محمد أركون ترجمة وتقديم هاشم صالح
ما هي المسألة الأساسية في عصرنا بعد مشكلة الأكل والشرب والتنمية وتقليص معدّلات الفقر بطبيعة الحال؟ إنها مسألة المصالحة بين الإسلام والحداثة أو بين الإسلام وروح العصور الحديثة. فلأننا لم نجد حلاً ناجعاً لهذه المشكلة حتى الآن فإن مجتمعاتنا انقسمت إلى قسمين متصارعين: الأوّل يشدّ إلى الأمام والثاني يشدّ إلى الخلف، الأوّل تقدمي تنويري والثاني تراجعي أصولي. ولكن هناك تياراً وسطياً بين بين... وله أهميته في هذه المرحلة الانتقالية المترجرجة. وهكذا دخلنا في حروب أهلية صريحة أو مستترة في طول العالم الإسلامي وعرضه. بل وأصبحنا مشكلة العالم كله بعد جريمة 11 سبتمبر وما تلاها أو سبقها من جرائم. أقول ذلك وأنا أفكر بما عانته الجزائر طيلة السنوات العشر السوداء المريرة. ولا يمكن بالتالي أن تبقى الأمور على ما هي عليه. فالمثقفون هم قادة الأُمّة وينبغي أن يتحرّكوا لمواجهة هذا الوضع الذي لم يُعد يُحتمل أو يُطاق. فإما أن ننجح في بلورة تفسير جديد لديننا وتراثنا، أقصد تفسيراً عقلانياً مستنيراً هادياً مهدياً وإما أن نترك الساحة للمتزمتين الظلاميين يصولون فيها ويجولون ويشوّهون صورتنا على مستوى العالم كله. وهنا نجد اننا بحاجة إلى فكر أركون كثيراً لأنّه طرح هذه الإشكالية من أوسع أبوابها وبالعمق اللازم. كل أبحاثه ما هي إلا عبارة عن قراءة نقدية للتراث الإسلامي على ضوء العلوم الإنسانية الحديثة. كلها عبارة عن مقارعة عميقة بين التراث والحداثة، بين الأصالة والمعاصرة. ولا يعني ذلك أنّه يسلّم للحداثة بكل شيء ويرفض من التراث كل شيء. وإما يعني أنّه يضئ هذه بذاك والعكس صحيح أيضاً. فالحداثة على الرغم من إنجازاتها التحريرية الكبرى إلا أنّ لها مزالقها أيضاً وشططها وانحرافاتها. ونحن لسنا مضطرين لأن نأخذ كل شيء أو نرفض كل شيء وإنما نأخذ ونرفض، أي نختار ما يتناسب مع شخصيتنا وأصالتنا التاريخية ونطرح ما عداه. وفي التراث العربي الإسلامي قيم روحية وأخلاقية عليا لا يمكن لعاقل أن يضحي بها. ولكن كل هذا لا يتوضح جيِّداً إلا من خلال المقارعة أو المواجهة بين تراثنا العريق والحداثة العالمية. على هذا النحو كُنتُ أفهم فكر أركون ولا أزال. ولهذا السبب لفت انتباهي أكثر من غيره وتعلقتُ به. فهو يضع التراث كله على محك الحداثة ويضع الحداثة كلها على محك التراث. وعن طريق هذه المواجهة الدقيقة والصارمة بين القطبين الكبيرين تنتج إضاءات ساطعة، تحريرية، رائعة.
والواقع أن أركون يفرّق بين نوعين من الحداثة: الحداثة المادية والحداثة العقلية. فقد يستطيع مجتمع ما كالمجتمعات الخليجية البترولية مثلاً أن يستورد كل أنواع الحداثة المادية وتجهيزاتها وأدواتها ومع ذلك يظل مجتمعاً تقليدياً محافظاً بل ومتشدداً جدّاً من الناحية الدينية. وهذا الشيء أصبح واضحاً الآن لكل ذي عينين، بل إنّ المسؤولين في هذه البلدان أصبحوا يعترفون به ويدعون إلى إصلاح برامج التعليم التي تفرّخ المتطرفين تفريخاً وبشكل أتوماتيكي. هذا ما لاحظناه من خلال البيان الختامي لمؤتمر القمة العربية الذي عقد في السعودية عام 2007. يقول أركون في آخر تصريحاته بما معناه أن كل فكر نقدي عقلاني عن الدين ممنوع في المجتمعات الإسلامية والعربية من قبل الأنظمة الحاكمة ومن قبل معارضاتها الأصولية على حد سواء. ولذا فإن تعليم الإسلام من المدرسة الابتدائية إلى الجامعة يظل حتى الآن في أيدي التقليديين المنغلقين على الحداثة وفتوحاتها العلمية والفلسفية. وبالتالي فإذا لم يحصل إصلاح جذري لبرامج التعليم السائدة فسوف يظل الأصوليون مسيطرين على الساحة ولن تنفع محاربتهم أمنياً ولا حتى عسكرياً. ينبغي أن يُواجَهوا فكرياً وعلى أرضية التراث الإسلامي نفسه. ينبغي أن نقدم قراءة جديدة مقابل قراءة قديمة، أو تأويلاً جديداً للإسلام غير هذا التأويل القديم الذي عفا عليه الزمن ولكن الذي لا يزال راسخ الجذور حتى الآن، وهو الذي يخلع المشروعية القداسية على أقوال المتطرفين وأفعالهم. وعندئذ ينكشف مدى جهلهم وقصورهم ليس فقط بالحداثة العالمية وإنما أيضاً بالحداثة العربية الإسلامية التي أشّعت على العالم كله انطلاقاً من بغداد والقاهرة وقرطبة والأندلس الزاهرة. وقد ركزت في هذا الكتاب كثيراً على هذه النقطة كما سيلاحظ القارئ. قال ذلك لأنّ نقطة الانطلاق الأولى لأركون كانت بالضبط تكمن في الكشف عن أبعاد النزعة العقلانية والإنسانية في تراثنا وعصرنا الذهبي وكيف انقطعنا عنها للأسف الشديد بعد الدخول في عصور الانحطاط التي لا تزال متواصلة حتى الآن. وهذا يعني أنّ الفهم السائد عن الإسلام حالياً في العالم العربي متخلف عن فهم كبار علمائنا وفلاسفتنا في العصر الكلاسيكي قبل ثمانمائة سنة أو حتى ألف سنة. إنّه متخلف عن فهم أبي الحسن العامري والجاحظ والمعتزلة ككل وأبي حيان التوحيدي والفارابي وابن سينا ومسكويه وابن رشد وكل أولئك الذين وفَّقوا بين النقل والعقل، أو بين الإسلام والفلسفة. من جهة أخرى، يرى أركون أنّ السياسة التعليمية التي اتبعت بعد الاستقلال في البلدان العربية هي المسؤولة عن نمو حركات التطرف والإكراه في الدين والتي اكتسحت الساحة مؤخراً كالطوفان الهادر.. فلو أنّ المسؤولين لم يوكلوا مهمة تعليم الأجيال للتقليديين والسلفيين المنقطعين عن حركة العلم والعقل لما حصل كل ما حصل لاحقاً. وأكبر دليل على ذلك ما حصل في الجزائر التي استقبلت بعد الاستقلال الكثير من الأصوليين المصريين الحاقدين على عبد الناصر والحداثة الفكرية والسياسية. فكان أن حصدت بعد عشرين سنة فقط كل ذلك التيار الهادر من جبهة الانقاذ والجماعة الإسلامية المسلحة والحروب الأهلية.. وبالتالي فلولا انعدام السياسة التحديثية فيما يخص الثقافة والبحث العلمي وبرامج التربوية والتعليم لما حُرم الإسلام من حصول تطور إيجابي مشابه لما حصل في المسيحية الأوروبية. فالفكر التحريري أو المحرِّر للعقول هو ابن الحداثة في نهاية المطاف. وقد آن الأوان لأن يتوصل العالم الإسلامي إلى الحداثة ولأن يقبل بفتوحاتها وانجازاتها الإيجابية من دون قيد أو شرط مع طرح شططها وسلبياتها وانحرافاتها جانباً بطبيعة الحال. لهذا السبب يدعو محمد أركون إلى التحرير الثاني للمغرب الكبير ولكل العالم العربي الإسلامي بدون استثناء. فما الذي يقصده بالتحرير الثاني؟ إنّه يقصد ما يلي: لقد انتهت مرحلة التحرير الخارجي ضد الاستعمار وبقي علينا أن نقوم بالتحرير الداخلي ضد التخلف وسوء التنمية والجهل والتعصب الأعمى والفهم الخاطئ للدين. بمعنى آخر: لقد انتهت مرحلة الجهاد الأصغر وابتدأت مرحلة الجهاد الأكبر، أي الجهاد ضد الذات وضد انحرافاتها ونقائصها واعوجاجها وتأخّرها. وأنا هنا أحب ان أطرح هذا السؤال: هل من قبيل الصدفة أن يكون هذا البلد الصابر المجاهد – الجزائر – الذي دفع أكبر ثمن للتحرير الخارجي من الاستعمار الفرنسي – ثورة المليون شهيد – وأكبر ثمن للتحرير الداخلي مائة ألف قتيل أو شهيد إبان السنوات العشر السوداء لا أعادها الله.. أقول هل من قبيل الصدفة أن يكون هذا البلد العظيم هو الذي أنجب أكبر مفكّر في تاريخ الإسلام منذ ابن رشد وحتى اليوم؟ لا أعرف. كل ما أعرفه هو أن تحريرنا من الوعي الخاطئ والتصورات الأسطورية اللاتاريخية عن تاريخنا وتراثنا كان الشغل الشاغل لمحمد أركون على امتداد نصف قرن من البحث والعمل والنضال الفكري العميق، ولا يزال. فما لم يحصل فهمٌ عقلاني للدين الإسلامي، فهمٌ يُصالح ما بين العلم والإيمان أو ما بين الفلسفة والدين، كما فعل ابن رشد في وقته، فلا حل ولا خلاص. انظر كتابه الشهير: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال. آنذاك استطاع ابن رشد أن يحقّق المصالحة بين تراثنا الإسلامي العريق وبين الفلسفة الارسطوطاليسية التي كانت تشكّل الحداثة الفكرية بالنسبة لذلك الزمان. وهو نفس المشروع الذي يحاول محمد أركون أن يحقّقه حالياً مع الأخذ بعين الاعتبار الفجوة الزمنية الشاسعة التي تفصل بين عصرنا وعصر ابن رشد ومسكويه والجاحظ والتوحيدي وأبي الحسن العامري وكل التيار الإنساني العقلاني الذي ازدهر يوماً ما في أرض الإسلام قبل أن ينقرض ويموت بموت الفلسفة الكلاسيكية. فابن رشد توفي عام 1198 وتفصل بالتالي بيننا وبينه مسافة ثمانية قرون على الأقل. وفلسفة أرسطو لم تعد كافية. هذه أقل ما يمكن أن يُقال. فهناك فلاسفة كبار ظهروا بعده وبعد موت ابن رشد وتوقف الفكر الفلسفي عندنا في الجهة الإسلامية. يكفي أن نذكر من بينهم: ديكارت وكانط وهيغل وماركس ونيتشه وفرويد وهيدغر وكل أقطاب الفلسفة المعاصرة وبخاصة فلسفة الدين وتوسيع فهمنا أو إدراكنا له. يُضاف إلى ذلك أن أركون يطبِّق مناهج العلوم الإنسانية على تراثنا العربي الإسلامي لإضاءته من الداخل بكل تمكن واقتدار وبشكل لم يسبق له مثيل حتى الآن. فكتابه قراءات في القرآن مثلاً، يبتدئ أوّلاً بتطبيق المنهج الألسني الحديث يتلوه المنهج التاريخي فالمنهج الاجتماعي السوسيولوجي فالمنهج الانتربولوجي وأخيراً التقييم الفلسفي الشامل. وهكذا يمكن الإحاطة بالنص الديني أو بالظاهرة الدينية من كل جوانبها.. وعندما نطَّلع على كل ذلك ونستوعبه جيِّداً ندرك مدى الفرق بلين الفهم العقلاني الحديث للدين وبين الفهم التقليدي الجامد المسيطر على عقولنا والمكرور منذ مئات السنين. لا يمكن أن نتحرر من النزعة المذهبية والطائفية التي تهدّد العراق وغير العراق بالتفكك والحروب الأهلية والتفجيرات العمياء والمجازر الجماعية إلا إذا خرجنا من هذا الفهم الظلامي الطائفي القروسطي للدين وتبنّينا الفهم العقلاني المتسامح الحديث الذي يبلوره أركون حالياً بالإضافة إلى بعض المفكرين الآخرين داخل العالم الإسلامي وخارجه. لهذا السبب بالذات أمضيتُ كل تلك السنوات الطوال في ترجمة نصوصه إلى العربية وشرحها والتعليق عليها. كُنتُ أعرف مسبقاً أننا سنصل إلى هنا وأن مشاكل المجتمعات العربية أو الإسلامية سوف تنفجر في وجوهنا دفعة واحدة كالقنابل الموقوتة، وهذا ما حصل بالفعل لاحقاً. وبالتالي فالمسألة ليست مسألة أكاديمية فقط وإنما هي مسألة حياة أو موت، وجود أو عدم وجود. بعد أن وصلتُ في الحديث إلى هذه النقطة سوف أقول ما يلي: لن نتوصل إلى تحقيق المصالحة بين الإسلام والحداثة إلا إذا قمنا بغربلة نقدية شاملة وراديكالية لموروثنا القديم كما فعلت الأمم المتقدمة في أوروبا بالقياس إلى أصوليتها المسحية التي لم تكن تقل عنفاً وجبروتاً وظلاميةً عن أصوليتنا الحالية. فتوماس توركمادا، صاحب محاكم التفتيش الاسبانية المرعب الشهير، لم يكن يقلُّ دموية عن الزرقاوي أو بن لادن، وهناك غيره كثيرون في تاريخ الغرب.. لهذا السبب قلتُ: ينبغي أن نكنس أمام بيتنا أوّلاً، لا أن نلقي بالمسؤولية دائماً على الخارج لكي نعفي أنفسنا من المسؤولية. هذا موقف غير مسؤول ولن يؤدي إلى أي نتيجة ولكنه شائع للأسف لدى العديد من المثقفين العرب أو أشباه المثقفين. بهذا المعنى فإن فكر أركون يقدّم نفسه كبديل عن الفكر الأصولي الماضوي الانغلاقي الذي يسيطر الآن على مدارسنا وجامعاتنا وليس فقط على معاهدنا التقليدية وكليات الشريعة عندنا. بل إنّه يسيطر على الشارع العربي من المحيط إلى الخليج، هذا ناهيك عن الشارع الإسلامي ككل من المغرب الأقصى إلى الباكستان. وبالتالي فالمسألة كبيرة وضخمة إنها مسألة القرن الحادي والعشرين بدون أدنى شك. وميزة مشروع أركون على كل المشاريع الأخرى التي اكتسحت الساحة العربية مؤخراً هي أنّه يواجه المشاكل الحارقة وجهاً لوجه ولا يتحاشاها. إنّه يريد أن يُدخل الحداثة إلى ساحة الفكر الديني نفسه وليس فقط إلى ساحة الثقافة بشكل عام. فالمماحكة الكبرى التي جرت بين العقل الديني والعقل الفلسفي أو العلمي على مدى القرون الأربعة الماضية هي التي صنعت مجد أوروبا والغرب. يُضاف إلى ذلك انّ الحداثة لا تكون فقط باستيراد الآلات التكنولوجية أو المخترعات الحديثة. فتحديث العقلية الفردية والجماعية هو الأصل وما الآلات والمخترعات إلا نتيجة لذلك أو تحصيل حاصل. وبالتالي فلا يمكن الفصل بين الحداثة المادية والحداثة العقلية كما يتوهم المحافظون التقليديون عندنا. فالحداثة إما أن تكون كاملة، متكاملة، أو لا تكون. وقد أخطأنا كثيراً عندما سلّمنا تعليم الشبيبة بعد الاستقلال للمنغلقين فكرياً والمناهضين لكل أنواع الحداثة الفكرية والعقلية، وجنينا الثمر المرّ لاحقاً. وبالتالي فالمهمة الأصعب لا تزال أمامنا: تفكيك التعليم القروسطي التقليدي للدين وإحلال التعليم الحديث محله على كافة الأصعدة والمستويات من المدرسة الابتدائية وحتى الجامعة. هذا هو بحسب فهمي جوهر المشروع الأركوني منذ نصف قرن وحتى اليوم. وكل معاركه الفكرية التي خاضها تدور حول هذه الجبهة بالذات. فهو يقدم تأويلاً جديداً للتراث الإسلامي غير التأويل التقليدي الراسخ رسوخ الجبال. ولكن لا أعتقد أنّ فكره سوف ينتصر في العالم الإسلامي قبل عشرين أو ثلاثين سنة قادمة، وذلك لأن زحزحة الجبال أسهل من تغيير العقليات! فأنت لا تستطيع أن تناضل ضد ألف سنة من الجمود العقائدي الفكري وتنتصر بين عشية وضحاها. المصدر: كتاب الهوامل والشوامل حول الإسلام المعاصرمقالات ذات صلة
ارسال التعليق