• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الاعتدال ومتطلباته

الاعتدال ومتطلباته
  ◄إنّ مادة الاعتدال تتكون من حروف: ع، د، ل، والذي يعني: العدل والإنصاف، كما أنّ لفظي: العدل، والإنصاف يحتلان مرتبة أولى، وأهمية أساسية في التوجيهات السامية للإسلام، وبالتالي فمصطلح: "الاعتدال" يُطلق على أداء الحقّ الكامل لسائر أصحابه في جميع القضايا، مهما حملت من أوجه الاختلاف وأسباب التناقض.

والاعتدال هو أصل حقيقي ونافع لأجل تحقيق النجاح العملي في جميع مجالات الحياة، وإبقاء كفة التوازن سائرة ومتواصلة، كما أنّ الاعتدال حاجة ملحة، وضرورة أكيدة لأجل ارتقاء الحياة ونموها، سواء خص ذلك الفرد أو الجماعة، وإذا تمسك فرد أو مجتمع بمنهج الاعتدال والتوازن، وجعل سائر شؤون حياته تابعاً لهذا الأصل والأساس سيُعتبر هذا الفرد والمجتمع عمليّاً وناجحاً، كما لا يمكن لأي فرد أو مجتمع أن يسمى كاملاً، ويعتبر نموذجاً وأسوة بدون العمل والتمسك بأسس الاعتدال والتوازن.

هذا وإنّ الإسلام كونه دين الصدق والبساطة والتوازن؛ يمنح هذه الأسس للاعتدال أهمية قصوى، ومكانة مرموقة؛ كأهمية الغذاء والدواء في حياة الإنسان؛ وذلك لأنّها تشكل هُوية الإسلام وأساسه، قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام/ 153).

إنّ الإسلام بطبيعته وفطرته يعلِّم الاعتدال والتوازن، ويطالب أتباعه أن يواصلوا سيرهم بتمسكهم بالاعتدال، وعدم الانحياد عن هذا الأساس، ولو لحظة، ويأمر أهله بإنجاز الأعمال والعبادات بالطريقة التي لا تكلفهم مشقة، ولا تسبب لهم حرجاً، فإذا ركزنا مثلاً على التسهيلات التي يمنحها الإسلام لنا عند أداء أركان الإسلام من الصلاة، والصيام، والحج، والزكاة؛ سندرك بسهولة أساس التيسير والتسهيل في تعليمات وتوجيهات الإسلام.

وقد قام العلامة ابن خلدون بتوضيح أهمية الاعتدال والتوازن والوسطية بشكل مفصل في مقدمته مبيناً بأنّه يجب على الإنسان أن يتخذ التوازن منهجاً له في جميع شؤون الحياة؛ وذلك نظراً لمنفعته العظيمة، وكونه سبباً للتقوى والفضل، ويمنح الإنسان الأمن والسلامة، ويحقق له الخير والعظمة، ويسبّب للفوز برضا الله، والتقرب إلى جنابه تعالى.

عندما نقرأ قصص الأمم السابقة التي ضلت عن الاعتدال، ونسمعها من العلماء والوعاظ، ثمّ نعرف من خلال دراسة التاريخ بأنّ هذه الأمم لم تتعرض للهلاك والإبادة إلّا بسبب إهمالها، وعدم التنبه إلى تمسك الجوهر العملي الحقيقي للوسطية والاعتدال، وقد قال النبي (ص): "إنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين".

وإذا قمنا بدراسة تاريخ الأُمم السابقة، نجد أنّها تمادت في الغلو في أنبيائهم إلى أن جعلتهم آلهة، وتجاوزت جميع حدود الإباحية، حتى أحلت ما حرمه الله تعالى؛ وقد شدد اليهود في التحريم؛ حتى حرَّموا المباحات على أنفسهم، وزعموا حلّ الشيء وحرمته يتعلق بطهارة الشخص ونجاسته، إذا استفاد به طاهر؛ فهو طاهر وحلال، وإذا كان المستفيد مذنب وآثم؛ فهو حرام؛ وبالتالي فقد انحازت هذه الشعوب والأُمم عن جادة الاعتدال والوسطية.

وقد نبههم الله – تبارك وتعالى – ناصحاً بأن يمتنعوا عن هذه العادة السيئة، والنهج الضال: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (المائدة/ 77).

فنظراً إلى هذا الوضع المتردي الذي تعرضت له الأُمم السابقة جراء الغلو والشدة والإفراط والتفريط إلى أن هلكت وبادت وخوطبت بلقب: "المغضوب عليهم" و"الضالين"؛ فإن خاتم الأنبياء (ص) حذر أمته بشدة بأن لا تغلو في ذاته وفي دينه وشرعه الذي أنزله الله – تبارك وتعالى – عن طريقه، وإلا فلن يختلف مصيرها عن سابقيها.

أمّا مظاهر الإفراط والتفريط وعدم التوازن، فهي واضحة جلية في عديد من مجالات الحياة بما فيها: العبادات، والمعاملات، والعلاقات، والموالاة، والمعاداة، والاقتصاد، والمعيشة، وغيرها من المجالات، كما أنّ هناك فئة من الناس التي جعلت الثروة والمال، وكسب وسائل الرفاهية، والتنعم والترفيه، وحشد أسباب الراحة من أغلى أهداف حياتها، ومن ناحية أخرى نرى أناساً قرروا هجر الاستمتاع، وعدم الاستفادة من أسباب الراحة والمرافق المشروعة، ونعيم الدنيا، واتخذوا العزلة عن الدنيا، والميل إلى الرهبانية منهجاً لحياتهم، وقد كره الإسلام كلا الجانبين هذين للإفراط والتفريط: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران/ 14).

وقد بيَّن القرآن الكريم في الآية الكريمة حقيقة متاع الحياة الدنيا من المال، والأسباب، والمتاع الذي يَفْنَى ولا يدوم، وبألفاظ أخرى يمكن القول بأنّ الآية الكريمة قامت بتوجيه ضربة قاسية إلى المادية البحتة، وكشفت القناع عن حقيقتها، كما أنّه يجب التدبر في معاني الآية التالية التي تعبر عن تذمرها وتنديدها من التجرد والعزلة، وترك الدنيا، والميل إلى الرهبنة: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) (الحديد/ 27).

هذا وقد تفشى هذا الداء العضال للغلو والإفراط والتفريط في الحياة الفردية والجماعية؛ حيث نشاهد أنّ هناك طائفة من الناس تحب الانطواء على ذاتها، وتتفاخر بها، ولا يهمها المجتمع، وما حولها، وهناك فئة أخرى تهتم بإصلاح وتربية الآخرين أكثر من نفسها، ولا تريد أن تفوتها أي فرصة لفرض أفكارها وآرائها سواء كانت صائبة أم خاطئة.

وقد فُطر على شعور الحب والكراهية، والذي بدوره يحده حدود، ويسده سدود، ولكن الإنسان كثيراً ما يصاب بالإفراط والتفريط حتى في مثل هذه المشاعر، ولا يقدر التمسك بالعدل، فإذا أحب أحداً أو أقام علاقاته به، فيغمض العين عن كلِّ عيوبه وأخطائه، ويقوم بتأييده حتى في أخطائه، ولكن إذا كَرهَ أحداً أو عاداة؛ فتتحول كلّ محاسنه إلى المساوئ، ويرى العيوب في كلِّ حسناته وخيراته:

وعينُ الرضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ *** ولكن عينَ السخط تُبدي المساويا

كما أنّ الإفراط والتفريط في الغذاء والدواء يعطل قوى الإنسان، ويجعله مريضاً، ويقرب جسمه إلى الهلاك والدمار، كذلك فإنّ عدم التوازن في الفكر، والخيال، والعلاقات، والمعاملات، والموالاة، والمعاداة، وغيرها من المجالات يكون سبباً لإفساده وتدمير مجتمعه وما حوله، والإنسان المصاب بمرض عدم التوازن والاعتدال لا ينضبط في نفسه، ولا يتمسك بمعمولاته ومواعيده؛ وبالتالي فقد لا يصل إلى مبتغاه، ولا يحقق أهدافه.

وقد يحرم هذه النوعية من الناس من صفات العزم، والاستقامة، والثبات؛ حيث تبتعد عن الهدف عند محاولتها للاقتراب منه، ويكرهه الأصدقاء والزملاء، وأهل القرابة ويتوحشون منه، وينظر إلى أعماله وإنجازاته بنظرة شك وارتياب، كانت هذه بعضاً من وجوه وأسباب عدم التوازن والوسطية التي جلبت كراهية الله ورسوله (ص)؛ ومن ثَمَّ؛ فإنّ العمل الذي لم يفز برضا الله ورسوله (ص) لن يؤدي إلا إلى الهلاك والدمار والخسارة: (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج/ 11).►

 

المصدر: كتاب المنهج الإسلامي للوسطية والاعتدال

ارسال التعليق

Top