◄قال الله تعالى في كتابه العزيز: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) (البقرة/ 207). تصادف في الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك، ذكرى شهادة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع)، هذا الاسم الذي عندما نذكره، ترتسم أمامنا كلّ الصور التي تشير إلى العظمة والتميّز في كلّ الحياة التي عاشها، منذ أن وُلِد في بيت الله في الكعبة المشرَّفة، إلى أن أغمض عينيه في بيتٍ من بيوت الله في الكوفة.
لقد عاش الإمام عليّ (ع) حياته كلّها لله وللإسلام، وهو من عرفته ميادين العلم والعبادة والجهاد والعدل والبذل والتضحية والإيثار.
منطلق العبادة عند الإمام عليّ (ع)
ونحن في هذا المقام، لن نستطيع أن ندخل إلى كلّ تفاصيل هذه الشخصية ومآثرها التي كُتبت عنها الكثير من المجلَّدات والكُتُب من شتّى الثقافات والأديان، وسيظلّ ينهل من معينها كلّ باحثٍ عن الحقيقة وتوَّاق إلى العدالة والحرّية والكرامة الإنسانية، وسيظلّ يستهدي بها التوّاقون لتجربة ناطقة عن الإسلام.
فتعالوا نتعرَّف على علاقة علي بالله من قولٍ له، هو أروع ما رُسّم ووُصِّف في علاقة العبد بخالقه: «إلهيّ ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنّتك، ولكنّي وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك».
هو إعلان لنمط العلاقة التي تحكمه بالله، علاقة الحبّ والمعرفة التي لم يبنها الإمام عليّ (ع) على الخوف من الله، ولا على الطمع والرغبة بثوابه.
وإن كان عليّ هو أكثر الناس خشيةً من الله، وأكثرهم رغبةً بما عنده، وهو الذي كان يرتعد ويرتجف من خشية الله، ويقول: «ليس لأنفُسكم ثمن إلّا الجنّة»، لكنّه اختار أن يسمو بهذه العلاقة، فلا يخالطها شيء سوى الحبّ الخالص لله.
إنّ عبادة الله بناءً على الحبّ، جانبٌ لم يهتمّ به الدُّعاة والمربّون كثيراً، بل ركَّز البعض منهم على التخويف من الله ومن ناره وعقابه وغضبه، فإذا قيل لهم إنّ الله رحمن رحيم، يقولون ولكنّه شديد العقاب. وفي المقابل، ركّز البعض الآخر على الترغيب بثوابه، وعلى كسب الحسنات. وكلا المنهجين ضروريان، ولكنّهما لا يكفيان لبناء علاقة متينة بالله وثابتة. وعليّ (ع) وصف عبادة الخوف بأنّها عبادة العبيد، وعبادة الرغبة في الثواب بأنّها عبادة التجّار، عندما قال: «إنّ قَوْماً عَبدُوا اللهَ رَغبَةً فَتِلك عِبادَةُ التجّارِ، وإنّ قَوْماً عَبدُوا اللهَ رَهبَةً فَتِلك عِبادَةُ العَبيدِ، وإنّ قَوْماً عَبدُوا اللهَ شُكراً فَتِلك عِبادَةُ الأحرارِ».
ومدخل الحبِّ في علاقة الإنسان بربِّه، كفيلٌ بأن يجعل العبادة ثابتةً، عبادة فيها حياة وفيها روح، هي عبادة العاشقين لله، تماماً كما هو الأمر في كلِّ العلاقات، فالفرق كبير بين مَن يندفع إلى أيِّ عمل بدافع المكافأة أو الخوف من العقاب، وبين مَن يعمل حبّاً بالعمل وبمن يعمل له.
التربية على أساس الحبّ
وجانب تعزيز الحبّ لله والشُّكر له والتربية على أساسه، هو أيضاً منهج قرآني، والمتأمّل في القرآن الكريم يجد كيف يتودَّد الله لعباده، وكيف يدعوهم إلى ملكوته وإلى حبّه والقرب منه، وتفويض الأمر إليه والثقة به، والتوكّل عليه، بلغة كلّها حنوّ وعاطفة. تأمّلوا بعض هذه الآيات:
(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة/ 186).
(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزّمر/ 53).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ) (فاطر/ 3).
(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) (لقمان/ 20).
وهناك الكثير من آيات الودّ والحبّ التي نجدها في مضامين السُّور القرآنية، وعلينا، أيّها المحبّون لله والموالون لعليّ، ونحن مازلنا في شهر القرآن، أن نبحث عنها ونقف عندها ونربّي أنفُسنا وغيرنا على أساسها.
إنّ التربية على أساس الحبّ هي المكسب، وهي التربية التي تدوم على المدى الطويل. نعم، إنّ التربية على أساس الترهيب والترغيب قد تنفع، ولكن لمدى قصير وهشّ أحياناً.
لذا، علينا دوماً عندما نربّي أولادنا، أو في أيّ موقع من مواقع التربية، أن نربّيهم على حبِّ الله قبل أن نربّيهم على العبادات والصلاة والصيام والفرائض، ومتى ما أحبّوا الله، كانت الفرائض نتيجة طبيعية وانسيابية، وتدوم حتى يختم الله لهم بخير.
العبادة والحبّ
وكذلك مع الحبّ، فإنّ نوعية العبادة تختلف، فمن يصلّي خوفاً أو رغبةً بهدف أداء الفريضة، فإنّه لا يُقبل عليها بشوق، ويتراخى ويستخفّ بوقتها وبطريقة أدائها، أو يأتي بها كما هي في حدّها الأدنى، لأنّ الإنسان بطبيعته ميّال للكسل.
أمّا عندما تنطلق الصلاة من حبّ، فستكون لقاء الحبيب بحبيبه الذي لا يرغب في أن ينقضي اللقاء، ويرغب في أن يتكرّر، ولن يكون كما هي التعابير العامية التي نستعملها: «حِمْل وبدّي شيله عن ضهري». إنّ الصلاة مسؤولية ثقيلة نعم، ولكن ينبغي ألا تكون عبئاً ونريد أن نرتاح منه، بل أنساً وراحةً، ونغادرها مشتاقين للعودة إليها.
لقد كان رسول الله عندما يأتي وقت الصلاة، ينادي مؤذّنه بلال الحبشي: «أرحنا يا بلال»، وهو يقصد أرحنا بالصلاة وليس من الصلاة. والإمام عليّ (ع)، تلميذ رسول الله، وباب مدينة علمه، كانت الصلاة بالنسبة إليه معراج روحه إلى الله، كانت مبتغاه ومؤنس نفسه، كان يحرص عليها حتى في أشدِّ الليالي حراجةً، فقد افتقده يوماً أصحابه في معركة صفّين، وظنّوا أنّه حصل له مكروه، وعندما فتّشوا عليه، وجدوه بين الصفوف يصلّي، والسِّهام تنهال بين يديه ومن خلفه.
العشق الإلهيّ
أيّ حبّ لله هذا، وأيّ مرتبة من العشق الإلهيّ هو عشق أمير المؤمنين عليّ (ع)؟! هو عشق عبّر بنفسه عنه، وقمّته هو ما نقرأه له في دعاء كميل: «فَهَبني يا إلـهيّ وسيِّدي ومولاي وربِّي، صَبرتُ على عذابك، فكيف أصبرُ على فِراقك، وهَبني صَبرتُ على حرِّ نارك، فكيف أصبرُ عن النَّظرِ إلى كرامتك، أم كيف أسكنُ في النارِ ورجائي عفوك. فبعزّتك يا سيِّدي ومولاي أُقسِمُ صادِقاً، لَئنْ تَرَكتني ناطقاً، لأضِجّنَّ إليك بين أهلِها ضَجيجَ الآمِلين، ولأصرُخنَّ إليك صُراخَ المَستصرِخين، ولأبكِينَّ عليك بُكاءَ الفاقِدين، ولأنادِينَّك أين كنت يا وَلِيَّ المؤمنين، يا غايةَ آمالِ العارِفين، يا غِياثَ المُستَغيثين، يا حبيبَ قُلُوبِ الصادِقين، ويا إله العالمين».
الله حبيب قلوب الصادقين، وإليه كان يتوجّه الإمام عليّ بهذا الحبّ، ليقول له: «إلهيّ كفى بي عزّاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي ربّاً، أنت كما أُحبُّ، فاجعلني كما تحبُّ».
وفي ذكر عليّ (ع) والحبّ، لابدّ أن نشير إلى الوسام الذي ناله من رسول الله (ص)، وكان أفضل وسام، عندما قال في معركة خيبر: «لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله»، ويقصد بذلك عليّاً (ع).
وصيّة الإمام عليّ (ع)
لقد كانت الصلاة وصيّة الإمام عليّ (ع) وهو على فراش الموت ينازع قبل استشهاده: فقال مُوصياً أولاده ومَن حوله: «تعاهدوا أمر الصلاة، وحافظوا عليها، واستكثروا منها، وتقرَّبوا بها، فإنّها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً».
هذا هو عليّ (ع) في علاقته بالله، هذا سرّ عليّ، هو ما عبَّر به عن عمق شخصيته، وهو سرّ كلّ التمييز الذي نراه فيه.
وإخلاصنا للإمام عليّ وللنبيّ وللإسلام، لن يكون إلّا عندما تمتلئ قلوبنا بحبّ الله، ويكون الله هو الهدف والغاية والمرتجى، كما كان الله عند عليّ (ع).
«رَحِمك اللهُ يا أبا الحسن، كنت أوّل القومِ إسلاماً، وأخلصَهم إيماناً، وأشدَّهم يقيناً، وأخوَفَهم للهِ عزّوجلّ، وأعظمَهم عَناءً، وأحوطَهم على رسول الله (ص) وآمنَهم على أصحابه، وأفضلَهم مَناقبَ، وأكرمَهم سَوابقَ. فجزاك اللهُ عن الإسلام وعن رسول الله (ص) خيراً...»، لن يُصابَ المسلمون بفجيعة مثل فجيعتنا بك أبداً، وإنّا للهِ وإنّا إليه راجعون.
والسلام عليه يوم وُلِد ويوم استشهد ويوم يُبعث حيّاً.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق