• ٤ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

جماليات الأسلوب في النثر العربي

د. قحطان صالح الفلاح

جماليات الأسلوب في النثر العربي

الحقّ أنّه ليس ثمّة مذهب أو اتجاه أسلوبّي بعينه، غلب على نصوص نثرنا العربي القديم عامة؛ إذ كان الأدباء ينّوعون مستويات أدائهم ضمن النصّ الواحد أحياناً، وفقاً لمقتضى الحال. ومن المعلوم أن القيمة الفنيّة للنصوص النثرية تتفاوت؛ إذ إنّ مفهوم الفنية نسبّي، يأخذ كلّ نصّ منه بمقدار، لذا فإنّ الأحكام أميل إلى التغليب والتعميم، بحسب التيّار السائد، أو الاتجاه العام. فالأساليب تتنوّع باختلاف الأنواع؛ ولكلِّ نوع أدبيّ رسومه وتقاليده الفنية والأسلوبية، التي ينبغي أن يُلتزم بها، بحسب ما عبّر عنه القدماء بـ(مقتضى الحال). فضلاً عن أن القيمة الفنية لأسلوبٍ ما، أو سمة بلاغية معيّنة، ليست مطلقة، بل تبدو ضمن السّياق الذي وردت فيه، من خلال تآزر عناصر النصّ وتلاحمها، شكلاً ومضموناً، لفظاً ومعنىً، جوهراً وعَرَضاً. ويمكن الزّعم أن ثلاثة مذاهب فنية تجلّت على نحو واضح في أسلوب نثرنا العربي القديم عامة، وسنقصر الحديث في هذا المقام على نثر العصر العباسي إلى نهاية القرن الرابع على وجه التقريب.

1-المُرْسَل (أو المُطْلَق):
هو مذهب الطّبع، ومجاراة السَّجيّة، "وهو الذي يُطلق فيه الكلام إطلاقاً، ولا يقطع أجزاء؛ بل يُرسل إرسالاً، من غير تقييد بقافية ولا غيرها"، كما يقول ابن خلدون. ويُعرف بالأسلوب السّهل الممتنع، ويقوم على متانة السّبك، وقوّة التراكيب، وإجلال المعنى، والتعبير السّهل، الذي تطول فيه الجملة بطول الفواصل الفكرية، وتقصر بقصرها. كما يمتاز أيضاً بوضوح النزعة العقلية، والعناية بالتفصيل والشرح وتبيان دقائق المعاني، وسعة الأفق في إعمال التفكير.
ويرى ابن خلدون أيضاً، أنّ "المحمودَ في المخاطبات السّلطانية الترسّلُ؛ وهو إطلاق الكلام، وإرساله من غير تسجيع، إلا في الأقل النادر، وحيث ترسله المَلَكة إرسالاً من غير تكلّفٍ له، ثم إعطاء الكلام حقّه في مطابقته لمتقضى الحال؛ فإنّ المقامات مختلفة، ولكلّ مقامٍ أسلوب يخصّه من إطناب، أو إيجاز، أو حذف، أو إثبات، أو تصريح، أو إشارة وكناية واستعارة". والحقّ أنّ تيّار النثر المرسل كان واضح المعالم في كثيرٍ من فنون النثر، ومنها المخاطبات السّلطانية، التي تشمل الرّسائل الرّسمية خاصّة. ومن ذلك ما كتبه المعتصم، حين وليَ الخلافة، إلى عبد الله بن طاهر بن الحسين، فقد قال: "عافانا الله وإيّاك، قد كانت في قلبي هَنَات، غَفَرَها الاقتدار، وبقيت حَزَازَات، أخاف منها عليك عند نظري إليك؛ فإن أتاك ألفُ كتابٍ أستقدمك فيه، فلا تقْدم، وحَسْبُك معرفةً بما أنا مُنْطوٍ لك عليه إطْلاعي إيّاك على ما في ضميري منك، والسّلام".
وأكثر ما يُستخدم الأسلوب المُرسل في ميدان النثر التأليفي، والوصايا، والمحاورات، والمناظرات، والسّرد القصصي، وخاصة في كتاب (كليلة ودِمنة). وهو أسلوب ابن المقفّع المؤثر لديه، في عموم كتاباته، وأحسبه عَنَاه حينما سُئِل عن البلاغة، فأجاب: "التي إذا سمعها الجاهل، ظنّ أنّه يُحسن مثلها". والمظنون أنّ إيثار هذا الأسلوب، في كثيرٍ من الأحيان، يعود إلى إطلاق حركة الفكر والعقل من أيّ عقالٍ، قد يشدّهما، ويعطّل حركتهما. ولهذا تكون الوظيفة الإبلاغية، أو المعرفية، هي الغاية الأساسية التي ينشدها الأديب في المقام الأوّل، ولا يعني هذا الكلام إهمال الوظيفة الجمالية، أو الانفعالية، في النّصوص؛ إذ ليست هذه الوظيفة في ظاهر النصّ اللفظي أو المعنوي فحسب، بل هي كامنة في نسِيج النصّ الأدبي، وما ينضوي في إهَابه من قيم جمالية، ودلالات إيحائية وحضارية عميقة.

2- المُتَوازن (أو المزدوج):
يقوم هذا الأسلوب على تقسيم العبارات، وبراعة الموازنة بين الجمل؛ إذ تتعادل فيه الألفاظ، وتزدوج الجمل في تنسيقٍ منتظم، يتراوح بين الإيجاز والمساواة والإطناب، بحسب مقتضى الحال. وهو شبيهٌ بالسَّجع في تعادل الفقرات، إلا أنّه لا يتقيّد بالتَّقْفِيَة. وقد يُسمّى عند البلاغيين العرب بالسّجع المتوازن، أو العاطل، أو الازدواج، أو الموازنة. وفي تعريف الموازنة، يقول القزويني (ت 739هـ): "هي تساوي الفاصِلَتين في الوزن، دونَ التَّقْفِيَةِ"، نحو قوله تعالى: (وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) (الغاشية/ 15-16). والتوازن أو الازدواج. لدى القدماء. في مستويات متباينة، يفضل بعضها بعضاً، في الرّونق وحُسْن التعبير.
وفي هذا الأسلوب يتجلّى بوضوح التفنن في صياغة العبارة، والدّقة في تأليفها: لتعطي إيقاعاً موسيقياً، وجرساً صوتيّاً محبّباً. وفي جماليات التوازن يرى ابن الأثير أنّه قِوام البلاغة؛ لأنّه أقرب إلى الاعتدال، "وللكلام بذلك طلاوة ورَوْنَق، وسببه الاعتدال؛ لأنّه مطلوبٌ في جميع الأشياء. وإذا كانت مقاطع الكلام معتدلة وقعت في النفس موقع الاستحسان، وهذا لا مِراءَ فيه لوضوحه".
وللتوازن وظيفة إيقاعية بيّنة، من خلال تلوين التعبير، والترادف المعنوي، وروعة التناغم والتناسق والانسجام بين القرائن، أو العبارات، في مماثلة غير مقصودة للأشطر الشعرية. وهذا التناسق يتمثّل في تداعي أجزاء الكلام وتجاوبها، كما هي الحال في الموسيقا؛ إذ تتكامل النغمات مع بعضها، فيحصل الإيقاع الموسيقيّ، من دون رتابةٍ أو تواتر في النغم، كما في الشعر. فالتوازن في منزلة وسطى بين الأسلوب المُرسل المُطلق، والأسلوب المسجّع المقيّد، أو بين مذهب الطبع والتصنيع. وقد ساد هذا الأسلوب في النثر العربي، منذ أواخر العصر الأموي، واعتمده أبرز كتّاب النثر الفني، كعبد الحميد الكاتب، وسهل بن هارون، والجاحظ، والتوحيدي، وغيرهم كثير. ولا نعني بهذا الكلام أنّهم لم يستخدموا الأساليب الأخرى في كتاباتهم، ولكنّه كان الاتجاه الذي غلب على أدبهم وعُرفوا به.
وقد عدّ العسكريّ التوازن أو الازدواج من حميد صفات النثر البليغ؛ إذ "لا يحسنُ منثور الكلام، ولا يحلو حتى يكون مزدوجاً، ولا تكاد تجد لبليغٍ كلاماً يخلو من الازدواج، ولو استغنى كلامٌ عن الازدواج لكان القرآن؛ لأنّه في نظمه خارجٌ من كلام الخَلْق، وقد كثر الازدواج فيه حتى حصل في أوساط الآيات، فضلاً عمّا تزاوج في الفواصل منه".
وفي نصوص النثر الفنيّ نجد أنّ أسلوب التوازن والازدواج يزاحم الأسلوب المُرسل؛ إذ لا يكاد يخلو نصّ منه، خاصّة في الرّسائل والخطب. وقد التزمه سهل بن هارون في أدبه عامّة، وفي كثيرٍ من رسائله، وقلّما نجد له رسالة تخلو منه، ففي رسالة البخل، نقرأ: "ولا ليس من أصل الأدب، ولا في ترتيب الحُكْم، ولا في عادات القادة، ولا في تدبير السَّادة، أن يستوي في نفيس المأكول، وغريب المشروب، وثمين الملبوس، وخطير المركوب، والناعم من كلِّ فنّ، واللبُّاب من كلِّ شكل، والتابعُ والمتبوع، والسَّيّدُ والمسُود".
ويبدو من هذا الكلام. كما يرى شوقي ضيف. أنّ "الألفاظ تتوازن، لكنْ لا في شكل سجعٍ، بل في شكل تقطيعات دقيقة، وكأنّي بسهلٍ لم يكن يعمد إلى أداء أفكاره بلفظٍ فصيحٍ فقط، حتى تستقيم لأسلوبه فنونٌ من الجمال المادي الذي يخلُبُ سامعيه، كي يؤثّر في وجدانهم وعواطفهم، بجانب ما يؤثّر به في عقولهم من حجاجه وجدله، والتماسه للبراهين والأدلّة على أفكاره".
ومن نماذجه في الرّسائل أيضاً قول الأمين في رسالةٍ إلى المأمون، يستقدمه فيها إلى بغداد: "وعَلِمَ أميرُ المؤمنين أنّ مكانك للفيء، وأردّ على العامّة، من مقامك ببلاد خراسان، (...). فاقْدَمْ على أمير المؤمنين، على بركة الله وعونه، بأبسط أملٍ، وأفسح رجاء، وأحمد عافية، وأنفذ بصيرة،...". ومن الخُطب، قول عبدالملك بن صالح العباسيّ، لأهل الشام: "فقاتلكم الله، أنّى تُصرفون! جُثَثٌ مائلة، وقلوبٌ طائرة، تَشُبُّون الفِتَن، وتُوَلُّون الدُّبُر؛ إلا عن حُرَمِ الله؛ فإنّها دَرِيْئَتُكم، وحُرَم رسوله؛ فإنّها مغزاكم"! ومن العهود قول طاهر بن الحسين في عهده المشهور. الذي راوح في أسلوبه بين المذهب المرسل، والمتوازن، والمسجّع. لابنه عبدالله: "ولا تحقِرنّ ذَنْباً، ولا تُمَالِئنّ حاسداً، ولا ترحمنّ فاجراً، ولا تصِلنّ كفوراً، ولا تُداهننّ عدوّاً، ولا تُصدّقنّ نمّاماً، ولا تأمننّ غدّاراً، ولا تُوالينّ فاسقاً، ولا تَتّبعنّ غاوياً، و...". ومن الوصايا، قول المنصور لابنه المهديّ: "فالسّلطان. يا بُنَيَّ. حَبْلُ الله المتين، وعُرْوَتُه الوُثقى، ودين الله القيِّم، فاحْفَظْه، وحُطْهُ، وحَصِّنْه، وذُبَّ عنه، وأوْقِع بالمُلْحِدين فيه، واقْمَع المارقين منه، واقتل الخارجين عنه".
ويتراءى للباحث أنّ سِمات الرجوع إلى الذات، والمحاكمة العقلية، والتفكير المنطقي الدقيق، تبدو بوضوح في استخدام أسلوب التوازن والازدواج، فضلاً عن التأنّق في انتقاء المفردات، التي تعبّر عن المعاني الجزئية تعبيراً دقيقاً، يجلو المعنى في الذّهن، ويؤكّده في النفس. أضف إلى ذلك سِمة الحرص على الإيقاع الموسيقي وانبعاثه في الكتابة؛ منتظماً في تموّجاته، أو مترجّحاً بين الشدّة والضعف، من خلال الانتقال من عبارات مزدوجة، إلى أخرى مثلها، لها جرس صوتي آخر، يتناغم على نحوٍ تصاعديّ؛ بتدرّج الجمل من القِصَر إلى الطّول، أو على نحوٍ تنازلي، بانتقال الجمل من الطّول إلى القِصَر، أو يتناسق من خلال توازن الجمل وتعادلها.
وممّا لا مِراء فيه، أنّ استخدام أسلوب التوازن ليس مطّرداً في كلِّ فنون النثر، أو في بعضها؛ إنّما يُؤتى به بحسب ضرورة المقام. وأغلب الظنّ أنّ الكُتّاب والخطباء وسواهم يستوحون أسلوب القرآن الكريم في ذلك، وخاصّة في السّور القرآنية المكيّة. في الأعّم الأغلب. ذات الآيات القِصار. وممّا يُلحظ أنّ هذا الأسلوب سِمة بارزة وغالبة عند بعض الكتّاب، دون بعضهم الآخر، كما هي الحال عند سهل بن هارون والجاحظ والتوحيدي مثلاً. وكذلك في بعض النصوص، دون غيرها.

3- المُسَجّع (أو المقيّد):
من المعلوم أنّ العرب عرفوا فنّ السّجع منذ العصر الجاهلي، وكان حِلية مؤثرة لديهم، ازدانت بها عبارات الكهّان، ووصايا الحكماء، وخطب الخطباء الأبّيناء، وغيرها من فنون القول، التي كانت سائدة يومئذٍ، كالأدعية، والتعاويذ، والأمثال، وغيرها. والسّجع في عُرف البلاغيين القدماء هو: "تواطؤ الفواصل في الكلام المنثور على حرفٍ واحد". ومن أنواعه: المرصّع، والمتوازن، والعاطل، والمُشَطَّر، والمُطَرَّف. وهو. كما يقول ابن وهب. من أوصاف البلاغة "في موضعه، وعند سماحة القول به، وأن يكون في بعض الكلام، لا في جميعه؛ فإنّ السّجع في الكلام كمثل القافية في الشعر، وإن كانت القافية غير مُسْتغنى عنها، والسّجع مستغنى عنه، فأمّا أن يلزمه الإنسان في جميع قوله ورسائله، وخطبه، ومناقلاته، فذلك جهلٌ من فاعله، وعِيٌّ من قائله".
وقد جاءت آياتٌ بيّنات عديدة في القرآن الكريم مسجوعة، وفي أحاديث المصطفى (ص) أيضاً، بَيْدَ أن بعض القدماء، ولاسيّما القاضي الباقلاني (ت 403هـ)، سمّوا نهاية الآيات فاصلة؛ لقوله تعالى: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) (فصلت/ 3)؛ من أجل أن يكون هناك فرقٌ بين سجع البشر، وآيات الله. إلا أنّ أكثر البلاغيين يسمّون هذا الفنّ سجعاً، سواء أكان في القرآن الكريم أم في غيره، يقول ابن الأثير عن وجود السّجع في القرآن: إنّ "معظم آياته جارية على هذا النهج، حتى إنّه لا تخلو منه سورة من السّور، ولقد تصفّحته فوجدته لا يكاد يخرج منه شيء عن السّجع والموازنة".
وأيّاً ما كان، فإنّ السّجع من سمات الكتابة الفنية، ومن محاسن أساليبها؛ ما لم يكن فيه "استكراهٌ وتنافرٌ وتعقيد"، كما يقول العسكريّ. وقد ورد في عِدّة نصوص من نثر العصر العباسي الأول، بل غلب على بعضها، على نحوٍ كلّي، وخاصّة في الرّسائل، والخطب، والعهود، والتوقيعات، والوصايا، والحكم والأقوال المأثورة. إلا أنّ مجيء السّجع فيها لم يكن مظهراً من مظاهر التصنّع والتكلّف والتعنّت في الصياغة، كما هو الشأن في كثيرٍ من نصوص القرن الرابع الهجري وما تلاه؛ إذ التزمه جُلّ الكتّاب في الجِدِّ والهَزْل. في حين لم يكن ورود معظمه إلى نهاية القرن الثالث مستكرهاً ممجوجاً، بل كان سمةً من سمات الصنعة الفنية، وعنصراً أسلوبيّاً بارزاً، يستمدّ قيمته المعرفية والجمالية من السّياق الذي ينتظم فيه، وليس من قيمة بلاغية مطلقة.
ونعطف زِمَام القول، مرّة أخرى، إلى آراء البيانيين والنقّاد العرب، في محاولةٍ لتأكيد ما نذهب إليه أوّلاً، ولتبيان جمالية السّجع ووظيفته التعبيرية ثانياً؛ إذ رأوا أنّ حسن السّجع يكمن في خلوّه من التكلّف والتعسّف،وأن يكون اللفظ فيه تابعاً للمعنى، وبريئاً من الابتذال وضعف الدلالة، فإذا كان المعنى تابعاً للسّجع فإنّ ذلك يقيّد الفكر، ويعطّل حركة العقل عن التعبير بحريّةٍ وطلاقة ويُسْر. وفي هذا يقول عبد القاهر الجرجاني (ت 471، أو: 474هـ): "لا تجد تجنيساً مقبولاً، ولا سَجْعاً حسناً، حتى يكون المعنى هو الذي طلبه واستدعاه، وساق نحوه، وحتى تجده لا تبتغي به بدلاً، ولا تَجِد عنه حِوَلاً". وأجود أنواع السّجع ما امتاز بقصر ألفاظه، وتعادلها؛ لقرب الفواصل من سمع السامع، ويتألف من لفظتين لفظتين، وقد يصل إلى العشرة، كما يرى ابن الأثير. ومِثاله قوله تعالى: (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا) (المرسلات/ 1-2)، وما وصل إلينا من النثر المسجوع، في معظمه، إلى نهاية القرن الثالث الهجري، لا يعدو طور السّجع القصير. بحسب تقسيم ابن الأثير. ومن ثمَّ يصبح أقرب، في السّماع، إلى ميدان الإدراك الجمالي، من السّجع الطويل الفقرات. والرّاجح أنّ الكُتّاب والخُطباء خاصّة يستهلمون أسلوب القرآن الكريم في ذلك.
فالسّجع، إذن، ليس من المحسّنات اللفظية، المقصودة للزخرفة والزينة فحسب. كما صنّفه بعض البلاغيين المتقدّمين منهم والمتأخرين. بل هو قيمة جمالية يتطلّبها المعنى؛ إذ هو جزءٌ من بنية النصّ ونسيجة، شأنه شأن كثير من المحسّنات اللفظية، كما تُسمّى، إن لم نقل كلّها. فليست غايته مقصورة على الوظيفة الجمالية، ممثّلة في التناغم الموسيقيّ الحاصل من التزام التقفية، وتعادل العبارات المسجوعة، أو لنقل: تناظر العناصر الصوتية على نحوٍ كلّي أو جزئيّ، وإنّما لغايات فكريّة وفنيّة معاً.
ومن نماذج الأسلوب المسجّع في نثر العصر العباسيّ الأوّل خاصة، ما ورد في خطبة محمّد (ص) (النّفس الزكيّة) من آل علي (ع)، حينما خرج على الخليفة المنصور؛ إذ قال: "... وإن أحقّ النّاس بالقيام بهذا الدّين، أبناء المهاجرين الأوّلين، والأنصار المُواسين، اللّهمّ إنّهم قد أحلّوا حرامَك، وحرّموا حلالَك، وأمّنوا مَنْ أخَفْتَ، وأخافوا مَن أمّنتَ! اللهمّ فَأحْصِهم عَدَداً، واقتلهم بِدَداً، ولا تُغادر منهم أحَداً"! وممّا يمكن قوله، ههنا، إنّ السّجع كثيراً ما يقرن بالخطب التي يكون موضوعها التهديد والوعيد، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الرّسائل السياسية خاصة؛ إذ يحاول المرسِل بثّ الرّعب في نفس المرسَل إليه، والتلويح بقوّته وشدّته، والمصير الذي سيؤول إليه عدوّه، لذا يلجأ إلى السّجع الذي يناسب مقام التهديد والوعيد. ونمثّل ههنا على إيثار السّجع في مقام التهديد، برسالة عبد الله بن طاهر بن الحسين، إلى نصر بن شبث، الذي خرج على الدّولة، واعتصم بأحد الحصون، وفيها يقول: "إعتصامُك بالقِلال، قَيَّدَ عَزْمَك عن القتال، والتجاؤك إلى الحُصُون، ليس يُنْجِيك من المَنُون، ولَسْتَ بِمُفْلِتٍ من أميرِ المؤمنين، فإمّا فارسٌ مُطَاعِنٌ، أو راجِلٌ مُسْتأمِنٌ". قيل: إنّه لمّا قرأ الرّسالة حَصَرَه الرّعب، فلم يلبث أن طلب الأمان صاغراً. فليست الغاية فنيّة فحسب في هذا المضمار، بل ترهيب المُرْسَل إليه، من خلال الجرس الإيقاعيّ، والتوازن الصوتيّ للتسجيعات؛ ليقترن إيقاع الحرب بإيقاع الكلمات. وهذا يذكّرنا أيضاً بالمنافرات الجاهلية، إذ كانوا يحكُمون وينفّرون بالأسجاع، كما يقول الجاحظ. وهنا أورد ما قاله مصطفى ناصف. في سياق حديثه عن مقاصد الجاحظ من كلامه عن الأسجاع. يقول: "فالأسجاع تُورث المهابة، وتساعد على التحكّم، وتحفظ السّيرورة، والمتكلّم بالسّجع يخيّل إليه أنّه أحاط بالغائب والحاضر. الأسجاع تساعد على نموِّ الذاكرة، فالأسجاع لبّ الثقافة الشّفهية، تساعد على تقييد الكلام، وقلّة التفلّت، وهي تشبه في هذا فنّ الصّيد، الذي يذكّرنا بعبارة امرئ القيس المشهورة عن تقييد الأوابد، فالعبارة الحرّة آبدة تتفلّت، ولا يقيّدها إلى السّجع. العبارة المسجوعة توحي بنوعٍ من البطولة (...)، ربّما كانت السّجاعة مطلباً، يروض النّاس أنفسهم عليه؛ ليكبروا في أعين النّاس. ارتبط السّجع في الثقافة الشفهية بالدّهاء والفطنة، واللّسن، واللّقن، والجواب العجيب، والأمثال السّائرة، والمخارج العجيبة".
وكثيرٌ من التوقيعات مسجوعة أيضاً، وتتمّ على حرارة العاطفة، وهيمنة اللفظ المسجوع، وبلاغة الإيجاز والإعجاز، كما تدلّ في الوقت ذاته على صرامة الموقّع في إصدار الحكم، ودقّة ملاحظته، كما في توقيعات جعفر بن يحيى البرمكي، ومنها قوله في قصّة عاملٍ شكاه النّاس: "قد كَثُرَ شاكوك، وقلّ شاكروك؛ فإمّا اعتدلت، وإمّا اعتزلت". وفي هذا السياق، نذكر أنّ البرامكة. كما يقول شوقي ضيف: "من أهمّ العوامل في شيوع السّجع في الكتابة الدّيوانية، وحقّاً، أنّه لا يطّرد دائماً في كتاباتهم. ولكن نحسُّ ميلهم الواضح له، هم وبعض كُتّابهم، ومَنْ كانوا يكتبون إليهم".
وممّا يمكن الإشارة إليه أيضاً، أنّ أغلب النصوص يتنوّع أسلوبها بين المُرسل والمتوازن والمسجّع، ممّا يحدث تنويعاً في الصياغة اللفظية، وفي بعضها يُستعمل السّجع في الصدور والخواتيم فحسب؛ وذلك لاستمالة المتلقّي إلى مضمون النصّ، وتَرْك أثرٍ بيّن في نفسه؛ وللتفريق بين أجزاء البنية المعمارية للنصّ، من مقدّمة أو تصدير، وعرض، وخاتمة. وأحياناً ينوّع الكاتب أسلوبه في أجزاء النصّ كلّه، بحسب الموضوع. ولعلّ حضور عنصر الأداء الخطابيّ في ذهن الكاتب، دون الخطيب، وعلى نحوٍ ضمنيّ غير مباشر، في أغلب الأحايين، سببٌ في تنويع الأساليب ضمن النصّ الواحد، وتحديد المستوى اللغوي والأسلوبي والصّوتي للخطاب القديم. وقد كانت نصوص عديدة من النثر تُقرأ على الملأ، كبعض الرّسائل السياسية والعهود والبيانات والتوقيعات وغيرها، وكان للبيان الشّفهي منزلة عظيمة في نفوس العرب حتى عهد قريب. وربّما مازال أثر ذلك البيان مسيطراً على الذّوق العربي إلى الآن، وهذا ما يبدو في الميل إلى تحبير الخُطب وتنميقها، والتأثّر بها. انفعاليّاً. إلى مدى غير يسير!! وقد قيل: إنّ "الرسائل والخُطب متشاكلتان في أنّهما كلامٌ لا يلحقه وزنٌ ولا تقفية، وقد يتشاكلان أيضاً من جهة الألفاظ والفواصل، فألفاظ الخطب تشبه ألفاظ الكُتّاب في السّهولة والعذوبة، وكذلك فواصل الخطب مثل فواصل الرّسالة... والفرق بينهما أنَّ الخطبة يُشافه بها بخلاف الرّسالة، والرّسالة تُجعل خُطبة، والخُطبة تُجعل رسالة في أيسر كُلْفة". وليس الأمر بهذا القدر من التيسير، ولكنّ "النصّ الترسّلي القديم يحمل في أحشائه من آليات الخطاب الشفاهي بأكثر ممّا يحمل من آليات النصّ الكتابي".
وصفوة القول إنّ المرءَ لا يشعر إزاء استخدام الكُتّاب والخطباء السّجعَ في نصوصهم بشيء من التعمّل والاجتلاب، بل أتَوْا به. في الغالب. على مقتضى الطبع والسّليقة، من غير أن يتكلّفوه تكلّفاً، أو يجعلوه غايتهم وهِجِّيراهم، ولا نعني بذلك أنّهم لم يقصدوا إلى الإتيان به قصداً؛ ولكن لتحقيق قيمٍ جمالية وفكرية، وليس حِلْية لفظية تزدان بها نصوصهم. وضرورة الحال في استخدام السّجع، أسلوباً فنيّاً في نصوص تلك الأزمنة. كما قال التوحيديّ: "كالملح في الطّعام؛ فإنّه متى ظُفِرَ منه بمقدارِ الرُّتبة، وحَسَبِ الكفاية، حلا منظره، وبَهَرَ بهاؤه، وسَطَعَ نوره، وانتشر ضياؤه".

المصدر: مجلة المعرفة/ العدد 524 لسنة 2007م

الكاتب: أديب وناقد سوري

ارسال التعليق

Top