• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العلة الفاعلية وأقسامها

العلة الفاعلية وأقسامها

1 ـ الفاعل بالطبع:
هو الذي لا علم له بفعله مع كون الفعل ملائماً لطبعه. وهنا قيدان، الأول: إنّ الفاعل لا علم به بفعله، والثاني: فعله ملائم لطبعه، أي فعله ليس خلاف طبيعته، كالمعدة عندما تهضم الطعام، والحجر عندما يسقط من الأعلى إلى الأسفل، والكلية عندما تمتص السوائل وتطرحها على شكل بول، والقلب عندما يضخ الدم لسائر أنحاء البدن، فكل واحد من هذه الأشياء لا علم له بفعله، وكذلك هذا الفعل يلائم طبعه، ولذلك يعبر عنها بالفاعل بالطبع.

2 ـ الفاعل بالقسر:
وهو الذي لا علم له بفعله، وفعله لا يلائم طبعه، فيوجد أيضاً قيدان، كالفاعل بالطبع، ولكنهما يتفقان في جهة، وهي أنهما كليهما لا يعلم بفعله، لكن الفاعل بالطبع فعله يلائم طبعه، بينما الفاعل بالقسر فعله لا يلائم طبعه، بل هو مقسور عليه، أي توجد عوامل تجعله يضطرب في تأدية وظيفته، ولا يكون فعله ملائماً لطبعه، كالمعدة عندما تضطرب حالتها ولا تهضم الطعام، بل بدلاً من هضم الطعام بشكل صحيح تستفرغ الطعام، أو الحجر عندما يقذف للأعلى، فهو بطبيعته يسقط نحو الأرض بفعل الجاذبية، ولذلك فعندما يقذف الحجر نحو الأعلى، فهذا خلاف طبيعته وهي السقوط نحو الأسفل.

3 ـ الفاعل بالجبر:
وهو الذي له علم بفعله، ولكن فعله ليس بإرادته، فهو خلاف الفاعل بالطبع أو الفاعل بالقسر، لأنه يعلم بفعله وهما لا علم لهما بفعلهما، لكن فعله ليس بإرادته، كالإنسان الصائم عندما يكره على الأكل، أو يكره على فعل هو لا يريده، فعندما يشرب الماء وهو صائم تحت التعذيب، فهو فاعل مجبور وليس فاعلاً مختاراً، مع إنّه يعلم بفعله.

4 ـ الفاعل بالرضا:
وهو الذي له إرادة أو قل له علم بفعله، ولكن هذا العلم تارة يكون علماً إجمالياً وأخرى يكون علماً تفصيلياً، والعلم الإجمالي هنا، هو العلم الذي يكتنفه إبهام وغموض، كما نقول في معنى العلم الإجمالي في علم أصول الفقه، فالمقصود به علم زائد عليه إبهام، أي نعلم بالجامع ونشك بالأطراف، فالأطراف مبهمة مجملة، وهنا أيضاً الفاعل بالرضا له علم بفعله وله إرادة، ولكن علمه التفصيلي بالفعل هو عين الفعل، أما قبل الفعل فلا علم له إلا علم إجمالي بالفعل لأنّه يعلم بذاته، من قبيل الإنسان الكاتب مثلاً، فإنّه عندما يريد أن يكتب مقالاً يعلم انّه سيكتب مجموعة أفكار، ولكن هذه الأفكار إنما تتوالد وتتسع حال الكتابة، فقبل الكتابة له علم إجمالي، مبهم، لأنّه يعلم انّه سوف تحضر في ذهنه صور كثيرة لكن لا يستطيع تحديدها بشكل دقيق.
وهذا يعبر عنه بالفاعل بالرضا، ومن هنا قال السهروردي وأتباعه من الإشراقيين، بأنّ فاعلية الواجب للأشياء هي كذلك، أي أنّ الواجب له علم إجمالي في مرتبة ذاته بالموجودات، ولكن في مرتبة وجود الموجودات يكون له علم تفصيلي بها، أي إنّ تفسير الإشراقيين لعلم الواجب يكون هكذا: إنّه فاعل بالرضا، أي أنّه يعلم بنفسه علم تفصيلي، ولكن في مقام ذاته يعلم إجمالاً بمخلوقاته التي لم يخلقها بعد، بينما حينما يوجَدُ هذه الأشياء يتحقق له علم تفصيلي بها. إذاً فعلمه بالموجودات قبل الإيجاد والخلق إجمالي، ولكن بعد الإيجاد والخلق يكون علماً تفصيلياً.

5 ـ الفاعل بالقصد:
وهو الذي له علم بفعله، وله إرادة للفعل، ولكن هذه الإرادة إنما تتحقق بداع زائد على ذات الفاعل، وهذا الداعي عندما يتحقق توجد إرادة الفعل، وعندما لا يتحقق لا توجد إرادة الفعل، كالإنسان في أفعاله الاختيارية عندما يتصرف فلا بد أن يكون هناك داع وهذا الداعي زائد على ذات الإنسان، وبهذا الداعي تتحقق الإرادة للفعل، وحينئذ يفعل الفعل، فإن لم يوجد هذا الداعي لا تتحقق الإرادة للفعل، ولا يفعل الإنسان ذلك الفعل. ومن هنا قال المتكلمون إنّ الله تعالى في فعله للأشياء إنما يكون من نوع الفاعل بالقصد.

6 ـ الفاعل بالعناية:
وهو الذي له علم بفعله، وله إرادة لفعله، وبذلك يشترك الفاعل بالعناية مع الفاعل بالرضا والفاعل بالقصد، إلا أنّ الفاعل بالعناية له علم تفصيلي في مقام ذاته، ومن هنا يختلف الفاعل بالعناية عن الفاعل بالرضا، فالفاعل بالعناية له علم تفصيلي في مقام ذاته بينما الفاعل بالرضا له علم إجمالي في مقام ذاته وتفصيلي في مقام فعله، لكن العلم التفصيلي للفاعل بالعناية زائد على ذاته وليس هو عين ذاته، وهذه هي نظرية المشائين في تفسير علم الواجب، وهي النظرية المعروفة عندهم بنظرية الصور المرتسمة، وهو أنّ الواجب تعالى علماً تفصيلياً بفعله قبل فعله، ولكنه ليس عين ذاته وإنما هو زائد على ذاته، وهذا العلم هو الذي يكون سبباً ومنشأً لصدور المعلومات والموجودات في الخارج، لأنّ العلم ـ كما يقولون ـ ينقسم إلى قسمين: علم انفعالي، وعلم فعلي، والانفعالي هو الذي يكون له معلوم في الخارج، أي يتلقى من الواقع الخارجي، أما العلم الفعلي فهو ذلك العلم الذي بسببه يتحقق الموجود الخارجي، أي ينشأ من هذا العلم تحقق الموجود الخارجي، فعلم الواجب هو علم تفصيلي فعلي، حيثُ يتبعه تحقق الموجودات الخارجية، وهذا كما لو كان الإنسان واقفاً على شاهق، فبمجرد أن ينظر إلى الأسفل، وبمجرد أن ترتسم صورة السقوط للأسفل، وصورة أنّه سوف يتهاوى، هذه الصورة نفسها تسبب حالة اضطراب واختلال لديه يؤدي إلى انهياره وسقوطه، فأصبح علمه بالسقوط سبباً لتحقق السقوط، وبالنتيجة تحقق الواقع الخارجي فهذا علم فعلي، وهو علم تفصيلي قبل وقوع الفعل، وهذا العلم هو الذي يكون منشأً لصدور الفعل في الخارج.

7 ـ الفاعل بالتجلي:
وهو ما تبنّته مدرسة الحكمة المتعالية بالنسبة لعلم الباري تعالى بفعله. والفاعل بالتجلي هو الذي له علم تفصيلي سابق بالفعل، وهذا العلم التفصيلي هو عين العلم الإجمالي بذاته. وليس المقصود بالعلم الإجمالي هنا هو نفس العلم الإجمالي في الفاعل بالرضا، والذي كان يعني الإبهام زائداً الوضوح، وإنما العلم الإجمالي هنا غير الذي يقوله السهروردي، بل الإجمال هنا هو البساطة في مقابل التفصيل، لأنّ مصطلح الإجمال ينطبق على معنيين، فإما أن يراد به الإبهام، أو يراد به البساطة في مقابل التركيب، وهنا عندما نقول: إنّ الواجب تعالى له علم إجمالي، ليس المقصود بذلك أنّ علمه علم مبهم، وإنما المقصود بذلك أنّ علمه علم بسيط، وهذا العلم البسيط في عين أنّه بسيط هو جامع لكل العلوم التفصيلية، أي هو في عين أنّه إجمالي جامع لكل التفاصيل، ولذلك نقول: له علم سابق تفصيلي، فهو علم محيط بجميع الأشياء. ويمتاز هذا الكلام عن الكلام السابق، وهو ما قاله المشاؤون في الفاعل بالعناية، الذي يرى إنّ العلم التفصيلي زائد على الذات، في أنّ ما تقوله مدرسة الحكمة المتعالي هو أنّ العلم عين الذات وليس زائداً على الذات.

8 ـ الفاعل بالتسخير:
وهذا الفاعل وإن كان يذكر في عرض الأقسام السابقة كقسم ثامن، ولكنه في الواقع ليس قسماً آخر في مقابل الأقسام السابقة لأنّ الفاعل بالتسخير ينطبق على الأقسام الأخرى، لأنّ الفاعل ينقسم إلى قسمين ـ كما في الأمثلة السابقة ـ فمرة يفعل الفعل، ولكن له ولفعله فاعل آخر، كما في المعدة تهضم الطعام، وهي مسخرة للنفس الإنسانية، فهذا الفاعل مع فعله له فاعل آخر، أنت وفعلك لك فاعل هو الباري تعالى، وكل الموجودات الممكنة وأفعالها لها فاعل آخر هو الباري تعالى، فهو فاعل لهذه الفواعل وأفعالها، ولهذا نقول: إنّ الفاعل إذا كان من فوقه فاعل، يسمى فاعلاً بالتسخير، الإنسان هو فاعل بالتخسير، والمعدة فاعلة بالتسخير، والفاعل الذي فوق يسمى بالفاعل المسخر، الله تعالى فاعل مسخر للإنسان، ولكل الفواعل في عالم الإمكان وأفعالها. والفاعل المسخر الذي لا يسخره أحد هو الله تعالى.

نظرية المتكلمين:
عندما نراجع تراث المعقول الأعم من التراث الفلسفي وتراث المتكلمين نجد عدة نظريات في تفسير حقيقة النفس، فمثلاً يقول المتكلمون: إنّ الإنسان يمتلك عدة نفوس، أي ليس له نفس واحدة، بل له نفس نباتية، ونفس حيوانية، ونفس إنسانية، والنباتية هي النفس النامية، والحيوانية هي النفس الحساسة المتحركة بالإرادة، والإنسانية هي النفس الناطقة، وهذه النفوس ليس بعضها في عرض بعضها الآخر وإنما بعضها في طول بعضها الآخر، أي بعض هذه النفوس مسخرة وبعضها مسخرة، النفس النباتية مسخرة للنفس الحيوانية، والحيوانية مسخرة للنباتية، والنفس الإنسانية مسخرة للنفس الحيوانية.

نظرية بعض الحكماء:
وهي تقول: أنّ للإنسان نفساً واحدة، وهذه النفس لها قوى متعددة، والنفس هي التي تسخر هذه القوى، فللنفس قوة طبيعية، وقوة نباتية، وقوة حيوانية، وهذه القوى لا يسخر بعضها بعضاً، بل إنّ كل هذه القوى مسخرة للنفس، ولهذا عندما يقول الإنسان: أكلت أو سمعت، فإنما يسمع بواسطة القوة السامعة، ولكن ينسب ذلك لنفسه من باب نسبة الشيء إلى ما هو لغيره، أو قل هنا يوجد لدينا فاعل قريب وهو السامعة، وفاعل بعيد وهو النفس، وعلى هذا الأساس ينطبق الفاعل بالتسخير في المقام، باعتبار أنّ النفس تكون مسخرة والقوى الثلاث تكون مسخرة لها.

نظرية ملا صدرا:
وهي تبتني على أساس أنّ النفس حقيقة واحدة، ولكنها ذات مراتب متعددة، فإنّ لهذه الحقيقة الواحدة مرتبة في مرتبة القوة النباتية، ومرتبة في مرتبة القوة الحيوانية، وثالثة في مرتبة القوة الناطقة، وكل هذه المراتب تعود إلى حقيقة واحدة. ولهذا لا يوجد مسخر ومسخر، لأنّنا عندما نسمع شيئاً فالفاعل هو النفس، وعندما نأكل فالفاعل هو النفس، فالنفس هي التي تفعل الأفعال النباتية والأفعال الحيوانية والناطقية، وعندما نقول: سمعت أو أكلت فلا يكون ذلك من نسبة الشيء إلى ما هو لغيره، أو يكون لدينا فاعل قريب وبعيد، وإنما يوجد فاعل واحد وهو النفس.

النسبة بين الفاعل بالقصد وبين الفاعل بالعناية والجبر:
هناك نقطة أخيرة يذكرها الفيلسوف الإسلامي المعاصر العلامة الطباطبائي في السطر الأخير من هذا البحث، حيثُ يتأمل في كون الفاعل بالعناية والفاعل بالجبر مباينين للفاعل بالقصد تبايناً تاماً نوعياً، لأنّه يرى أنّ الفاعل بالعناية والفاعل بالجبر والفاعل بالقصد ليس بينهما مباينة نوعية.
إنّ الفاعل بالجبر والفاعل بالعناية لا يمكن أن نعتبرهما قسمين في قبال الفاعل بالقصد، وإنما هما أيضاً فاعلان بالقصد. فلو فرضنا أنّ هناك شخصاً جالساً تحت جدار يستظل به مثلاً، أو شخصاً راكباً في سفينة، فهذا الشخص تارة ينزل من السفينة باختياره، ومرة أخرى يتحول من هذه السفينة لأنّه لاحظ فيها خرقاً وتوقع غرقها في البحر فتحول منها إلى سفينة غيرها، ومرة ثالثة، يأتيه شخص ويجبره على التحول إلى سفينة أخرى. فعند ملاحظة هذه الحالات الثلاث، نجد الشخص في كل هذه الحالات تحول من هذه السفينة إلى أخرى ولكن في كل حالة من هذه الحالات عبرنا عن الشخص باعتباره فاعلاً بتعبير معين، مرة عبرنا عنه بالفاعل بالقصد، ومرة عبرنا عنه بالفاعل بالجبر، وأخرى عبرنا عنه بتعبير آخر هو الفاعل بالعناية، لكن لو لاحظنا هذا الشخص في كل هذه الحالات الثلاث، فإنه فاعل بالقصد، أي إنما فعل هذا الفعل بناءً على علم وقصد، وعلى هذا الأساس ففي الحالة الأولى وجد هو أنّه من المناسب أن ينزل من هذه السفينة ويمتطي أخرى، وفي الحالة الثانية وجد أنّ هذه السفينة ستغرق فتحول لأخرى، وفي الحالة الثالثة، عندما فرض عليه أن يتحول لسفينة ثانية، تحول أيضاً. ففي الحالة الأولى نعبر عنه بالفاعل بالقصد، إذ قام باختياره بعد أن فكر وتأمل. وفي الحالة الثانية، عندما شاهد الخطر، خشية من الخطر تحول، فنعبر عنه بالفاعل بالعناية، لأنّه مجرد أن تصور الغرق تحول إلى مكان آخر، وفي الحالة الثالثة، نعبر عنه بالفاعل بالجبر، عندما جاء شخص وأجبره على التحول.
وهذه الأقسام الثلاثة كلها لم يغب فيها القصد، فإنّ الفاعل بالقصد كما نجده في الحالة الأولى كذلك نجده في الحالة الثانية والثالثة.

ارسال التعليق

Top