• ٣ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الاستغناء يحفظ الكرامة الإنسانية

الاستغناء يحفظ الكرامة الإنسانية
◄قال أمير المؤمنين عليّ (ع): "أحسن إلى مَن شئت تكن أميره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى مَن شئت تكن أسيره".

إنّ هذه الكلمات العظيمة تفلسف شرف وحرية وكرامة الإنسان، ذلك أعظم ما يتجلى به الإنسان، هو العزة والكرامة. ولا يوجد في الحياة قيد أو سجن أكثر مهانة من الإحساس بالأسر والقهر والعبودية للآخرين، حيث تكون إرادة الآخرين أقوى من إرادته، وأن يحتل تفكير الآخرين تفكيره وأن يتخلى عن دوره ليقوم بتنفيذ أدوار الآخرين والخضوع لرغباتهم وأمانيهم بكلّ ذلّة، وهذا أمر يرفضه الأحرار الذي يرجّحون الموت على أن يعيشوا أذلاء في هذه الحياة. يقول الإمام عليّ (ع) في وصيته لابنه الحسن (ع): "لا تكن عبداً لغيرك وقد جعلك الله حراً".

في حرب صفين وعندما التقى جيشا عليّ (ع) ومعاوية قرب الفرات، بادر جيش معاوية إلى الاستيلاء على النهر وحرمان جيش الإمام من الماء وقد استبشر معاوية بذلك واعتبره فتحاً، وعندما وصل الخبر إلى عليّ (ع) بعث له برسالة جاء فيها: إنا سرنا مسيرنا هذا ونحن نكره قتالكم قبل الأعذار إليكم، فقدمت إلينا خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك، ونحن من رأينا الكفّ حتى ندعوك ونحتج إليك، وهذه أخرى قد فعلتموها، منعتم الناس عن الماء، والناس غير منتهين، فابعث إلى أصحابك فليخلّوا بين الناس وبين الماء وليكفّوا لننظر فيما بيننا وبينك وما قدمنا له فإن أردت أن نترك ما جئتنا له ونقتتل على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا.

ولكن معاوية الذي رأى في عمله هذا فتحاً عسكرياً تملّكه الغرور فلم يرعو ولم يتراجع عن غيّه ضارباً عرض الحائط كلّ الاعتبارات الأخلاقية والإنسانية، وهنا توجّه الإمام نحو جيشه واستنهض في أعماق جنوده قيم الحرية والعزّة والشرف بعبارات تلتهب حماساً قائلاً لهم: قد استطعموكم القتال فأقرّوا على مذلة وتأخير محلّة أو روّوا السيوف من الدماء ترووا من الماء، فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين، إلّا وأن معاوية قاد لمّة من الغواة وعمس عليهم الخبر حتى جعلوا نحورهم أغراض المنيّة.

واندفعت قوات الإمام نحو الفرات وما هي إلا لحظات حتى أصبح الماء في قبضتهم، وطلب البعض معاملة معاوية وأصحابه بالمثل وحرمانهم من الماء، ولكن الإمام رفض هذا المنطق قائلاً: خذوا حاجتكم من الماء وخلّوا عنهم فإنّ الله قد نصركم ببغيهم وظلمهم.

لقد فعل الإمام ذلك انطلاقاً من منطقه الإنساني الذي استفتحنا به الحديث وهو: أحسن إلى من شئت تكن أميره واستغن عمن شئت تكن نظيره واحتج إلى من شئت تكن أسيره.

إنّ الحاجة إلى ما في أيدي الناس يعرض الكرامة الإنسانية إلى الخطر في حين تصون القناعة شخصية الإنسان من الذل وتحفظ لها عزّتها وشرفها.

وقد قال الإمام (ع) في مناسبة أخرى: أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع.

وقال (ع) في شعر ينسب له:

لا تطلبن معيشةً بمذلّةً *** وارفع بنفسك عن دنيّ المطلبِ

وإذا افتقرت فداو فقرك بالغنى *** عن كلّ ذي نَفَسٍ كجلد الأجربِ

وقال رسول الله (ص): "ملعون مَن ألقى كلّه على النّاس".

وقال (ص) في حديث آخر: "الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله".►

ارسال التعليق

Top