لاشك أنّ وجود الإنسان السيكولوجي هو محصلة لجلدية البيولوجيا مع المجتمع. فهذه الجدلية تؤسس لما يسمى بالوجود السيكولوجي Psychological Existence الذي يمكن أن تكون الشخصية الركن الأهم فيه باعتبارها الوجود الإفتراضي الذي يُستدل عليه علمياً بطرق القياس السيكومتري مثلاً. لهذا اعتقد أنّ الشخصية، كمفهوم افتراضي أنسب ما توصل إليه علماء النفس لفهم الوجود السيكولوجي من خلال السلوك. لذا، فقياس القدرات العقلية أو السمات الإنفعالية أو الإتجاهات تعطي مؤشرات كمية (ثمّ كيفية بعد ذلك) يُستدل بها على الوجود السيكولوجي أو الشخصية. إضافة إلى ذلك أنّه عندما نحاول رؤية الشخصية من داخلها نجد، حسب "ريتشارد لازاروس" أنّ ثمة نظاماً كامناً خاضعاً لجدلية البناء Structure مع الوظيفة Function. فالبناء يتألف من أجزاء كالقدرات، والسمات الإنفعالية.. إلخ، والوظيفة هي الكيفية التي تعمل بها هذه الأجزاء، فمثلاً تتأثر القدرة على الفهم والإستدلال بالقلق (بنية) إذ يحدّ هذا التأثير من الفعالية العقلية في ممارسة الفهم أو الإستدلال (وظيفة). كما أنّ محاولة الشخص القَلِق أو المتردد (وظيفة) تضعف قدرته على الفهم أو الإستدلال (بنية). لذلك فإن أي شذوذ Abnormality يعتري التكوين البيولوجي أو الاجتماعي للشخصية سيؤثر في بنيتها ووظيفتها.
مناقشة المحرّمات ليس بالمعنى الشرعي والديني، كعوامل اجتماعية تلعب الأسرة دوراً مؤثّراً في تعميقها في الشخصية كبنية وكوظيفة. فإذا ما اعتبر مفهوم الشخصية بمثابة "تجريد علمي أو ظاهرة مستنتجة Inferred لا تلاحظ مباشرة، إذ أنها تكوين فرضي Hypothetical Construct نفترض وجوده أو نوع من الأطر أو المبادئ المنظمة لملاحظاتنا للسلوك وتفسيره والتنبؤ به وضبطه"، فإنّ التعاطي مع مثل هذا المفهوم ممكن من الناحية العلمية، إذ أن ما افترضناه موجوداً نستطيع تحديد كمه ونوعه بأدوات مبتكرة كالمقاييس السيكولوجية والمقابلات Interviews والملاحظة العلمية Scientific observation، وبالتالي تشخيص Diagnosis العوامل الأكثر تأثيراً في تشكّل بعض السلوكيات التي أُفترضت، بمعيار ما، أنها شاذة Abnormal.
ومع أنّ العوامل البيولوجية Biological Factors في دراسات الشخصية تحتل مكانة مهمة، إلا أننا سنركز على العوامل الاجتماعية Social Factors وتحديداً التنشئة الإجتماعية الأسرية Family Socialization، باعتبارها عوامل فعّالة في نشأة الشخصية بسمات معينة.
- الشخصية ومحددها الإجتماعي الأسري:
يمكن تحديد العوامل الإجتماعية في المتغيرات السلوكية الإجتماعية ذات الأبعاد المختلفة والمتعلقة بالسوسيولوجيا، والأنثروبولوجيا، والإقتصاد، والسياسة، والتاريخ، والجغرافيا.. إلخ. وبالتالي لا تكون الأسرة مؤسسة منعزلة مجتمعياً عن تأثيرات هذه الأبعاد. فالأدوات الثقافية Cultural tools المادية كالتقنيات Technologies، والمعنوية كالمفاهيم والقيم والعادات، هي أشكال من السلوك الثقافي يعبر عن وجوده في آليات المجتمع المرتبطة بجميع مناحي الحياة الإنسانية التي تشكل ما يسمى بالثقافة الإجتماعية والتي يكتسبها الأفراد أوّلاً، أثناء التنشئة الاجتماعية الأسرية ليؤدوا أدوارهم وفقاً لتوقعات الذهنية للمربين التي هي امتداد على نحو معين، لثقافة المجتمع بكل أبعادها المذكورة. بمعنى: أن أشكال السلوك التي تصدر من المرء ليست إلا نوعاً من التشكل الخاص للسمات الثقافية في المجتمع. فالمركب السيكولوجي للشخصية يُعد، إذاً، امتداداً لهذه السمات بعد تفاعلها مع معطياتها البيولوجية الخاصة التي تتحدث وراثياً (أو كروموزومياً). فتكتسب الشخصية تخلّقها الجديد المتفرّد. أي أن تباين أساليب التنشئة الاجتماعية بما في ذلك التنشئة الأسرية، وتباين، أيضاً، المحددات البيولوجية المنمّطة وراثياً، يجعل كل شخص وجوداً فريداً أو متميزاً.
فالملامح السلوكية التي تميّز الشخصية – كل شخصية – هي ملامح سلوكية وجِدت، في المجتمع ضمن محتواه الثقافي. أو بعبارة أخرى: إذا فهمنا الثقافة باعتبارها ليست شكلاً مادياً (خارجياً) محضاً فقط، وإنما هي مضمون أيضاً Inner Culture يتعيّن في أنماط السلوك الداخلي كالمعتقدات، والقيم، والحاجات، استطعنا أن ندرك مدى التأثير الذي تحدثه الثقافة في الأفراد خلال تنشئتهم الاجتماعية، وندرك أيضاً أنّ التنشئة الاجتماعية تعني نشوء الأنا The ego بكل محتوياتها السيكولوجية المعبّرة عن الذات بوعي تام.
ولأنّ البيئة الأسرية مصدرٌ من مصادر التأثير الثقافي في نمو الشخصية خلال التنشئة الاجتماعية، فإن هذه البيئة هي المعلم الأوّل للثقافة منذ مراحل الطفولة المبكرة. ومن أجل أن يتوافق الأطفال توافقاً إيجابياً مع السياق العام للثقافة في مجتمعهم، فإنّه يستلزم مسايرتهم لثقافتهم الاجتماعية مسايرةً إيجابية وذلك بتبني الأسرة دور المؤسس لشخصية قادرة على الاختيار الصحيح من المثيرات المتعددة في المحيط الاجتماعي. مثال ذلك، من المفضل أن يقدم الأب والأم المثيرات المختلفة لأطفالهما لكي يختاروا منها، لا أن يفرضا عليهم خياراتهما بمبرر عدم قدرتهم على الإختيار الصحيح.
فالأسلم كما أعتقد، أن يحدد الوالدان المثيرات المطلوبة التي لا يسبب اختيار أي منها أيّة أضرار للأطفال، ومن ثمّ يطلقوا حريتهم لإختيار ما يشاؤون من هذه المثيرات. فإذا أراد الوالدان أن يقدما لعبة لطفلهما، فمن المفيد أن يحددا مجموعة من الألعاب ويتركاه لكي يختار بحرية إحداها دون تدخل مباشر منهما، على الرغم من ظهور بعض الصعوبات. ولكن على الأرجح سيكون بمقدور الطفل، بعد حين أن يتعلم الثقة في نفسه، وفي قدرته على الإختيار. أي أنّه ينمي مهارة سلوكية مفيدة في تشكيل القدرة على اتخاذ القرار النابع منه وليس من الآخرين ودون قلق.
يكتسب الأطفال معايير ثقافة مجتمعهم خلال التنشئة الإجتماعية الأسرية أوّلاً، ومن خلال مصادر اجتماعية أخرى كالمدرسة، والنادي، والمسجد، والأصدقاء حتى لم يتفق أفراد الأسرة أو بعضهم مع بعض جزئيات هذه الثقافة، ومع ذلك، يتعلم الأبناء معظم سلوكياتهم الأولية (كقواعد التفكير المنطقي، والإستعدادات السلوكية المتزنة في المواقف المحرضة على الحدّة الإنفعالية) من خلال ما يقدمه المربون (كالوالدين) من نماذج سلوكية أثناء تصرفاتهم اليومية في البيت وخارجه عندما يصطحبون أطفالهم معهم. كما يتعلمون أيضاً الأوامر والنواهي الوالدية المعزّزة سلبياً (عن طريق مثلاً حجب المكافأة أو سحبها) أو إيجابياً (كإعطاء مكافأة). هذه النماذج السلوكية، والأوامر والنواهي جزء لا يتجزأ من العقل الجمعي The collective mind الذي هو بمثابة اتجاه موجّه ومنظم.. "يسود سلوك الجماعة نحو أي موضوع مستقلاً عن كل فرد من أفراد الجماعة"، أو هو "مجموع العمليات العقلية المتشابهة لدى أعضاء الجماعة.."، أو هو الأنا الأعلى الاجتماعي The social super-ego المُعبّر عن الأوامر والنواهي المُتضَمّنة في ثقافة المجتمع، والمغروسة في معظم عقول أفراده. لذا، يمكن للعقل الجمعي أن يؤثر في أفراد المجتمع على هيئة أنا أعلى اجتماعي (ضمير عام) بقطع النظر عن بعض القناعات الذاتية لدى بعض أفراد المجتمع التي لا تتفق مع معطيات هذا العقل.
إذاً، العقل الجمعي يرسم، عموماً، بطريقة شعورية أو لا شعورية، ما يجب أن يكون عليه الأبناء مستقبلاً من خلال توقعات الآباء المستقبلية لأبنائهم. وأعني بذلك، أنّ الوالدين صارا متأثرين بالعقل الجمعي بحيث يوجه سلوكهما لجعل أبنائهما ينشأون وفقاً لرضا هذا العقل. أي أنّ هذا التأثر، يعمل على إنشاء شخصيات نموذجية تفترضها عقول المربين من أجل تحققها لدى الأبناء، عبر تنشئتهم الاجتماعية، لكي أوّلاً ينسجم المربون مع أناهم الأعلى (المتوافق غالباً مع العقل الجمعي)، ولكي ثانياً ينسجم أبناؤهم مع مجتمعهم ويرضى عنهم الأنا الأعلى الاجتماعي.
ويمكن تفسير السمات المشتركة بين الأفراد في المجتمع الواحد على أساس تماثل المعايير الثقافية أو الأوامر والنواهي التي تتدخل لتنمّط أساليب التنشئة الإجتماعية مشكّلةً بذلك حالة من حالات المحرّم أو التحريم. وقد حدد "كاردنير" كما أشار إلى ذلك "السيد محمد غنيم"، نمط الشخصية الأساسية (أو المشتركة السمات) بقوله: "إنّها الصورة العامة للشخصية التي يشارك فيها المجموع العام من أفراد المجتمع نتيجة الخبرات الأولى التي مروا بها جميعاً، وتتضمن هذه الفكرة النواحي التالية:
1- إنّ الثقافة تحدد ما يلقنه الآباء للأبناء وطريقة تلقينهم إياهم.
2- إنّ الثقافات المختلفة لها أساليبها المختلفة في تنشئة الطفل وتربيته الدروس المختلفة التي يتلقنها الأطفال.
3- إنّ خبرات الأطفال المبكرة تترك آثاراً مستمرة في شخصيته.
4- إنّ الخبرات المتشابهة تميل إلى انتاج شخصيات متشابهة داخل الثقافة الواحدة.
ولكن أي السمات السلوكية المشتركة التي تحددها الثقافة؟ إنّ المضامين الثقافية المُشدد عليها بالأوامر والنواهي من قِبَل المربين هي التي تشكل هذه السمات في الشخصية. ويُفترض أنّ هذا التشكل يتحدد وفقاً لآليتين سيكولوجيتين يمارسها المربون خلال التنشئة الاجتماعية، وهما التعلم بالتعزيز Reinforcement، والتوحد Identification. فارتبطت الآلية الأولى (التعزيز) بخفض التوتر أو بالإشباع، كما يحدث أحياناً لطفل تلقى مكافأة Reword جرّاء سلوكه. وارتبطت الآلية الثانية (التوحد) بمحاكاة النموذج السلوكي الذي يتمثله الطفل في سلوك مربيه (كوالديه) ليصبح هذا السلوك جزءاً من شخصية الطفل حاضراً ومستقبلاً. فنُظم التعزيز المختلفة مثمرة في تنمية السلوك المرغوب، وكذلك مثمرة في كفّ السلوك غير المرغوب/ مع ملاحظة أنّ الكف السلوكي الخارجي External behavioural inhibition المعتمد على العقاب البدني Corporal punishment، في الغالب الأعم، لا يؤدي إلى نتائج مرغوبة على مستوى السلوك، لأن تأثير مثل هذا الكف مؤقت أو أنّه لا يضبط السلوك غير المرغوب فيه على المدى البعيد. فالعقاب البدني للأطفال (كالصفع Spanking) يفقد فعاليته كطريقة ضبط لسلوكهم كلما كبروا في العمر، ناهيك عن الآثار السيكولوجية المؤذية للأطفال التي قد تظهر عليهم لاحقاً كالإكتئاب، والعدائية.
أضف إلى ذلك أنّ السلوك غير المرغوب فيه قد يتحول من سلوك علني إلى سلوك غير علني أو غير صريح. وللسيطرة على السلوك غير العلني كالشك وعدم الثقة في الآخرين وفي الذات والتردد في اتخاذ القرار، والذي لا يوقفه الكفّ الخارجي وحده، يمكن أن يكون التوحد آلية مفيدة للسيطرة على مثل هذا السلوك. فالطفل عندما يحاكي سلوك والده، سواء أكان سلوكه إيجابياً سلبياً، ستكون هذه المحاكاة طريقة لتعلم الأطفال نماذج مختلفة من السلوك (كالإقدام والإحجام) بقطع النظر عن كونه سلوكاً علنياً أم غير علني. إذ ستثبت هذه النماذج السلوكية أكثر في ذاكرة الأطفال كلما عزز أفراد الأسرة، وبالتحديد الوالدين، هذه النماذج بأنماط من النماذج السلوكية المُستحسنة كالإبتسام والمكافأة المادية، لتصير جزءاً من شخصية الطفل لاحقاً وهذه الطريقة يمكن أن تُفسر نشوء العادات السلوكية ومن ثمّ تعزيز ثباتها عندما تُكافأ اجتماعياً على نطاق واسع (من جميع أفراد الأسرة وغيرهم) لتتحول إلى عادات لها صفة الإستمرار (سمات). وعلى هذا الأساس يتوقف تحديد هوية الأنماط السلوكية المتوحد معها على سلوك الراشدين في المجال الحسي لأبنائهم أو أطفالهم. لذلك، فهاتان الآليتان السيكولوجيتان تعملان معاً في تشكيل سمات شخصية الطفل وفقاً لإرادة والديه أو مربيه التي تتأثر بالنموذج الإفتراضي (المتخيل) الذي ينسجم مع العقل الجمعي الذي يتبناه المربون.
- المحرم (التابو) في الشخصية Personality taboo:
ناقشنا مفهوم الشخصية وعلاقة تشكل سماتها من خلال أسسها الاجتماعية الأسرية. ولكي يُكشف عن الصلة بين المحرّم في الشخصية ومحيطها الاجتماعي الأسري، سنسعى إلى تحري المحرم كمفهوم، وكيف يتشكل سيكولوجيا ويمارس تأثيره سلوكياً.
عرفنا مما سبق أن الأنا الأعلى الاجتماعي يتمثل في أوامر ونواهٍ يُعبّر عنها أثناء تلقي الأبناء توجيهات مربيهم من أجل تنشئتهم تنشئةً صالحة وفقاً لإعتقادات هؤلاء المربين، وذلك لدرء المفاسد عن هؤلاء الأبناء، وتفاديهم لخطر الإنحراف عن الجادة المستقيمة التي هي التعليمات التي حدد خطوطها العريضة العقل الجمعي على شكل أنا أعلى سيكولوجي في الأفراد يحاسبهم كلما انحرفوا عن هذه الجادة. وقد يتحول الأنا الأعلى السيكولوجي في الأفراد يحاسبهم كلما انحرفوا عن هذه الجادة. وقد يتحول الأنا الأعلى السيكولوجي إلى رقيب ذاتي صارم تتحكم فيه محرّمات صارمة توحي للفرد أو للجماعة بأن يفعلوا هذا ولا يفعلوا ذاك معيقةً نشاطهم السيكولوجي أو كابحة ظهور قدراتهم العقلية الإيجابية للعلن. فالأنا الأعلى، بهذه الكيفية، تفقد مرونتها وتصير عامل تأزم Troubling كلما اصدمت بأي مستجد اجتماعي. ولا شك أن نتائج هذه المحرّمات الذاتية ستكون معطّلة لإرتقاء الشخصية، الأمر الذي يؤول بها إلى النمطية Stereotyping كتصلب السلوك Behavior rigidity أو الجزمية Dogmatism. ففي هذا الإطار، قام "عبدالستار إبراهيم" بدراسة للتحقق من الفرض المتعلق بزيادة التسلطية لدى الجماعات المتخصصة في الدراسات الدينية، وبانخفاضها أو اعتدالها لدى الجماعات الأخرى. فتبيّن من نتائج هذه الدراسة أو التسلطية تزيد لدى الجماعات المتخصصة في هذه الدراسات بالمقارنة بالجماعات الأخرى. وقد فُسرت هذه النتيجة على أساس ديناميات الجماعة التسلطية.
فهذه الجماعة لا تسمح بشذوذ آراء أفرادها، إذ تقوم بدور ضاغط في تحديد اتجاهات أفرادها لكي يتبنوا قيماً تتعلق بالاتجاه العام للجماعة، وهو ما لم يلاحظ لدى الجماعات الأخرى. فاقدام السلوك أو احجامه إذا ما خضع وسواسياً للمحرّمات الذاتية المرتبطة بالمجتمع أو الجماعة التي ينتمي لها الفرد، أصبحت مصادر هذه المحرّمات بمثابة طوطميات Totems تحديد ما يجب فعله وما لا يجب بقطع النظر عن المحاكمات العقلية الإيجابية الذاتية. أي تحريم إتيان أفعال بعينها دون أسباب منطقية. ففي "الطوطم والتابو" لـ"س. فرويد S. Freud" كانت المحرمات بمثابة قوى ذاتية فرضتها اعتقادات البدائيين تجاه إتيان أفعال محددة تخص طوطميات معينة. وهي محرّمات مرتبطة بالغريزة الجنسية نحو المحارم. وعلى الرغم من وجود جدل نظري حول المفهوم الفرويدي للمحرّم، إلا أنّ الصورة السيكولوجية لمحتوى المحرّم أو التحرير داخل الفرد أو المجتمع التي تحفّز الإمتناع عن إتيان أفعال محددة، هي ما نحاول كشفها أكثر لفهمها بجلاء.
فعندما تكون ثقافة المجتمع، هي ثقافة امتناع أو تحريم، يكون النظام الاجتماعي قائماً على نسق من المحرمات والقيود الجامدة التي تدفع الأفراد باتجاه المسايرة السلبية لهذه المحرمات، وبالتالي تباطؤ التطور السيكولوجي الذي لن يتوازى – في الغالب الأعم – مع سرعة التغيرات الاجتماعية التي تفرضها التحولات الاقتصادية والإعلامية العالمية. فامتناع أفراد المجتمع عن إتيان الفعل المبدع تحت تبرير سيكواجتماعي، سيجعل اتيان هذا الفعل بمثابة انتهاك للمحرّمات المتعلقة بالتقاليد والأعراف الاجتماعية. بهذا النموذج الذهني النكوصي، يمتنع المجتمع عن طيب خاطر أحياناً، عن إتيان الفعل المبدع تجنباً (أو محاسبة الأنا الأعلى غير المتسامح)، أو كما أشار "أندريه لالاند" إلى أن حالة الإنتهاك ليس عقاباً يمليه القانون المدني، بل هو قوى غيبية تعاقب الفرد المذنب بقتله أو بجعله أعمى على سبيل المثال لا الحصر. وتحول المحرّم الاجتماعي عبر التنشئة الاجتماعية، إلى محرّم سيكولوجي على هيئة أنا أعلى مفرط الرقابة على أفكار وسلوك الأبناء، سواء أكانوا أطفالاً أو راشدين، سوف يعيق قدرتهم الإبداعية عن أن تتمثل في سلوكهم اليومي، ويعيق أيضاً، قدرتهم على الإختيار من المثيرات المتعددة في محيطهم الاجتماعي. لذلك، عندما لا تتجدد أو لا تتطور سيكولوجية المجتمع أو الفرد تجاه محرّماتهم الاجتماعية يصبح إنماء الشخصية على صعيد الفرد والمجتمع في حالة ركود أو جمود. وفي هذه الحالة، يمكن أن تفرز التحريمات أو الأوامر والنواهي أعصاباً سيكولوجية في نمو الشخصية، فالشخصية التي تنشأ تحت ضغط الكفوف الاجتماعية Social inhibitions المتجاهلة لمتطلبات النمو السيكولوجي (الأوامر والنواهي التحريمية التي زرعها الآباء في أذهان الأطفال)، قد تصبح شخصية غير متوافقة، إذ يظهر عليها، لاحقاً، أنماط من السلوك غير المرغوب فيها كالتردد (عدم القدرة على اتخاذ القرار) والتطرف أو المتصلب (كعدم القبول بأنصاف الحلول)، النرجسية (تضخيم الذات)، والنفور من الغموض Intolerance of ambiguity الذي يتبدى على هيئة قلق من المستقبل ورفض التغيير.
مثل هذه السلوكيات التي تتحول إلى سمات سلوكية بفعل استمرار التوحد بالنماذج السلوكية وتعزيزها تهيئ الشخصية للوقوع في خطأ الإستجابة. ومن هذا الإعتبار السيكولوجي يمكن أن نتّجه نحو فهم العلاقة بين المحرّمات الاجتماعية والسيكولوجية في الشخصية كعاملي كفّ للإستجابات الصحيحة.
إنّ صياغة محرّم خاص في الفرد لا يحدث بمعزل عن قوى المحرمات الاجتماعية المشدد عليها انفعالياً التي تسوقها التنشئة الاجتماعية للأطفال الذين يضطرون لقبولها دون أدنى اعتراض منهم، لأنّهم لا يزالون في حاجة لآبائهم أو أمهاتهم، أو بالأحرى للكبار لكي يحققوا لهم الإشباع البيولوجي والسيكولوجي. هذه المقايضة غير العادلة تسفر علاقةً أشبه بعلاقة السيد بالمسود. فالأطفال مضطرون للطاعة العمياء لمربيهم من جهة، بينما يشبع المربون، من جهة أخرى نرجسيتهم بإجبار أطفالهم على اتباع ما ينسجم مع تصورهم الإفتراضي عن الشخصية النموذجية التي يرغبون في أن تتجسد في أطفالهم. هذه الرغبة النرجسية اللاشعورية، في مضمونها لدى المربين تطغى على سلوكهم، مبررين ذلك بضرورة أن يتقيد الأبناء بقيم مجتمعهم، وكأنهم – أي المربين – بهذه الحيلة الدفاعية (التبرير Rationalization) يقاومون التخلي عن نرجسيتهم بتكرار قناعاتهم في أبنائهم، غير مكترثين بضرورة المطالب النمائية السيكولوجية نرجسيتهم بتكرار قناعاتهم في أبنائهم، غير مكترثين بضرورة المطالب النمائية السيكولوجية للشخصية. وبذلك، تتحول النماذج السلوكية الوالدية التي تتناغم مع العقل الجمعي إلى ذهن الطفل لتُعزز بمكافآت مختلفة من المحيط الاجتماعي، مترتباً على ذلك انعدام أو ندرة النماذج السلوكية الوالدية الإيجابية، أو النماذج السلوكية المفيدة في بناء مهارات سلوكية لدى الأطفال تهيئهم لتعلم أساليب المحاكمات العقلية التي تمكّنهم من الإستجابة الصحيحة. وعلى هذا الأساس، يكتسب الأطفال نماذجهم السلوكية الكابحة لقدراتهم الإبداعية، والمحرضة على القلق حينما يصطدم الطفل، كراشد لاحقاً، بالمستجدات الاجتماعية التي تتطلب منه اتخاذ القرار بدرجة معقولة من الحزم في المواقف الجديدة. هذا الخنوع السلبي للسلطة الوالدية صار مُنمّطاً، وكأنّه نوع من التوحد بالمعتدي من أجل تفادي انتقامه. وبهذه الطريقة في نمو الشخصية، قد تنشأ سمات سلوكية معينة، كما ذُكر، ربما تؤدي إلى رفضٍ للسلطة الأبوية ولكل رموزها الاجتماعية والثقافية، أو خضوع كما ذُكر، ربما تؤدي إلى رفضٍ للسلطة الأبوية ولكل رموزها الاجتماعية والثقافية، أو خضوع لهذه السلطة ورموزها. بمعنى: أن قلق الطفل من والده الذي يأمره وينهيه (محرّمات)، يتحول (أي قلقه) عندما يكبر إلى ضمير مفرط المحاسبة، أو إلى تحسس مفرط من مخالفة أوامر الكبار، واستحباب مبالغ فيه لطاعتهم، والخضوع لهم خضوعاً ماشوسياً. ورغبة منفعلة في التمسك بالعادات والتقاليد القديمة باعتبارها (كتبرير) ارث الآباء والأجداد الذي لا يجب التخلي عن أي من جزئياته (تطرف في الاستجابة) أو أنّه – أي التمسك بالعادات والتقاليد – يحمي من الوقوع في المفاسد التي ينهى عنها الشرع. ناهيك عن تنمّط هذه الشخصية الخاضعة للسلطة الأبوية باعتقادات فكرية تسلطية لا تجد نفسها – هذه السلطة – في وئام انفعالي مع المرأة باعتبارها الطرف الأضعف في تقويم العقل الجمعي التحريمي، بهذه الطريقة تتجلى شخصية المربي الذي عجز عن تحرير سيكولوجيته من فرط التمسك بالمحرّمات الاجتماعية كحماية ذاتية ضد المستقبل الذي يعتقد – لأسباب سيكولوجية تناولناها – أنّه غامض، لذلك فهو مثير للقلق الذي يعيق ظهور قدرته الإبداعية الكامنة التي ينبغي أن تكون بمثابة طاقة تحرك فيه رغبة في تنشئة أبنائه على نحو يجعلهم أكثر فعالية، إيجابياً في المستقبل. كما تتجلى شخصية الطفل أو البالغ بسماتها السلوكية السلبية (غير الفعّالة إيجابياً في المستقبل). وبهذه الكيفية في التنشئة الاجتماعية، تتشكل الإستعدادات الأولية Predisposition لتكوّن لاحقاً المأزق السيكولوجي (كالقلق أو سوء التوافق) للطفل أو الراشد، والذي يمكن تشخيصه على أساس الصراع بين تأكيد الذات بالتمرد وعصيان السيطرة الأبوية وكل رموزها الاجتماعية والثقافية (وهن الأنا الأعلى السيكولوجي المرتبط بالثقافة)، وبين الخضوع السلبي لهذه السيطرة (أنا أعلى غير متسامح إزاء إحداث تغييرات في الثقافة).
أحادية وتعددية الإختيار:
القدرة على الإختيار يعني أن يمتلك المرء الإستعداد الإنفعالي والعقلي لجعل رؤيته النظرية إيجابية إزاء مجموعة المثيرات الاجتماعية المحيطة، بحيث يتمكّن من اختيار أحد هذه المثيرات دون أن يسبب له هذا مأزقاً سيكولوجياً. لذلك بإيضاح أكثر كما أشرنا سابقاً، من المفيد أن ينبغ الإختيار من محاكمة عقلية ذاتية لا يشوبها القلق أو الوساوس أو التردد المبالغ فيه. فتمكن الفرد أو الجماعة من توظيف المحاكمة العقلية إيجابياً سيختزل التكلفة السلبية للإستجابة (نتائج السلوك غير المرغوب فيها) إلى أدنى شدتها. فالتقاطع الحاد للسلوك الإيجابي مع العقل الجمعي التحريمي قد يحدّ من التأثير الإيجابي لهذا السلوك في إحداث التغيير المرغوب. وهذا لا يعني الوقوع في المسايرة الاجتماعية السلبية، لأنّ هذه المسايرة هي حالة من التبعية لسلطة هذا العقل التي تهدد قدرة الفرد أو الجماعة على توظيف ما لديها من استعداد إبداعي كامن، وتستثير مشاعر غير مرغوب فيها سيكولوجياً واجتماعياً. فتكون الشخصية بذلك قد وقعت تحت تأثير الخضوع السلبي لهذه السلطة ورموزها الاجتماعية والثقافية، كما تجعل قدرتها على الإختيار من المثيرات المتعددة في المحيط الاجتماعية واهنة، فتستجيب – أي الشخصية – استجابات منمّطة ومتشابهة لمواقف مختلفة. فتكون بذلك خياراتها السلوكية متماثلة إلى درجة الجمود. فبدلاً أن تختار الشخصية الإستجابة المناسبة (استجابة جديدة أو معدّلة) لموقف مستجد، نجدها تكرر استجابتها لهذا الموقف كما لو أنّ شيئاً لم يستجد. لذلك، هذا التصلب في السلوك، من المحتمل أن يؤدي إلى استفحال تأثير الشخصيات التقليدية أو المحافظة غير القادرة على التوافق مع المستجدات الاجتماعية في المجتمع، ناهيك عن المآزق الاجتماعية المترتبة على هذا التأثير الذي يساهم في إعاقة حركة التطور الاجتماعي الطبيعية. أمّا إذا كانت الشخصية فريسة للتمرد المبالغ فيه على هذه السلطة بهدف تأكيد الذات، فإن احتمال الإنفلات الانفعالي غير المنطقي كثيراً ما يؤدي إلى نتائج غير مرغوبة كتعاطي المخدرات والجريمة والتطرف والتعصب.
أمّا المسايرة الاجتماعية الإيجابية فيمكن أن توضح لنا أنّ الفرد أو الجماعة غير خاضعين ولا متمردين على العقل الجمعي التحريمي كاستجابتين غير متوافقتين سيكولوجيا واجتماعياً. فهذه المسايرة مؤشر على التوافق Adjustment مع الذات ومع الآخرين من أجل التغيير. ذلك أنّ الفرد أو الجماعة توظف قدراتها الإيجابية في فهم العقل الجمعي ذي السمة التحريمية، ومن ثمّ تفكيكه لإختيار ما به من إيجابيات ثقافية من أجل تشكيل محرّمات جديدة (كقيم ومفاهيم ديمقراطية مقننة مدنياً تكون بدائل للمحرّمات القديمة غير المرغوب فيها وتكون قادرة على ضبط السلوك ذاتياً) تنسجم مع بناء الشخصية المستقبلية غير جامدة التفكير والأقرب إلى الإتزان الإنفعالي.
وعلى هذا الأساس، تكون المحاكمة العقلية بمضمونها الإيجابي، كما اتضح هي أحد الأسس التي تقوم عليها نهضة المجتمع وحركة تطوره. لأنّ الشخصية التي فقدت مرونتها العقلية واتزانها الإنفعالي بسبب التنشئة الاجتماعية الخاضعة لتأثيرات العقل الجمعي التحريمي، لا تملك المهارات السلوكية (كوظيفة) التي تمكّنها من فهم (كبناء) هذا العقل، وبالتالي إحداث التفكيك الميسّر لإجراء التحول الاجتماعي أو على الأقل، تأسيس بنية ذهنية واعية بما ينبغي أن تكون عليه حركة التطور الاجتماعي في المجتمع.
المصدر: مجلة الكلمة/ العدد 22 لسنة 1999م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق