد بين الذكر ونظرية المعرفة، وتحقيق هذا الأمر ليس عسيراً على من يريد التوسعة والتفصيل. ومثل ذلك نقدر ان نرى في قوله تعالى: (أَوَلا يَذْكُرُ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ) (مريم/ 67)، فإلى جانب معنى التذكر في الآية، يظهر معنى التدبر والتأمل، فهل الإقلاع عن الغفلة والعناد إلا العودة إلى أعمال الفكر وانشغال العقل!. وقد اكتفى الراغب الاصفهاني عند ذكر هذه الآية بقوله: "أي أولا يذكر الجاحد للبعث أوّل خلقه، فيستدل بذلك على اعادته"، ولا نشك انّه يحمل المعنى الذي ذكرناه. وللعلامة الطباطبائي كلام في الذكر تطوف عليه حلاوة الاستنباط، يقول عند الآية: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (البقرة/ 152): "انّ الذكر ربما قابل الغفلة، كقوله تعالى: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا) (الكهف/ 28)، وهي انتقاء العلم بالعلم، مع وجود أصل العلم. فالذكر خلافه، وهو العلم بالعلم. وربما قابل النسيان، وهو زوال صورة العلم عن خزانة الذهن، فالذكر خلافه، ومنه قوله تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) (الكهف/ 24)... والظاهر أنّ إطلاق الذكر عن الذكر اللفظي من هذا القبيل، فإن التكلم عن الشيء من آثار ذكره قلبا، قال تعالى: (قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا) (الكهف/ 83)، ونظائره كثيرة. ولو كان الذكر اللفظي أيضاً ذكر حقيقة، فهو من مراتب الذكر، لأنّه مقصور عليه ومنحصر فيه، وبالجملة الذكر له مراتب، كما قال تعالى: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد/ 28)، وقال: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) (الأعراف/ 205)، وقال تعالى: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) (البقرة/ 200)، فالشدة يتصف بها المعنى دون اللفظ". وما أجمل الأبيات التي يرويها للشلبي، وما أحلى ألفاظها، وأبعد الحاظها!: ذكرتك، لا اني نسيتك لمحة **** وأيسر ما في اذكر ذكر لساني وكدت بلا وجد أموت من الهوى **** وهام علي القلب بالخفقان فلما رآني الوجد أنك حاضري **** شهدتك موجوداً بكل مكان فخاطبت موجوداً بغير تكلم **** ولاحظت معلوماً بغير عيان والذكرى: كثرة الذكر، وهو أبلغ من الذكر، قال تعالى: (رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ) (ص/ 43)، (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (الذاريات/ 55). والتذكرة: ما يتذكر به الشيء، وهو أعلم من الدلالة والأمارة، قال تعالى: (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (المدثر/ 49)، (كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ) (عبس/ 11)، أي القرآن. ويأتي على تعريف مراتب الذكر، ويعدد أمهاتها، وهي أربع: 1- المرتبة الأولى: الذكر اللساني، ويسمونه الذكر الجلي، وهو إجراء المذكور بأسمائه وأوصافه على اللسان، وحضور الذاكر عند الإجراء ذهناً وإحساساً، بحيث لا يغيب عن المذكور، حتى يصير المذكور أصلاً والذاكر تابعاً. 2- الذكر القلبي: الذي هو مصطلح الصوفية، ويسمونه بالذكر الخفي، وهو استيلاء المذكور على الذاكر، وله مراتب ودرجات، بحسب اقترانه بالذكر اللساني وعدمه، وبحسب الحضور والإتحاد والفناء في المذكور، والبقاء بعد الفناء وعدمه. 3- الذكر النفسي، وهو تذكر المذكور في النفس، وهو أيضاً له مراتب ودرجات بحسب الاقترانات المذكورة وعدمها. 4- تذكر المذكور عند كل فعل ونعمة، بتذكر أمره ونهيه وشكره، وله أيضاً مراتب ودرجات.

ارسال التعليق

Top