• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الزمن النفسي في القرآن

محمّد بن موسى بابا عمّي

الزمن النفسي في القرآن

◄أوّل ما يلاحظ في تسمية هذا النوع من الزمن هو إضافته إلى (النفس)، ونقصد بالنفس ذلك الجوهر اللطيف (الحامل لقوّة الحياة والحس والحركة الإرادية).

وبعيداً عن التعقيدات التعريفية، وتشعّب التعاريف بين الفنون، نستعمل الإضافة إلى النفس في بحثنا هذا للدلالة على ذلك الإحساس الذاتي والشعور بمرور الزمن أو بعدم مروره، مع تقدير قدره انطلاقاً من هذا الإحساس.

فإذا عُدنا إلى عناصر الظاهرة الزمنية، فإنّنا نجد أنّ هذا الإحساس والتقدير ما هو إلّا من خواص الإنسان، فالزمن النفسي يكون إذن زمناً إنسانياً محضاً، خلافاً للزمن المبارك الذي هو زمن متعلّق أساساً بتقييم الله تعالى له حسب مشيئته وفضله، فلا يُضاف الزمن النفسي إلى غير الإنسان، كما لا يُضاف الزمن المبارك إلى غير الله.

وقد حاولنا أن نجمع نماذج للآيات التي تدخل فيها النفس الإنسانية، تقديراً للزمن، وشعوراً وإحساساً به. فاخترنا من بينها الآيات الآتية:

1 ـ (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا) (المعارج/ 4-7).

2 ـ (إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلا) (الإنسان/ 27).

3 ـ (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً) (الأعراف/ 187).

4 ـ (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ) (يونس/ 45).

5 ـ (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا) (الإسراء/ 52).

6 ـ (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (الروم/ 55-56).

7 ـ (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ) (الأحقاف/ 35).

8 ـ (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) (النازعات/ 46).

9 ـ (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (المؤمنون/ 112-114).

إذا حاولنا أن نرجع إلى الخصائص المشتركة بين هذه الظواهر الزمنية، بالنظر إلى عناصر كلّ ظاهرة، فإنّنا نلاحظ ما يلي:

الجدول المقارَن للعناصر الزمنية:

* العنصر وجوده في هذه الآيات.

* الشيء المتزمن الكفار في عموم الآيات.

* المقدار الزمني مقداران: زمن حقيقي (عمر الكافر)، ومن مقدّر.

* الوحدة اليوم، السنة، الساعة، العشي، الضحى.

* المجال أو (السلَّم) الزمن الأرضي.

* الحركة اللبث في الدنيا.

فالأمر المختلف فيه هو المقدار الزمني، وسبب اختلافه هو تقدير الإنسان لحجمه تقديراً نفسياً لا حقيقياً.

ومجمل الآيات تسعفنا في تحديد مفهوم الزمن النفسي، وتفصيلها كالآتي:

1 ـ يوماً ثقيلاً: موضوع الآيات الأولى هو يوم الحساب، فطول هذا اليوم مقارناً بالزمن الأرضي هو خمسون ألف سنة، فالمدة التي يقضيها المؤمن والكافر في هذا اليوم العصيب هي نفس المدة، ولكن الإحساس بها، وتقدير طولها وقصرها يختلف بينهما اختلافاً شديداً.

فالمؤمن يراه يوماً قريباً قصير المدة، أمّا الكافر فيثقل عليه ثقلاً شديداً، فهو يستطيل (ذلك اليوم لشدته) وهوله.

ويفسّر هذا المعنى حديث رواه الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري قال: قيل لرسول الله (ص): يوماً كان مقداره خمسين ألف سنة، ما أطول هذا اليوم؟ فقال رسول الله (ص): "والذي نفسي بيده إنّه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا".

وإمعاناً في الدلالة على طول هذا اليوم على الكافر، وفي التعبير على شدته عليه استعمل القرآن الكريم لفظ (الثقل)، مع أنّ العادة أن يقال: زمن طويل أو قصير، لا ثقيل أو خفيف.

والحقّ أنّ القرآن في قوله تعالى: (إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلا) (الإنسان/ 27)، قد استعار الثقل لشدة اليوم وهوله، ولعظم وقعه على نفس الكافر، فهو ثقيل ثقلاً معنوياً على نفسه، لا ثقلاً حسياً على جسده.

وقد وصف الزمن ـ كذلك ـ بالثقل في قوله تعالى: (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً) (الأعراف/ 187)، وهذا الثقل في (الساعة) إنّما هو لفقد العلم بها: "فإنّ المجهول ثقيل على النفس، ولا سيما إذا كان عظيماً".

وقد أثبتت أحدث الدراسات الزمنية أنّ الوقت لا يمر عندما نكون قلقين، ويمر بسرعة هائلة في ساعات الفرح والسرور والنعيم، وهذا المعنى يعرفه الناس بالمراس والإحساس، ونقرأه في مصادر الأدب منذ القديم، ومن ذلك قول الشاعر:

أعوام وصلٍ كان يُنسى طولها

ذكرى النوى فكأنّها أيّام

ثم انبرت أيّام هجرٍ أردفت

جوي أسى فكأنّها أعوام

ثم انقضت تلك السنون وأهلها

فكأنّها وكأنّهم أحلام

والذي أضافته هذه الدراسات هو أنّ الثقل يسببه معامل بيوكميائي (Facteur biochimique) يؤثر في الإحساس، إذ إنّ الإحباط يفرز مواد تحدث خللاً في التوازن الكيمائي للجسد، فيشعر بالتالي بثقل الوقت عليه.

وهذا ـ بالطبع ـ لا يعني إنكار الجانب النفسي في الإنسان، وأنّه يقدّر الأشياء، ويميل إليها أو ينكرها، تبعاً للشعور النفسي.

وأضاف المتخصص المعاصر في الدراسات الزمنية إدوارد هول (Hall) في تفسير هذه الظاهرة: إنّ الساعة الخارجية والساعة الداخلية ـ البيولوجية ـ للإنسان تسيران في إيقاع متزن، وفي حالة القلق يختل الإيقاع فيشعر الإنسان أنّ الوقت لا يمرُّ، وأنّه ثقيل ومملّ.

وفي هذا المعنى تذكر دراسة حول الزمن والبرمجة أنّه: "كلّما أسرعت كلّما تقلّص الزمن. وإذا كنت خائفاً أو حزيناً فإنّ الزمن يمتد؛ أمّا إذا كنت فرحاً مسروراً فإنّني أنسى الزمن".

وأي وقت أكثر ضيقاً وقلقاً وحسرة على الإنسان الكافر من يوم الحساب، وهكذا لن يكون في الزمن أثقل على الإنسان من هذا اليوم العصيب: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا) (الفرقان/ 26).

إذن هذا هو النوع الأوّل من أنواع الزمن النفسي، وفيه يحسّ الكافر بثقل الزمن، ويكون خفيفاً على المؤمن؛ أمّا النوع الثاني فهو خلاف الأوّل.

2 ـ ساعة من نهار: في مجمل الآيات الماضية من 4 إلى 9 نرى أنّ الكافرين يسألون أو يُسألون عن مدة لبثهم في الدنيا، فلا يقدّرون حقيقتها، أمّا الذين يعلمون حقيقة هذه المدة فهم الذين أوتوا العلم من المؤمنين: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (الروم/ 56).

فالكفار يظنون أنّهم لم يلبثوا في الدنيا إلّا (ساعة من نهار)، أو (قليلاً) من الوقت، أو (بعض يومٍ)، أو (عشية)، أو (ضحوة)، أو على أكثر التقديرات (يوماً) كاملاً من أيّام الدنيا.

وهذا التقدير الخاطئ ما هو إلّا ظن: (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا ً) (الإسراء/ 52)، فهو تقدير غير صائب، منشؤه الإحساس النفسي بالمرور السريع للأيام والليالي، والسنين والقرون والأعمار والآماد.

والذي جعل هذه الأزمنة تسرع كلّ هذا الإسراع هو كونهم كانوا في لهو ولعب: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا) بالحصر (كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) (التوبة/ 65)؛ (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) (الأعراف/ 51)، (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (آل عمران/ 185).

وقد أثبتت دراسات ميدانية أنّ الغرائز والمشاعر الجنسية (Emotions) عندما تثار، فإنّها تكون سبباً لتسارع زمني مهول، وقد أعطيت لهذا التسارع تفسيرات نفسانية وفزيولوجية وعصبية، ومهما يكن فإنّ الذين يقضون حياتهم كلّها في بحر من الغرائز يُحدث خللاً فاحشاً في تقدير الزمن، وهذا ما يفسّر هروب الشباب والأحداث من وطأة المشاكل باللجوء إلى شتّى أنواع الغرائز، حتى أكثرها حيوانية، والله تعالى يقول عن هؤلاء: (إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) (الفرقان/ 44)، (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الأعراف/ 175-176).

ومن مظاهر اللهو والعب: الضحكُ، الذي اتّخذ علاجاً للقلق، إذ يعطي للمرء إحساساً بالسعادة، وبالتالي يخفف من وطأة الوقت الثقيل عليه، حتى يتسارع ويخفّ ويمرّ دون أثر يذكر. فلذلك كان قليله مطلوباً، وكثيره حراماً.

وفي الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): "لا تكثروا الضحك فإنّ كثرة الضحك تُميت القلب". وما موت القلب إلّا جهل بمرور الوقت وبقيمته وقدره، وهروب من تبعات الحياة وآمالها وآلامها.

ولعلّ ما يقع في العالم اليوم من غزو وسائل الترفيه واللعب والمتعة المفرطة على حسب الجد والعلم والتحصيل، هو من قبيل هذا النوع من وسائل قتل الوقت، فهي تجعل من زمن الإنسان هباءً منثوراً، ثم تورثه يوم القيامة حسرة وثبوراً.

وفي اللغة المستعملة ـ عند عامّة الناس ـ دليل صريح على ذلك، فأنتَ عندما تسأل إنساناً جالساً في ملهى أو مقهى: ماذا تفعل هنا؟ فإنّه يجيبك: أنا أقتل وقتي.

إذن مجمل ما في هذا النوع من الزمن النفسي: أنّ الكافر لا يُقدِّر عمره في الدنيا حقّ قدره، فالكفّار وإن عاشوا مائة عام، أو حتى ألف عام فإنّهم (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) (النازعات/ 46).

3 ـ تقلص الزمن: المظهر الثالث من مظاهر الزمن النفسي في القرآن الكريم هو تقلص الزمن في حالة الخطر، وبالضبط في حالة توقع الموت، وهذا التقلص كان مثار انتباه الباحثين في الدراسات الزمنية، حتى إنّهم أثبتوا أنّ الموت عندما يحيط بإنسان يجعله يستعرض شريط زمنه كاملاً في ثوانٍ معدودة.

فبين القدر الحقيقي للزمن الذي عاشه في هذه الحادثة: بضع ثوانٍ، والزمن الذي استعرضه: أعوام عديدة، ليس هناك أي تناسب رياضي، ومن ثمّ لا يمكن أن يعتبر هذا النوع من الزمن زمناً نسبياً بالمفهوم الفزيائي، بل هو نسبي بالمفهوم النفسي وفي مستوى الإحساس والشعور لا غير.

وفي القرآن الكريم آية تدعم هذا الحكم، وهي تصف لنا إحساس المشرك بالزمن حين حضور الوفاة، فهو يرى عمره كاملاً كأنه ساعة: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) (الروم/ 55) وقد تكون ساعة خاصّة أو ساعة عامّة (يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ) (الروم/ 55).

وفي آية سورة النازعات إضافة تتمثل في الفعل: (يرى)، الذي يفيد تحقق الموت والهلاك: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا).

إذن هذه هي مواصفات الزمن النفسي، هو كما يلاحظ غير الزمن المبارك، ويختلف عن الزمن النسبي كذلك بكونه زمناً ذاتياً، علاقته كاملة مع الإحساس والشعور والنفس والمجالات الذاتية، وليس مع المقاييس، والأحداث الكونية، والمجالات الموضوعية.

وفرق آخر بين الزمن النفسي والزمنين الآخرين هو أنّ الأوّل يوصف بالصدق والكذب، وبالخطأ والصواب، فيقال: صدق فلان في تقدير الفترة الفلانية، أو لم يصدق؛ ويقال: أخطأ أو أصاب. أمّا الزمن المبارك والزمن النسبي فلا يوصفان بالكذب، إذ هما زمنان حقيقيان ثابتان لا شك فيهما.►

 

المصدر:  كتاب مفهوم الزمن في القرآن

ارسال التعليق

Top