◄(.. كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ...) (الأنعام/ 54). لا يختلف اثنان في ان التوبة باب واسع من أبواب الرحمة الإلهية للعباد بل هي اعظم إنماء لطفه سبحانه بعباده وبها تزال كل الحجب بين العبد وربه وبها يقترب الله من عبده والعبد من ربه. والملفت للنظر في هذه الآية ذلك الوجوب الذي كتبه الله سبحانه على نفسه بقبول هذه التوبة أياً كانت وقد يقول قائل كلا وإنما المقصود الذنب بجهالة هو الذي يتوب الله سبحانه عليه. قلت نعم ولكن ما هي مصاديق الجهالة. أقول أن الجهل يقابله العلم وبما أنه فوق كل ذي علم عليم يبقى العلم بالمطلق هو مندب من المحال ملازم للإنسان حتى بأدنى نسبة ومن هذا ممكن ان يصدر الذنب من الإنسان بأي مستوى كان، لكن مع الالتفات والتوفيق الإلهي ممكن أن يتلافى الإنسان ذلك الجهل المؤدي إلى اقتراف الذنب. فهذا الوجوب إنما منشأة هذه الحقيقة التي لا بد ان يلتفت إليها كل إنسان.
- كيف تحصل التوبة؟
لحصول التوبة عدة مراحل، أول تلك المراحل هو الشعور بالذنب. فبعد أن يكون العبد قد ارتكبه وإنه تعدى حده وفعل ما لا ينبغي له أن يفعله ولو لا هذا الشعور الذي يكون بالتوفيق الإلهي. لما كان للتوبة مجال لأن معناه القناعة بالعمل واعتباره صواباً أو الغفلة عنه ونسيانه تماماً. وعلى كلا الحالين لا معنى للتوبة.
المرحلة الثانية الشعور بالمسؤولية الاخلاقية للذنب وهو حالة ما يسمى بتأنيب الضمير.
المرحلة الثالثة الشعور والاعتراف بأستحقاق العقوبة على الذنب. لو لم تحصل التوبة وأيضاً الشعور بإمكان ازالة هذا الاستحقاق عن طريق التوبة. وهذا الإمكان هو من الله سبحانه ورحمته على عباده لأنه (من تاب تاب الله عليه). المرحلة الرابعة الشعور بالندم على ما بدر منه من ذنب وهي حالة نفسية وجدانية تتضمن التأسف على الفعل السابق.
المرحلة الخامسة الوعد بأن لا يعود إلى الذنب مرة اخرى وهذه مرحلة ضرورية وإلا كانت التوبة أقرب إلى الاستهزاء منها إلى الصدق.
المرحلة السادسة الإيمان برحمة الله سبحانه وعفوه أو قل الإيمان بما ذكرناه في بداية الآية بأن الله سبحانه كتب على نفسه الرحمة لعباده فليتفت العبد إلى ذلك ويتوقعها من ربه.
المرحلة السابعة طلب توجيه هذه الرحمة إليه وتنفيذ ذلك الوعد الذي قطعه الله سبحانه على نفسه بقبول التوبة وإبعاد النقمة كما في الدعاء "اللهم أفعل بي ما أنت أهله ولا تفعل بي ما أنا أهله" فما يكون العبد أهلا له هو العقوبة وما يكون الرب سبحانه أهلا له هو العفو.
فهذه هي المراحل التي معها تكون التوبة خالصة ومتحصلة فإذا كان العبد يتوب إلى ربه والرب يتوب على عبده فهذا يعني إن كل منهما يطلب سيما إن إذا عرفنا إن التوبة هي الرجوع. فكما يطلب الرب من عبده الرجوع إليه كذلك يطلب العبد من ربه الرجوع إليه والتوبة عليه. كل ما في الأمر إن الفرق بين الرجوعيين ثابت، فرجوع العبد إلى ربه رجوع ذلة وخشوع وتضرع ورجوع الرب إلى عبده رجوع عزة ورحمة ولطف.
كما عرفنا سابقاً (من تاب تاب الله عليه) فإن الله سبحانه مستعد لإجابة طلب عبده وراغب بالتوبة عنه والرجوع إليه، وعندئذ تجتمع الرغبتان وتتوافق الإرادتان في رجوع بعضهما إلى بعض أي العبد والرب فلا يبقى لهذا الرجوع مانع ولا يوجد عنه دافع فيحصل الرجوع والتقارب المعنوي بين التوبة عند المجتمع.!؟
قد يكون هذا غريباً وغير منطقي لأننا كما عرفنا سابقاً بأن التوبة مختصة بين العبد وربه. فما هي علاقة الناس بهذه التوبة؟ يجب إن تعلم بأن الذنوب في أصلها تعود إلى معصية الحق تبارك وتعالى سواء المتعلق منها ما بين العبد وربه أو في ما يتعلق فيما بين العباد بعضهم ببعض، فالتوبة في الشق الثاني إنما تكون متعلقة بارجاع الحق إلى من اساء إليه وكذلك القبول من هذا الإنسان وهذا ما ورد فيه أحاديث كثيرة. لكن إن تحقق كل هذا من العبد التائب فما الذي يبقى؟ في الحقيقة إن الأمر المهم الذي اود طرحه هي نظرة المجتمع للإنسان التائب فالذي اراه سائداً في مجتمعنا هي تلك النظرة السلبية لهذا الإنسان فيبقى متهما في نظرهم حتى وإن تغيرت أقواله وأفعاله نحو إلا حسن مما يسبب الإرباك والعزلة بهذا الإنسان الأمر الذي ربما ينقلب سلبا في انحراف هذا الإنسان من جديد وهذا اثم عظيم لمن ابصر وتمعن فالأولى بالإنسان إن يحاسب نفسه فأن غيره من الأنفس لها حسيب غيره كما ورد عن أمير المؤمنين (ع). ولعل الأمر الأوهن من ذلك هي النظرة المعاكسة واعني بها تلك النظرة إلى الإنسان الذي كان صالحاً في نظرهم ثم اخذته الدنيا شيئاً فشيئاً وبدأت الذنوب تستحوذ عليه فإنه يبقى عندهم منزها وجليلاً ومحترما وعند الله ذليلا مارقا خاسراً. فكم هو من بعد شاسع بين النظرة الإلهية للعبد ونظرة الإنسان الذي جعل نفسه حاكما بلا حاكم ولكن إلى الله ترجع الأمور.
- فضائل التوبة:
قبل ان أختم قولي اود ان أشير إلى بعض فضائل التوبة والتائبين، حيث إن الله أعطى التائبين ثلاث خصال لو اعطى خصلة منها جميع أهل السموات والأرض لنجوا بها، قال تعالى "إن الله يحب التوابين" فمن أحبه الله لم يعذبه. وقوله تعالى "إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فاولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات". فكم هو فائز وناجي من تبدل سيئاته حسنات إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في فضلها. فاستغلوا دعوة مفتوحة من الله تعالى قبل إن يأتي يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ولا غيرهما. ►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق