• ٢٨ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٦ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العقل في الفلسفة الظاهراتية

العقل في الفلسفة الظاهراتية
◄الظاهراتية، أو "الفينومينولوجيا"، فلسفة قامت على إعمال العقل من أجل دراسة الظواهر من خلال بروزها في الوعي الإنساني لإثبات وجودها ومعرفة ماهيتها وفهم كينونتها. فهي عملية عقلية بحتة تحاول البحث عن المعاني المتعلقة بالظاهرة مهما كان نوعها في الكون وتفسيرها.

أحد ضروب هذه الفلسفة ما يعرف بالفينومينولوجيا التفسيرية أو الهيرومونطيقية Hermeneutic Phenomenonlogy، التي تعنى بتفسير الظواهر من خلال عنصري الزمان والمكان الفينومينولوجيين. وليس المقصود بالزمان عند الفينومينولوجيين ذلك الزمان الفيزيائي المعروف، بل هو الزمان المعاش في الذاكرة والوعي Lived Time، كما انّ المقصود بالمكان عندهم هو المكان المعاش Lived Space، وليس المكان الجغرافي الشائع والمعلوم عند غير اتباع هذه الفلسفة.

وقبل أن نشرع في بسط وإيضاح بعض المفاهيم المتعلقة بالفينومينولوجيا الهيرمونطيقية لابدّ أن نضع حقيقة أساسية نصب أعيننا ونحن نحاول أن نتعرف إلى تلك المفاهيم التي تمثل ركيزة البناء التي قامت عليها هذه الفلسفة، وهذه الحقيقة هي: انّ الهدف الذي تسعى إليه هذه الفلسفة، من وراء تفسير الظواهر أو التجارب الإنسانية المعاشة في الوعي أو الذاكرة هو إثبات وجود "الذات" الإنسانية في هذا العالم.

أما جوهر هذه الفلسفة ومنهجها في تفسير التجارب الإنسانية المعاشة فإنّه يقوم على أربعة عناصر هي:

أوّلاً: المكان الفينومينولوجي Spatiality، والمقصود به عند الفينومينولوجيين المكان الذي يبعث الإحساس والمشاعر المرتبطة بظاهرة معينة أو تجربة محددة في الوعي أو الذاكرة الإنسانية. فالأحداث مرتبطة عند تذكرها بمكان وقوعها (في البيت، أو المدرسة، أو الشارع، مثلاً). وعملية تذكر هذا الحديث أو تلك الظاهرة بتفاصيلها يتطلب تذكر المكان الذي وقعت فيه. وهذا التذكر يحتل مساحة معينة من وعي الإنسان عند محاولته تفسير هذا الحديث أو تلك الظاهرة لتكوين معنى تفسيري لها.

ثانياً: الزمان المعاش Temporality، وهو لازم من لوازم وجود التجربة المعاشة، فهو الوقت الذي قضاه الإنسان خلال مروره بتلك التجربة ومعايشتها، وليس المقصود من ذلك معرفة ساعة وقوع الحدث أو المدة الزمنية المحددة بالأيام أو الأسابيع أو غير ذلك، بل المقصود بعنصر الزمان في الفينومينولوجيا بشكل عام والفينومينولوجيا الهيرمونطيقية بشكل أخص هو الحضور الزماني لهذه التجربة في الوعي أو الذاكرة.

ثالثاً: الآخر المعاش Relationality، أو The Lived other، ويعني انّ التجربة الإنسانية المعاشة غالباً ما تكون متعلقة بشخص آخر تتفاعل معه وتكتسب من جراء هذا التفاعل معنى لوجودها.

رابعاً: الجسد المعاش Corporeality، أو Lived Body، وهذا العنصر الأخير يشير إلى الحقيقة الفينومينولوجية التي تقول انّ الإنسان متجسد في هذا العالم بجسمه، فكلّ إنسان يتمتع باستقلالية جسدية تمنحه معنى الوجود في الكون. فالطفل مستقل بجسده عن أبيه، والأب مستقل بجسده عن الأُم، والأُم مستقلة بجسدها عن أطفالها، وهكذا. وهذه الاستقلالية الجسدية لا تلغي مطلقاً الترابط المعنوي الوثيق بين هذه "الكيانات المستقلة" التي تكوّن "أسرة" يشعر كلُّ واحد من أفرادها بانتمائه المعنوي إليها.

هذه هي العناصر الأربعة التي تنطلق منها الفلسفة الفينومينولوجية التفسيرية أو الهيرومونطيقية في فهمها للتجربة الإنسانية المعاشة، وهي تتخذ من هذه العناصر الأربعة ركائز مهمة لتفسير الظواهر الإنسانية لإثبات وجودها. فهي – إذن – فلسفة تعنى بدراسة الظواهر لمعرفة ماهيتها من خلال أعمال العقل الذي يقوم بوظيفة التفكير والتذكير والحكم على الظواهر. وفلاسفة الفينومينولوجيا الهيرمونطيقية – كغيرهم من الفلاسفة الذين أجلّوا العقل وجعلوه الفيصل في فهم ظواهر الوجود. إذ انّ مناط التحليل والتفسير عندهم هو العقل فقط ولا شيء غيره كما أشار بذلك بعض المؤسسين الأوائل لهذه الفلسفة أمثال "هيدجر" (1889-1976م).

وهذا العقل هو بمثابة المحيط الذي يتحرك فيه الفكر الفينومينولوجي الهيرمونطيقي ولا يتعداه وهو المنظار الذي يبصر به اتباع هذه الفلسفة العقلية في ميادين الإبداع الإنساني. فهم يحاولون أوّلاً اثبات وجود "الذات" الإنسانية في هذا العالم، وهذه هي غايتهم. أما وسائلهم فتتبع الظواهر الإنسانية والتجارب المعاشة ومحاولة فهمها وتفسيرها للإستدلال على حقيقة وجود الذات. واما مجالاتهم في ذلك فتتعدد وتتنوع بحسب الظاهرة موضوع الدراسة، تارة في الروحانيات، أو في الشعور، أو في علم النفس، وتارة أخرى في التربية، أو في الأدب، وهكذا.

وقد كان الأثر الفكري لهذه الفلسفة – في بداياتها – لا يتجاوز حدود المجتمعات التي ظهرت فيها، ولكن عندما تبنى نظريات هذه الفلسفة أساتذة الجامعات الأوروبية والأمريكية، وبحثوا في إمكانات تطبيقها على فروع العلوم الإنسانية كالتربية والاجتماع والأدب وعلم النفس وغير ذلك من العلوم التي تجعل حياة الإنسان موضوع بحثها ودراستها، اشتد عود هذه النظرية وشاعت في أوساط النخبة المثقفة.

وكما هي عادة المثقفين في الوطن العربي الذين يجوبون موائد الفكر الغربي ويقفون على أبواب الثقافات الأوروبية فقد عنّ لقلة منهم أن تستعير بذور هذه الفلسفة لغرسها في عقلية المثقف العربي من خلال تيسير مفاهيمها كما فعلت "سيمون دي بوفوار" عندما أدركت غموض ما أفرزته عقول سارتر، وهسرل، وميرلو – بونتي وصعوبة فهمها فعمدت إلى أن تنزل بمستواها الفلسفي المعقد إلى مستوى "عقلية الجماهير المثقفة" من خلال فنون الأدب المختلفة، ليسهل عليهم تفكيك رموزها واستجلاء طلاسمها.

ووجه الشبه بين من أخذ بمثل هذه الفلسفات الأوروبية الحديثة وبين العقلانيين الأوائل – مع الفارق بطبيعة الحال – هو انّ مناط تفكيرهم هو العقل، والعقل فقط. فهو مصدر المعرفة بالنسبة لهم، وفي ضوء ما يدركه هذا العقل ويفهمه ويسلم به يكون معيار المعرفة من عدمها. لأنّ هؤلاء الفلاسفة – اعني فلاسفة الفينومينولوجيا – قد أوغلوا في استخدام العقل حتى وصلوا إلى مرحلة عجز العقل فيها عن إدراك الكثير من الماديات والمحسوسات الكونية. فبالرغم من وعي العقل وإدراكه لآيات كثيرة من آيات الله في الأرض وفي السماء وفي الأنفس إلّا أنّ ذلك قليل من كثير مما يعجز العقل عن فهمه ومعرفة أسراره (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) (الإسراء/ 85).. فما دلالة ذلك؟

دلالته الواضحة والصريحة هي: أنّ العقل الإنساني لا ينبغي أن يكون وحده هو الفيصل في قبول الأشياء أو ردها، أو تصورها ومن ثمّ الحكم عليها، أو الإيمان بها وتصديقها أو رفضها وتكذيبها، لما في ذلك من ضرر كبير على عقيدة الإنسان وإيمانه الفطري، وما يؤدي إليه ذلك من إنكار للغيبيات وقصر العقل على ما هو معلوم أو مشاهد ومحسوس.

ولا يفهم من ذلك إقصاء العقل عن دائرة التفكير وتعطيل قدرته على التدبير في الكون أو في النفس الإنسانية أو تقييده أو الحجر عليه، فذلك مطبق في الكنائس والمعابد التي تمارس فيها طقوس روحية وحركات شعائرية شكلية باسم الدين، أما في الإسلام فإنّ للعقل مكانته التي يعتز بها ويعتمد عليها في ترسيخ العقيدة والحث على الإيمان بها. ومن يقرأ القرآن يعلم علم اليقين أنّه ليس ثمة كتاب أطلق سراح العقل وغالى بقيمته وكرامته كالقرآن الكريم كتاب الإسلام، بل أنّ القرآن ليكثر من استثارة العقل ليؤدي دوره الذي خلقه الله له. ولذلك نجد عبارت (لعلكم تعقلون) و(لقوم يتفكرون) و(لقوم يفقهون) ونحوها تتكرر عشرات المرات في السياق القرآني لتؤكد النهج الفريد في الدعوة إلى الإيمان وقيامه على احترام العقل. وكلّ هذه الاستثارة العقلية للتدبر والتفكر تتم من أجل إثبات القضايا الكلية والأصول الكبرى في العقيدة مثل قضية التوحيد، والربوبية، وإثبات البعث والحساب، ومعرفة الحكمة من التشريع، وإدراك مقتضيات العلاقة بين الإنسان وغيره من بني جنسه، وبين الإنسان والنظام الاجتماعي الذي يعيش فيه وبين الإنسان والكون. كلّ ذلك يتم في حدود قدرة العقل على الوعي والإدراك والمعرفة. أما حين يعجز العقل عن إدراك الحكمة من بعض القضايا المتعلقة بالعقيدة فإنّ الإسلام أمر العقل بالامتثال للشرع حتى ولو لم يدرك سبب ذلك والحكمة منه. وقد منع الإسلام العقل "من الخوض فيما لا يدركه ولا يكون في متناول إدراكه كالذات الإلهية والأرواح في ماهيتها ونحو ذلك فقال عليه الصلاة والسلام: "تفكروا في آلاء الله ولا تتفكروا في الله". وقال (ص): "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق الله فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل آمنت بالله ورسوله"، وعن الروح قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (الإسراء/ 85)، فصرف الجواب عن ماهيتها لأنّه ليس من شؤون العقل السؤال عنها ولا من مداركه، وكذلك الجنة ونعيمها والنار جحيمها وكيفية ذلك وغيرها من الغيبيات التي ليست في متناول العقل ومداركه". ومثل هذه الأشياء التي يعجز العقل عن إدراكها تندرج في باب العلم الخبري النظري الذي هو نقيض العلم العملي، لأنّ العلم أحدهما العملي وهو ما كان شرطاً في حصول المعلوم، كتصور أحدنا لما يريد أن يفعله. فالمعلوم هنا متوقف على العلم محتاج إليه. والثاني العلم الخبري النظري، وهو ما كان المعلوم غير مفتقر في وجوده إلى العلم به، كعلمنا بوحدانية الله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وصدق رسله، وبملائكته، وكتبه، وغير ذلك. فإنّ هذه المعلومات ثابتة سواء علمناها أو لم نعلمها، فهي مستغنية عن علمنا بها، والشرع مع العقل هو من هذا الباب، فإنّ الشرع المنزل من عند الله ثابت في نفسه، سواء علمناه بعقولنا أو لم نعلمه، فهو مستغن في نفسه عن علمنا وعقلنا. ولكن نحن محتاجون إليه وإلى أن نعلمه بعقولنا، فإنّ العقل إذا علم ما هو عليه الشرع في نفسه صار عالماً به، وبما تضمنه من الأمور التي يحتاج إليها في دنياه وآخرته، وانتفع بعلمه به، واعطاه ذلك صفة لم تكن له قبل ذلك، ولو لم يعلمه لكان جاهلاً ناقصاً".

وهذا الجهل والنقص الذي هو وصف للعقل عندما يعجز عن إدراك بعض ما جاء به الشرع، فيكون إقحامه فيما يعجز عن إدراكه حينئذ تكريس لجهل الإنسان بجهل العقل. وجهل الإنسان بجهل العقل هو الحقيقة التي عجز عن إدراكها الفينومينولوجيون الذين بنوا أسس فلسفتهم التفسيرية للظواهر على العناصر الأربعة التي ذكرناها في مقدمة هذه المقالة، وهي العناصر التي لا تتعدى حدود الوعي الإنساني، أو تتجاوز الأشياء المحسوسة أو المشاهدة من أجل إثبات وجود "الذات" وتجسدها في هذا الوجود من خلال إسهاماتها وإبداعاتها في فنون الحياة المختلفة كالتربية والاجتماع وعلم النفس والأدب التي تشكل جميعها "تجربة معاشة". انّ وقوف هذه الفلسفة عند حدود ما يمكن للعقل إدراكه وعدم تجاوزه إلى غيره هو السبب الرئيس وراء تخبط كثير من اتباعها في دراسة وبحث ما يعرف الميتافيزيقيا وتناقضهم في أطروحاتهم ومشاريعهم الفلسفية حتى آمن كثير منهم بفكرة "العدم"، وقالوا كما قال هيدجر من قبل: "كلنا سنموت، وما سيبقى من أجسادنا بعد الموت حفنة من تراب لا تشمل ذاتا"؟!!

 

المصدر: مجلة القافلة/ العدد الثامن لسنة 1996م

ارسال التعليق

Top