• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الديمقراطية والحكم الإسلامي

الديمقراطية والحكم الإسلامي

نظرية ونقد
المدخل إلى البحث

كان القرن العشرون، وعلى الأخص نصفه الثاني، قرناً سأم فيه العلماء الغربيون من الفلسفة السياسية المتعارف عليها، وتخلوا عن الأبحاث المطولة حول فلسفة الحكم والحكومة ومساهمة الشعب والحرية وما إلى ذلك. وكان كذلك قرن التوجه نحو التعسف العقيدي dogmatism واصطناع المُثُل السياسية. ولهذا فإن التغافل عن هذا الأمر المهم لا يغير شيئاً من حقيقة الحاجة إلى الفلسفة السياسية، إذ إن أي نموذج وبرنامج سياسي بدون الإتكاء على أصول الفلسفة السياسية الخاصة به، لا يمكن أن يتقدم بتسويغ عقلاني مناسب لعمله. ولكن رجال الفكر السياسي، الغربيون لا يقيمون وزناً كبيراً للأبحاث العقلانية في النظريات السياسية، بل إنّهم يتجنبون ذلك إلى حد ما، إلا أنّهم بدلاً من ذلك يعنون باصطناع المُثُل وتصنيف السلوك السياسي.
إنّ نظرية الديمقراطية لم تستطع ابداً النجاة سالمة من النقد والتمحيص الموجهين إلى أصولها وجذورها. ولهذا اصطدمت، بعد بلوغ أوجها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بجدار الفاشية والنازية والشيوعية. واليوم، بعد تجربة نصف قرن تقريباً عادت لتواجه النازية الجديدة والفاشية الجديدة، وعلى الأخص فيما بعد الحداثة، حيث لا يعلم إن كان فلاسفة الديمقراطية الغربيون القليلون في دنيا الغرب يستطيعون أن ينقذوا حبيبتهم من مذبح القرابين هذا، أو أنّ دوراً جديداً من الصراع السياسي الغربي قد بدأ. إنّ الفلاسفة من ذوي البصيرة النافذة في الفلسفة السياسية الغربية لم يستطيعوا أبداً أن يتغاضوا عن عدم معقولية بعض أسس الديمقراطية الغربية، حتى أنّهم لم يعتبروا برنامجها العملي ناجحاً، وذلك لأنّ المؤسسات السياسية الغربية كانت دائماً تتبع وجهة نظر رؤساء الأحزاب والأحداث السياسية، وعلى الأخص الشركات الاقتصادية، فقد كانت هناك مساومات معقدة في التعامل بين الأحزاب والسياسيين وكبار اصحاب رؤوس الأموال البارزين والبيروقراطية الحكومية، إلى درجة أنّ آراء الشعب، في هذا الخضم، لا تتعدى سواد الكثرة! ولكن في الوقت نفسه يُجمع أولئك الفلاسفة على أنّ الديمقراطية الغربية أدعى إلى القبول من الديمقراطيات الاخرى المجرّبة، مثل الفاشية وغيرها، وأنّ من الحق أن لا نضيع مثل هذه الفرصة من أيدينا وأن نستمر عليها. ولهذا يطرح (پوپر) نظرية الهندسة الاجتماعية التدريجية أو جزءاً فجزءاً أي أن نترك المجتمع مفتوحاً، معتمدين على أنفسنا في سعينا لتحسين العادات والسنن السياسية والاجتماعية بمرور الزمان. وهو يرى أنّ هذا الأسلوب هو طريق التطور والتقدم. وأنّه هو الديمقراطية الحقيقية. وبالطبع يأمل (پوپر) أن تظهر الصورة التالية للديمقراطية في التحليل الهندسي الاجتماعي أفضل وأنفع وأقرب للقبول. إنّه الأمل نفسه الذي كان يرجوه كل من (ديفيد هيلد) و (فوكوياما) اللذين قدما آخر التقارير بشأنها.
إنّ هذا الضرب من التفكير الذي ساد في الغرب، حيث قام أشخاص مثل (موسوليني) و (هتلر) بذبح الملايين من الناس يمكن تفهمه إلى حدٍ ما. بيد أنّ الهروب من الفاشية والنازية إلى الديمقراطية الغربية لا يثبت عدم وجود أية فلسفة سياسية أخرى لا تستطيع، من حيث عقلانيتها وعملها وتطويرها حياة الإنسان، أن تتفوق على الديمقراطية الغربية. وبناء على ذلك فإنّ مساعي (پوپر) وأصحابه الكثيرين في إثبات انحصار الأمر بالديمقراطية الغربية لا يمكن أن تجعل تلك الفلسفة السياسية أحكم الفلسفات وآخر مكاسب العقل والتجارب البشرية، ولا أن تجعل من تاريخ (فوكوياما) أمراً واقعاً.
إنّ النقطة الايجابية في بحث (پوپر) في الفلسفة السياسية الجديرة بالذكر هي ان (پوپر)، في تصوير اصطناع النماذج السياسية التي يريدها، كثيراً ما يؤكد انّه لا يتقيد بالألفاظ والاصطلاحات. إنّه يرى أنّ الديمقراطية حكومة يمكن الخلاص من شرها بدون إراقة دماء. أما الديكتاتورية فيراها حكومة لا يمكن التخلص منها إلاّ بالثورة. ثم يقول: إذا أطلق احد اسم الديمقراطية على الثانية، واسم الديكتاتورية على الأولى، فسيكون من مؤيدي الأولى وإن كان اسمها الديكتاتورية. وبناء على ذلك إذا كان هناك من يفترض ابتداءً هذا القلم ضد الديمقراطية، ويصدر حكما سريعاً على لفظة الديمقراطية، فليس لدينا ما نقوله له. أما الذين يريدون بحثا حقيقياً في الفلسفة السياسية التي تربط بالسيطرة الدينية ارتباطاً مباشراً، فليلتحقوا بنا من دون تخوف ولا توهم بالنسبة لألفاظ مثل الديمقراطية والفاشية والاصولية وأمثالها.
هذه النظرية تثير كذلك المناقشات الكثيرة فيما بين المحققين والمفكرين. بعض منهم يرى أنّ الديمقراطية الغربية سبب كل فساد فيدينها. وبعض آخر ممن يمثلون الغالبية العظمى من المفكرين الحوزويين والجامعيين ينتظرون نتائج مزيد من التحقيقات الجارية على هذا الصعيد، لذلك فهم لا يرفضونها كلياً ولا يقبلونها كلياً. وثمة بعض آخر يرون أنّ الديمقراطية مكسب عظيم من المكاسب العلمية الغربية. بل انّ بعضهم يقول إنّها آخر المكاسب العلمية الإنسانية في الفكر السياسي، وهم يسعون، على حد زعمهم، إلى إيجاد الاتساق بين الحاكمية الدينية والديمقراطية المذكورة، وذلك لكي يجمعوا بين العلم والدين في ميدان السياسة البشرية، وينالوا بذلك رضا الخالق والمخلوق معاً.
على كل حال، يبدو أنّ السؤال الرئيس الذي يدور في أذهان جميع المفكرين المسلمين في عالمنا اليوم بشأن الديمقراطية هو سؤال واحد: هل يمكن أن نوفق بين الحاكمية الدينية والديمقراطية المعاصرة الحديثة؟ فاذا كان ذلك ممكنا، فكيف وعلى أي مثال؟
إذا استثنينا الذين يجيبون بالرفض المطلق عن هذا السؤال، فإنّ المفكرين المسلمين المعنيين بهذا الموضوع مصابون بنوع من التخوف من التحقيق خشية أن يصل إعداد النموذج المنسجم مع الديمقراطية الجديدة والحاكمية الدينية إلى حيث يفلت زمام البحث باتجاه مصلحة أسس الفلسفة الديمقراطية المعاصرة، بما يعود بالضرر على الأصول الدينية. إنك لتجد هذا التخوف موجوداً في ذوي القلق الديني، على شيء من الشدة والضعف. إنما مسيرة النفاق والممالئة هي وحدها التي تستطيع التضحية، بكل يسر وسهولة، ومن دون أي تخوف أو تهيّب، بحاكمية الدين على مذبح الفلسفة السياسية الغربية.

أسس الديمقراطية الغربية

قامت الديمقراطية الغربية في الغرب تدريجياً على ثلاثة أسس رئيسة ومهمة، وما زالت كذلك حتى الوقت الحاضر، وهي تطرح على اعتبار أنها آخر مكاسب الغرب، وأطلق عليها اسم الديمقراطية الليبرالية:
1- في البداية برز النزاع الألفي بين الكنيسة والحكومة في صورة نزاع بين الدين والمجتمع، ثم منع الدين من التدخل في المجتمع، وعلى الأخص عندما فصل بينه وبين السياسة. وفي خضم هذا النزاع لم يبق من دين الغربيين سوى قلب الإنسان المؤمن وباطنه. وفي الحوزات الاجتماعية والسياسية الكبرى أصبح العقل والتجربة هما القاعدة الرئيسة. وكان (ميلتن) أول من خطا الخطوة الأولى في هذا الاتجاه، بقوله: "على كل امرىء أن يعيّن لنفسه كتابه المقدس وأن يفسره بنفسه. وما من أحد في هذا العالم يستطيع أن يطمئن إلى أنه قد فهم فعلاً. وعليه ليس للشرطي ولا للحاكم ولا للكنيسة أن يدسّ تفسيره الخاص للكتاب المقدس في حلق الناس بالقوة... الكنيسة تتعامل مع الانسان المتدين، والأفكار لا يمكن بيانها بالقوة، بينما الحكومة تعنى بشؤون الفرد الخارجية، لا الشؤون الداخلية القلبية. وهاتان المؤسستان (الحكومة والكنيسة) متمايزتان من حيث الطبيعة والهدف، ولذلك لابد من الفصل بينهما".
2- ثم جاءت الفلسفة الاستغلالية أو النفعية لتضع الأساس الثاني للديمقراطية الغربية، إذ نهض كل من (بنتام) و (جيمزميل) و (ستيورات ميل) يبحثون عن أكثر النفع لأكبر عدد من أفراد المجتمع، وعرض كل منهم صورة مختلفة بعض الشيء للديمقراطية وانتهى هذا السعي إلى القول بأنّ أي طلب من مطالب الناس ورغباتهم إذا وقع موقع القبول من جانب الأكثرية اعتبر معقولاً واعترف برسميته. وهكذا اتجه الاهتمام الأصلي للفلاسفة الليبراليين إلى أنّ طريق سعادة المجتمع وخيره هو في وضع قوانين تستند الى ارادة الأكثرية ورغباتهم مما يضمن منفعة الأكثرية وخيرهم.
ولابد من القول إنّ "الأهداف الغائية" و "الأعمال غير المطلوبة" في نظر الفلاسفة الليبراليين تستند إلى رأي الأكثرية، إذ إنّ رغبات الأكثرية هي التي تبين هذه الأمور.
3- نظرية أصالة الفرد: مهما يكن المصطلح الذي تطلقه عليها، فهي آخر وأهم ركن من أركان الديمقراطية الغربية. إنّ المساعي التي بذلها كل من (سارتر) و (راسل) وأتباعهما كانت ترمي إلى القول بأنّ المنطق الاجتماعي الغربي يرى أنّ الفرد البشري هو الأصل والأساس والغاية للوجود كله، وأنّ ما له الأصالة والقيمة والاعتبار هو إرادة الفرد الإنسان، على شرط أن لا يعتدي على الآخرين. ولنا أن نتغاضى عن تفسير الشرط الأخير هذا، وهو تعيين حدود اعتداء الفرد على الآخرين، بالنظر إلى أنّه قد أهمل إهمالاً كلياً بحيث إنّ الفلاسفة الغربيين يفضلون اليوم عدم الاشارة إليه اطلاقاً. إلا أنّ (پوپر) يشير إلى هذا الركن الأساس والمهم في الديمقراطية الغربية فيقول: "إنّ نظرية أصالة الفرد تقترن بها إرادة الآخر كقاعدة لمدينتنا في الغرب بحيث أصبحت النواة المركزية لجميع النظريات الاخلاقية الناجمة عن التمدن والمثيرة لذلك التمدن ومحور التعاليم المسيحية". إذ إنّ الكتاب المقدس يقول: "حبّ جارك لا عشيرتك!".
وعلى أساس مقولة أصالة الفرد لابد من احترام إرادة كل فرد من أفراد المجتمع على قدر الإمكان، ومن إيجاد الظروف اللازمة لتحقيقها، ولا تعلو ارادة أي فرد وارادة اية قوة أرضية أو سماوية على الاخر. وهذه هي النقطة الأخيرة في الديمقراطية الغربية التي يبدو أنّهم قد توصلوا إليها.
تحت ضوء أصالة الفرد هذه ومنطقها تعتبر أمور مثل اللواط والسحاق والاجهاض وحرية العلاقات الجنسية وكل ضروب التعالق والسلوك التي يرتأيها بعض الناس، فيما إذا لم تتعارض مع إرادة الاخرين، من مصاديق التحقيق الواقعي للديمقراطية، وذلك لأنّ الديمقراطية هذه لا تقوم على قاعدتها الأساس، وهي الأكثرية، إلا إذا قامت بوجهها مبادىء أخرى مثل الفطرة والدين أو إرادات معارضة لمجموعة أخرى من الناس، بحيث تفوز نظرية أصالة الفرد بالأكثرية وبمشروعيتها. ولكن في الحالات التي تكون فيها إرادات الأفراد منسجمة مع المبادىء الفطرية والدينية، يصبح من المحتمل أن تقع مشروعية الديمقراطية تحت تأثير المبادىء الفطرية والدينية. أي إنّ الإرادة الفردية المستقلة تفقد فرصة بروزها للعيان، إذ في مثل هذه الحالة، على الرغم من قيام الديمقراطية بتحقيق الإرادة الفردية، فإن تحقيق ذلك بصورة جادة ومستقلة مشكوك فيه.
وعلى هذا الاساس لا ينظر الغرب إلى تنفيذ الديمقراطية واعتماد رأي الأكثرية في نظام الجمهورية الإسلامية نظرة جادة، ويرى أنّ تلك الديمقراطية تسير خلف المبادىء الدينية من دون جدل. إنّ أكثرية هذا موضعها من التابعية لا تعتبر ديمقراطية عند الغرب، بل إنّه يصفها بأنّها ديكتاتورية الأكثرية على الأقلية. وقد تكلم كل من (راسل) و (هانا آرنت) و (گالبرايت) بالتفصيل على ديكتاتورية الأكثرية على الأقلية في فلسفتهم السياسية، ورفضوا الاعتراف بقيمة رأي الأكثرية بصفتها تحققاً للديمقراطية في مثل هذه الحالة.
الديمقراطية، كما يعرفونها، تعني "حكم الشعب" أو "الحكومة الشعبية" وقد برزت مظاهر متعددة لها منذ أيام أفلاطون حتى الآن. إنّ النزاع القائم بين الغربيين وغيرهم، خصوصاً مع علماء المسلمين، لا يتعلق بلفظة الديمقراطية ولا بتحقق أحد مصاديقها على امتداد التاريخ. وحتى إذا قامت حكومة اليوم بتطبيق الديمقراطية التي قال بها (مل) و (بنتام) أو ديمقراطية النخبة التي قال بها (شومپيتر) في نظامها السياسي، فإنّها لا تحظى بالقبول والرضا من جانب الغربيين على صعيد الديمقراطية. في هذا العقد الأخير من القرن العشرين يجري النزاع على آخر نموذج للديمقراطية، أي ديمقراطية الكثرة الليبرالية، ويزعم الغربيون أنّها آخر حلقة في التقدم البشري في ميدان النظام والحكم السياسي وقد أطلق عليها (فوكوياما) اسم نهاية التاريخ.
وعلى هذا الأساس تقوم الدولة ويقوم المفكرون والمنظرون السياسيون في الغرب، متحدين فيما بينهم، بالضغط على جميع الدول الأخرى ضغطاً مستمراً للسير في هذا الاتجاه، بحجة أنّ هذا هو مصير البشرية المحتوم، وعلى حد زعم (فوكوياما) إنّ آخر درجة في سلم التطور السياسي هي هذه الديمقراطية الليبرالية التي تجب إقامتها في أرجاء الكرة الأرضية لنصل إلى نهاية التاريخ، تلك النهاية التي لا وجود فيها لصورة أكثر تطوراً ولا أكفاً ولا أنفع من الديمقراطية الليبرالية في البنية السياسية للإنسان.
إنّ في مفهوم الديمقراطية المجرد جانباً مقبولاً عقلاً وتجربةً، وهو توكيد مشاركة عموم الشعب في مصيره السياسي والاجتماعي، وهو أمر مطلوب عقلاً، كما أثبتت التجربة أنّ النظام الذي لا يحظى بتأييد الشعب وحمايته لا يكتب له الاستقرار والقوة، ولا أمل له في البقاء. بديهي أنّ تحقق هذا المفهوم بشكل مجرد ومن دون أي نوع من التشكل وتعيين نماذج السلوك واستقرار المؤسسات السياسية أمر غير ممكن، إذ إنّ مشاركة الشعب وحمايته يجب أن تكونا في قالب دقيق من السلوكات والمؤسسات السياسية التي يرى الغربيون اليوم أنّ أكثر أنواعها تقدماً، على حد زعمهم، هي الديمقراطية الليبرالية. أما السؤال الرئيس فهو: هل يعتبر الأسلوب الانحصاري لمساهمة الشعب السياسية وضمان رضاهم مقصوراً على رأي الأكثرية؟ ألا توجد صورة معقدة أخرى تكون، بالإضافة إلى الفوز برضا الشعب وحضوره في الميدان السياسي في المجتمع، منزهة من الأعراض الجانبية لحماقة فكرة رأي الأكثرية المطلقة؟

قيمة رأي الأكثرية في الديمقراطية الغربية

إنّ الخط البياني لمسيرة فلسفة الديمقراطية في الغرب يكشف لنا عن منحى لأدوار ما بعد عصر النهضة الأوربية حيث أخذت فكرة إمكان التحقق العملي لمساهمة الشعب الفعلية عن طريق الأكثرية يعتورها الشك تدريجياً، ومن ثم أخذت تقل أهمية رأي الأكثرية في بناء الحياة السياسية - الاجتماعية للشعب، فيما أخذت تزداد أهمية الإرادة الفردية والأقلية ومشروعيتها بحيث أصبحت المساهمة الشعبية ظاهرة مقتصرة على بعض الفعاليات الاجتماعية (مثل اعطاء الرأي في المؤسسات النقابية)، وفي قبال ذلك ازداد الاحترام لإرادة القلة ازدياداً مستمراً. وفي الواقع وصلت الفلسفة السياسية الغربية إلى مرحلة لا يكون رأي الأكثرية فيها محترماً إلاّ إذا ضمن الإرادة المستقلة للقلة أو كان مصحوباً بجو عام في المجتمع.
وفي الوقت الذي يعظّم الغربيون فيه قيمة رأي الأكثرية في ديمقراطيتهم باستمرار، فإنّهم من جهة أخرى ينحون باللائمة على الدول الأخرى، على كونها من أوائل نقّاد الديمقراطية الذين ألقوا ظلاً من لاشك على قيمة رأي الأكثرية من جوانب مختلفة.
وحتى لو أنّ المعتقدات والأماني لكل فرد من أفراد المواطنين كانت معطيات حاسمة ومستقلة تماماً في العملية الديمقراطية، وحتى لو أنّ كل امرىء عمل بها بعقلانية وبسرعة مثالية، فليس من المحتم أن تحصل النتيجة الإلزامية القائلة بأنّ القرارات السياسية الناجمة عن تلك العملية والتي تؤلف المادة الخام فيها الإرادة الفردية، سوف تتخذ مظهراً يقيد، بأي شكل من الأشكال معنى "الإرادة الشعبية". إنّ هذا الأمر فضلاً عن كونه مفهوماً، يمكن القول بأنّه إذا ما تشعبت إرادة الأفراد تشعباً كبيراً، فمن المحتمل جداً أن لا تكون القرارات السياسية الناتجة منسجمة مع "ما يريده الشعب حقاً". إنّ أسلوب صياغة المواضيع وإرادة الشعب حول تلك المواضيع منفردة يشبه إلى حد كبير نداء المنادين على بضائعهم. هنا أيضاً ستبذل مساع للاتصال باللاوعي، وهو فن إيجاد الارتباطات المفرحة والمحزنة التي كلما كانت غير عقلانية أكثر، كانت ذات تأثير أكبر.
(شومپيتر)، في ختام بحثه يسعى في عرضه نظرية "ديمقراطية النخبة التنافسية" أو "التنافس لاجتذاب آراء الشعب" إلى أن يفتح طريقاً إلى واقعية قيمة رأي الأكثرية في الديمقراطية وتقبلها عقلانياً، إلا أنّ النقد الذي يوجهه هو نفسه إلى نظريته هذه نافذة أيضاً، وذلك لأنّه إذا كانت آراء الشعب نداء تجارياً فعلاً، فانّها لا تمنح مشروعية للنخبة المتنافسة أيضاً.

مشكلة الجمع بين الديمقراطية الغربية وحاكمية الدين

هنا تكمن صعوبة الجمع بين ديمقراطية الغربيين اليوم وحكم الدين، بل استحالته. إنّ كل صورة تقرر عن حكم الإسلام لابد أن يكون المعيار فيها مبادىء الإسلام وأسسه التي لا يمكن للدين أن يتنازل عنها كأمر بديهي وضروري، ولذلك فإنّ المساهمة الجماعية في ذلك، بأي شكل كان، تكون محدودة، أما الديمقراطية الليبرالية فتعمل على تحقيق رغبات كل فرد من الأفراد، وعلى هذا الأساس تقترح الوقوف بوجه تزايد نفوس البشر عن طريق فتح احضان الجنس المخالف للجنس الموافق بعض لبعض، مع الاهتمام بعملية منع الحمل اهتماماً واسعاً، وعلى هذا الأساس أيضا أفتى المتطرفون الليبراليون بأن يكون الأحداث والمراهقون متحللين من كل قيد وحظر أخلاقي وجنسي.
بعض المفكرين المسلمين يحسبون الديمقراطية الغربية من أكثر صور الحكم السياسي مطلوبية، بل وتقدماً. فإذا ألغيت جوانبها السلبية وتمت مطابقة جوانبها الإيجابية مع الحكم الديني، أمكن الحصول على ديمقراطية إسلامية.
إنّ المساعي التي يبذلها المفكرون المسلمون لعرض نظرية للتطابق بين الديمقراطية الغربية والحكم الإسلامي إنما تجري لرغبة هؤلاء في الحفاظ على تعلقهم بكليهما. بيد أنّ سدى الديمقراطية المذكورة ولحمتها متداخلة مع الليبرالية وأصالة الفرد تداخلاً يستحيل معه فصل الجوانب التي يقول عنها هؤلاء إنّها جوانب إيجابية.

نظريات التكييف بين الديمقراطية والحكم الديني

1- نقرأ للدكتور (سروش) عن النموذج الأول للتكيف مع الديمقراطية: "إنّ الحكومات الدينية التي تستند على المجتمعات الدينية ونابعة منها، لا تكون ديمقراطية إلاّ إذا سعت للفوز برضا الخلق والخالق معاً، وكان ظاهر الدين وفياً لباطنه يربط الدكتور (سروش) الديمقراطية بالأخلاق السابقة على الدين" كما لو كان ينفي الفكر الأخلاقي الديني السائد والسابق على الدين وكونه لازمة من اللوازم الأصلية للديمقراطية، وبالنتيجة يغلق الطريق أمام التوافق بين الديمقراطية والحكم الإسلامي. أترى نزاعنا مع الفلاسفة السياسيين الغربيين في تصور الديمقراطية يدور حول بضعة مبادىء أولية عقلانية وإنسانية بحيث إنّه إذا اعترف الحكم الإسلامي بهذه المبادىء أمكن حل مشكلة التكيف والتوافق المذكورة؟ ألم يورد الإمامية - وكذلك المعتزلة - في مئات من كتبهم الكلامية الأدلة على الحسن والقبح العقليين المستقلين السابقين على الدين؟ هل حصلت لديهم مشكلة في توافق هذه الأصول مع الحكم الإسلامي بحيث يكون هذا الحكم محتاجاً إلى التوصية بمراعاة الأصول المذكورة؟ لقد اعتبر المتكلمون الشيعة قضية الحسن والقبح العقليين جارية حتى في الفعل الإلهي، وهم متفقون على أنّ ما هو "حسن في نفسه" يقع ضمن الإرادة الالهية، وليس الأمر أنّه بعد وقوع الفعل الالهي تكون صفة الحسن عارضة عليه، كما يقول الأشاعرة، وكما يميل إلى القول به الدكتور (سروش) في "دانش وارزش" (العلم والقيم) ميلاً شديداً.
البحث في الأصول الأخلاقية السابقة على الدين، مثل العدالة والحرية الإنسانية، ليس فيه أي تلازم حصري بالديمقراطية الغربية، ولا هو يتعارض مع حكم الإسلام، بل إنّ أساس المذهب الشيعي يرى أنّ هذه الأصول العقلية تنسجم مع حكم الإسلام أكثر من انسجامها مع أي حكم آخر، سواء أقبلت أكثرية أفراد مجتمع ما، أو حتى أكثرية أفراد البشر، بالمبادىء الأولية للعدالة والحرية وحرمة شخصية الإنسان، أم لم تقبل بها، مثلما بدأ تيار ما بعد الحداثة يشك بجميع الأصول العقلية الأساس، فإنّ هذه الأسس مقبولة في علم الكلام عند الشيعة، بل هي القاعدة الأصلية لكلام الشيعة، ولا مجال فيه للتهيب من المخلوق، بمثلما أنّه لا دخل له في الأسس والمبادىء الدينية وتعليماتها، وذلك لأنّ المبادىء الأولية للاخلاق الإنسانية في إطار الفكر الإسلامي قائمة على الفطرة وحكم العقل المستقل، من دون أن يكون لرضا المجتمع ورغبته أي ارتباط بذلك. إنني ليأخذني العجب كيف إنّ الدكتور (سروش) لم يفطن لحقيقة كون العدو الحقيقي للأخلاق السابقة على الدين في عصرنا الحاضر هو هذه الديمقراطية الغربية، خاصة بعد امتطائها النسبية المعرفية. إنّ الديمقراطية الغربية هي التي تستطيع بكل يسر أن تتقدم إلى حيث تدوس بأقدامها الأخلاق السابقة على الدين، وأن لا تعني إلا برغبات الفرد وطلباته. بينما الحكم الإسلامي، على العكس من ذلك، هو المدافع الثابت عن هذه الأخلاق السابقة على الدين ضد الهجوم الواسع الذي تشنه الديمقراطية الغربية عليها.
وفي موضع آخر من أحاديثه يقول: "إنّ الحكومات الدينية، لكي تكون: دينية، يتوجب عليها أن تجعل الدين هو الهادي والحكم في مشكلاتها ومنازعاتها، ولكي تكون ديمقراطية يتوجب عليها استخدام فهم الدين الاجتهادي في الانسجام مع العقل الجماعي".
يمكن للحكومة الدينية أن تستفيد من العقل الجماعي في فهم الدين، ولها أن ترجح عقل فرد واحد، بل لها أن تعتبر فهم عدد من النخبة حجة، أو أن تلجأ إلى طرق أخرى يمكن تصورها عند وجود الحاجة. غير أنّ هذه كلها صور من وجود الحكومة الدينية، وكل صورة منها تبين نوعاً من المعرفة الدينية الخاصة بها، وإنّ ما يلفت النظر هو أنّ تركيباً من هذه الأساليب أو أنواع المعرفة ممكن التحقق، وليس ثمة ما يلزم اختيار أسلوب بعينه للمعرفة الدينية يكون ضرورياً للحكومة الدينية، ولكن النقطة المهمة والأساس هي أنّ هذه الأمور كلها غريبة على الديمقراطية الغربية.
هنالك مع ذلك، شيء من التوافق في المبادىء الفرعية بين الحكم الديني والديمقراطية الغربية السائدة اليوم مثلما أنّ هناك توافقاً بين الديمقراطية الغربية والفلسفات السياسية الأخرى، كوجود التوافق في السلوك العملي بين ديمقراطية الغرب والحكم الإسلامي، إلاّ أنّ هذه ليست قادرة على إدخال أسس الفلسفة الديمقراطية الغربية، التي وصلت من (ميلتن) إلى (پوپر)، في الحكم الإسلامي بحيث يسودهما الإنسجام التام. ثم، ما الذي يقصده الدكتور سروش بالعقل الجماعي؟ هل يمثل رأي الأكثرية العقل الجماعي؟ هل يصنع توافق النخبة، أو الخبراء الدينيين؛ العقل الجماعي؟ هل المقصود من العقل الجماعي يتمثل في الخبرة الإدارية والحكومية؟
وإذا تجاوزنا كل ذلك، فانّ القول بحقوق الإنسان قبل الدين والأخلاق الخارجة عن الدين يكون مقبولاً ممن يعترف، في الأقل، بمكانة العقل والفطرة، والتوافق العام - على فرض حصوله في الواقع - في إثبات بعض القيم، كما فعل (پوپر) في الاعتراف بنوع من المسؤولية العقلانية أو التوافقية للقيم الإنسانية، على الرغم من فصله بين المعرفة والقيم. أما الذي لا يرى إمكان قبول أي من القيم بدون حجة إلهية، وبفصله بين المعرفة (عقلية كانت أو تجريبية) والقيم، يرى أنّ منشأ القيم ينحصر في الوجوب النهائي الصادر عن الله إنّ شخصاً كهذا لا يحق له الكلام على حقوق الإنسان والقيم الإنسانية قبل الدين.
إنّ الديمقراطية التي يقصدها الدكتور سروش إنما هي تفسير مصطنع وغريب عن فلسفة السياسة الغربية. وحتى في المصاديق التي يقع فيها التعارض بين الديمقراطية بمفهومها المجرد (رأي الأكثرية) والدين (مهما يكن افتراض مفهوم الدين) فإنّ نظريته التوافقية ليس لديها ما تقوله. إنما هناك طريق واحد يمكن أن يقتلع جذور التعارض طبقاً لهذه النظرية، وهي أن نفهم الدين - مهما يكن- كما تفهمه الأكثرية، هذا إذا استطعنا، بالطبع، أن نجيب عن ما اشكله (شومپيتر) على وجود رأي حقيقي للأكثرية! ولكن، في الوقت نفسه، هذا التوافق ليس هو ما يقصده الدكتور (سروش)، وذلك لأنّه على الرغم من سعيه للتوسع في مفهوم الدين، كثيراً ما يؤكد أنّه لا يقبل إلا الفهم المنهجي للدين.
إنّ بالإمكان أن نتصور نماذج من المشاركة العامة للنخبة من رجال الدين والعلم ومن عموم الناس في تنظيم بنية الحكم الإسلامي، مستفيدين من مزايا الفهم الديني الجماعي والعقل الجماعي، بمثلما نجد جوانب من النظام الجمهوري الإسلامي قائماً على ذلك، ولكن ليعلم الدكتور (سروش) أنّ إلصاق اسم الديمقراطية بهذه النماذج من الحكم الديني لا هو قابل للهضم عند الغربيين ولا هو أكثر من مجرد تلاعب بالألفاظ.
من الأمور الواقعية هي أنّ الفلسفة السياسية مهجورة فيما بين العلماء المسلمين، في حين أنّ الحاجة إليها أشد من الحاجة إلى جميع العلوم الاجتماعية. وكل هذا ما يمكن أن يستمد العون من الأبحاث الجماعية أو الفردية أو أي نوع آخر من العون، لعرض نموذج للفلسفة السياسية الإسلامية، مع الأخذ بنظر الاعتبار مقتضيات العصر.
2- النظرية الثانية في الانسجام لراشد الغنوشي
في الواقع إنّ أساليب إدارة العلائق البشرية وآليتها في الحكومة الإسلامية لا تختلف كثيراً عن النظام الديمقراطي السائد في العالم. وبعبارة أخرى، إنّ الحكومة الإسلامية موافقة لحكم الأكثرية المتمثل بالانتخابات الحرة، وبمجلس الشورى وبالمجالس المحلية وبالسلطة القضائية المستقلة وباحترام الرأي العام. وليس هناك في هذه الأساليب اختلافات رئيسة ناجمة عن المدنيات المختلفة.
يحاول الغنوشي، عن طريق التفسير الظاهري لاستقرار النظام الداخلي ومقبولية أمور مثل الأكثرية في الحكومة الإسلامية، أن يقول إنّ الديمقراطية الغربية في قالبها الظاهر وأساليبها التنفيذية تجد في الحكومة الإسلامية مكانها المناسب، وعلى هذا فهو ينكر وجود اختلافات رئيسة بين الحكومة الإسلامية والديمقراطية الغربية، بل ولا بينها وبين المدنيات المختلفة في العمل والتطبيق.
ولكن المشكلة الحقيقية ليست في آلية تحقيق الحكومة الدينية أو الديمقراطية الغربية وأساليبها الظاهرية في التنفيذ، بل هي في فلسفة هاتين النظرتين وأصولها الرئيسة، ويظهر التعارض بينهما عند ترجيح أحداهما على الأخرى من باب الضرورة. وهذا التعارض هو نفسه الذي يحمل الغنوشي على التقليل من قيمة الأكثرية في الحكومة الدينية ويراها مخالفة لأساس الديمقراطية الغربية في تفسيره، وذلك لأنّه يحترم الأكثرية في اطار الوحي فقط.
ثم يقول الغنوشي ما مفاده: إنّ الاختلاف بين الفلسفة القائمة على المادية وأصالة العقل واللذة بمثابة هدف الحياة، والاستكبار الوطني بصفته إطار العلائق السياسية من جهة، ومن جهة أخرى بين نموذج النظام الإسلامي الذي يعتبر الإيمان بالله فلسفة الوجود وسر الحياة الإنسانية، ويرى الانسان خليفة الله، ويعطي الوحي شرعية مطلقة، ويبين شرعية الرأي العام في اطار الوحي، واضح.
وعلى الرغم من أنّ الغنوشي قد أظهر أنّه يدرك موضع التعارض إلى حدٍ ما، فإنّه لا يتوقف عن الإصرار على إيجاد موضع للديمقراطية في الحكومة الدينية، إلاّ أنّ إصراره هذا لا يزيد عن كونه مجرد ادعاء ليس غير.
عندما ينظر الغنوشي إلى فلسفة سياسة الغرب يرى بوضوح الاختلاف بين الديمقراطية الغربية والحكم الإسلامي في الأصول والأسس. ولكنه عندما ينظر إلى الآلية الظاهرية في تطبيق الديمقراطية الغربية والحكم الإسلامي، يظن أنّه بتوحيد الرؤية الظاهرية يبرز التعارض، وتندرج الديمقراطية ضمن إطار نموذج الحكم الإسلامي!
ومما يستوجب التنويه به هو أنّ الغنوشي وغيره من المفكرين والمتنورين المسلمين لابد لهم أن يعلموا أنّ الفلاسفة الغربيين قد اغلقوا منذ سنوات باب الاستفادة من ظاهر الديمقراطية الغربية من دون التمسك بمبادئها، وهم يرون أنّ النموذج ذا القشرة الديمقراطية والنواة غير الديمقراطية ليس، من حيث الأساس والبنية، ديمقراطياً. ولهذا يصرح (موريس دوورژه): "إنّ من يحاول، عن طريق استخدام الديمقراطية الظاهرية، اكتساب رأي الأكثرية للدفاع عن آرائه الخاصة، وينسى بعد الفوز جوهر الديمقراطية (أصالة الفرد) ويكتفي بتحقيق أفكاره الخاصة، ليس له الحق في الاستفادة من الأجهزة التنفيذية الديمقراطية. والصحيح هو أن يوقف أمثال هؤلاء عند حدودهم بالقوة والعنف، وأن تتم المحافظة على ماهية الديمقراطية بهذه القوة وهذا العنف".
هنا ينكشف سر هذا الأمر. لماذا حال الغربيون دون وصول الإسلاميين في الجزائر إلى الحكم، مع أنّهم قد حازوا على آراء الأكثرية؟ ولماذا اتجهت جهود العالم الغربي للتحشد والتحرك للحيلولة دون تحول الدول الإسلامية إلى جزائر أخرى؟ ولماذا لا تحظى عملية الأكثرية في حكومة الجمهورية الإسلامية برضا الغربيين؟
إنّ استقرار الديمقراطية استقراراً تاماً في الحكم الديني لا يكون مقبولاً لدى الغرب إلاّ عندما تدلي الأكثرية المتدينة، مرة واحدة في الأقل، برأيها ضد مبادئها الدينية، وتظهر أنّها قد وضعت إرادتها في قبال إرادة الدين وزادتها درجة. إنّ الغربيين يعلمون جيداً أنّه إذا قدم الحكم الديني، ولو مرة واحدة، رأي الأكثرية على رأي الدين، ومنح إرادة الفرد منزلة وحجية بصورة مستقلة عن المثل الدينية، حينذاك يكون الطريق قد انفتح أمام مسيرة الديمقراطية الغربية الحقيقية.
3- الدكتور (ترابي) بخلاف النظريتين السالفتين، لا يسعى إلى إيجاد الانسجام بين الديمقراطية الغربية والحكم الديني. انّه يشير إلى أنّ جذور الديمقراطية الغربية وأصولها تستند إلى القول بأصالة الفرد، فيقول: إنّ هدف الليبرالية الأساس هو إعطاء الأصالة للإنسان بصفته كائناً غير مسؤول أمام الله. ويشير أيضاً إلى عدم نجاح الديمقراطية نجاحاً حقيقياً في الغرب، ويعتقد أنّ المساعي المبذولة لخلق الانسجام بين الحكم الإسلامي والديمقراطية الغربية إنّ هي إلاّ نتيجة للاستضعاف الفكري، فيقول: ليس باستطاعة أحد أن يزعم أنّ النظم السياسية الغربية إنما هي انعكاس لإرادة الشعوب، وذلك لأنّ بين الشعوب والنظم السياسية ثمة بطانات من القادة الحزبيين وبطانات من مصالح الطبقات الخاصة. وعلى الرغم من أنّ بعض المسلمين يسعون إلى إظهار الإسلام مطابقاً للتصورات العصرية، فإنّنا يجب أن نقول إنّ هذه المساعي تمثل نماذج للفكر الإسلامي تحت ظروف الاستضعاف.
إنّ حصيلة نظرية الدكتور (ترابي) هي السعي لإدخال نماذج من المساهمة العامة في المؤسسات السياسية للحكم الإسلامي، مما يمكن أن يكون تقريراً غريباً تماماً عن الديمقراطية الغربية - في الظاهر والباطن - وأن يعتبر مجرد بيعة إسلامية، كما أنّ أقرب تقرير له من الديمقراطية يكون فقط في ظاهر ارتباطه بالديمقراطية البسيطة والمثالية الأفلاطونية. إنّ نظريته تبتعد، على كل حال، مسافات مديدة عن الديمقراطية الغربية المعاصرة.
يرى الدكتور (ترابي) أنّ الحكم الإسلامي هو الأصل، ويرسم على ضوئه صورة الرأي العام، ولكنها صورة تمثل في نظريته مفهوماً إسلامياً، وأنّ القرآن الكريم يوصي بنموذجه الديني عموماً، وعلى هذا الأساس تتحقق المساهمة العامة، على قدر الإمكان، في قوالب من النماذج الدينية العملية، ويستفيد المجتمع من مزايا مساهمة عامة كهذه. وعليه، فليس من المهم هل يمكن إطلاق اسم الديمقراطية على ذلك أو لا يمكن في نظرية الدكتور (ترابي) هنالك ظواهر عديدة من فعل الحكم الإسلامي يتفق إنسجامها مع الحكم الديمقراطي الغربي، إلا أنّه انسجام في الظاهر وفي التنفيذ، ولا يستوجب خروج نظريته في جوهرها وبنيتها من إطار الدين الإسلامي بحيث تجعل أصالة الفرد هي المدار في البحث عن النماذج. يقول: إنّني أعتقد أنّ حكم الشريعة الإسلامية باعتبارها دستور الحياة السياسية، والحرية بصفتها رمزاً للتوحيد، هما ركنان أصيلان في النظام التوحيدي، وأنّ جميع الأنبياء يسيرون تحت حكم هذا النظام نحو الله، من دون أن يتعصبوا لأي حزب أو جماعة أو قبيلة هؤلاء الناس يعبرون عن وجهات نظرهم في الشؤون العامة بكل حرية ومن دون أي ضغط. وفي مثل هذا النموذج يعم نظام الشورى في كل أنحاء الحياة الاجتماعية، ويتم حل عقدها عن طريق السعي للعثور على أفضل الطرق بالاجماع.
يقترح (الترابي) في إطار الشريعة الإسلامية وحكمها، إقامة نظام الشورى، وهو اقتراح لم يتبلور بعد في فكر الدكتور (ترابي) في صورة فلسفة السياسة الإسلامية، ولكنه يرى أنّ فلسفة الشورى السياسية هذه، مهما تكن، تقوم على أسس من الأصول الدينية. وبناء على ذلك فإن نظريته في الجمع بين الديمقراطية والحكم الديني، تضحّي بالفلسفة الديمقراطية الغربية على مذبح الحكم الإسلامي، وذلك لأنّه أدرك بفراسته أن الديمقراطية الغربية تقوم على مبادىء بحيث إن الاحتفاظ بها لا ينسجم مطلقاً مع الحكم الإسلامي.
لابد من القول إن تعميم نظام الشورى في المجتمعات الإسلامية فكرة مغلقة جداً، إذ إنّ تحليلاً دقيقاً من جانب علم الاجتماع السياسي في المجتمعات المعاصرة يمكن أن يعتبر ذلك مجرد مثال خيالي. ولكن فكرة الاستفادة من نظام الشورى في ميادين خاصة.
على كل حال، حيثما يمكن أن يكون فاعلاً، فكرة مقبولة. إلا أنّ نظرة الدكتور (ترابي) في أنّ تعميم نظام الشورى هو في الواقع محمل لبلوغ الإجماع العام، إنما هو غاية خيالية لا يمكن تصورها حتى في إطار الفكر الديني. إنّ هناك واقعاً مسلماً به هو أنّ المجتمع، وخاصة في عالمنا اليوم، لا يعيش على وفق الإجماع، وهو لا يبحث عن طرق للشورى للوصول إلى الإجماع، بل الهدف هو الإكثار من المساهمة وإنكار الاستبداد.

 المصدر: مجلة آفاق الحضارة الإسلامية/العدد5/2000 م

ارسال التعليق

Top